من هم الأشرار… وكيف التخلص منهم؟
ياسين الحاج صالح
إن شرعنا في البحث عن شرير نحمله مسؤولية أزماتنا السياسية والاجتماعية والفكرية، فلن تستقر أنظارنا في النهاية إلا على جماعات معرفة بهويات ثابتة لا تتغير، دينية أو مذهبية أو إثنية. لا يصلح شريرا من قد يمكن تعريفه بلغة المصالح العارضة أو الانحيازات السياسية أو الخيارات العقلانية إلى هذا الحد أو ذاك. الشرير هو من ينبع شره من ماهيته بالذات، من هويته المتأصلة القارّة، المدونة تفضيليا في دينه أو طائفته أو عنصره. الحزب السياسي أو المنظمة الاجتماعية، الروابط الطوعية بصورة عامة، قلما تناسب كأشرار، بسبب الصفة العارضة والتعاقدية لعضويتها. الشرير هو المسلم أو المسيحي، العربي أو الكردي…، السني أو العلوي أو الدرزي. أما البعثي أو الشيوعي أو الديموقراطي أو الليبرالي… فأقل صلاحية للتشرير، هذا حين لا ينظر إليهم كهويات ثابتة هم أنفسهم، أو حين لا يعتبرون واجهات لهويات كهذه.
في العموم، يشكل البحث عن أشرار وعن الطائفية والنظرة الماهوية إلى المجتمع وجوها لعالم سياسي وثقافي واحد، تقيم فيه قطاعات غير ضئيلة من النخبة السورية. ويصلح حضور منطق الاتهام، الذي لا يرتاح قبل أن يعثر على كيان ينبثق الشر من ماهيته بالذات، مؤشرا على انتشار الطائفية في الوعي العام. فإذا شئنا مقاومة الطائفية في تفكيرنا وسلوكنا وفي الواقع، فلا مناص من التضحية بمتعة الاتهام، والتحول منه إلى النقد، ومن الهويات الثابتة إلى الواقع الاجتماعي المتغير.
وفي الحياة السياسية الثقافية السورية، لا يكاد يكون ثمة موقع فكري وسياسي وأخلاقي يقع خارج نزعة البحث عن شرير أو كبش فداء، فيطور نقدا متسقا لها وممارسات عملية متحررة منها. قد نختلف في من هو الشرير، لكن قلما نختلف على أنه هناك. إنه «هم» وليس «نحن». وأعنف الصراعات هي التي تنشب بين شركاء في التشرير مختلفون في تحديد الشرير. ومألوف أن مشرري طرف هم مبررو نقيضه المفترض. فالتشرير والتبرير وجهان للعالم نفسه.
وكما قد نتوقع، يتغلب هنا نازع البحث عن مسؤولين عن الأوضاع الصعبة على التطلع العقلاني إلى التفسير بالأسباب. فلولا»هم» لكانت الأمور بخير. أما لماذا يفعلون تلك الأشياء الشريرة، فبكل بساطة لأنهم أشرار. بيد أن هذا المنطق لا يخذل مطلب تفسير عقلاني، بل هو يقتل مبدأ المسؤولية ذاته. فإذا كانوا «هم» جميعا أشرار، وإذا كان الشر ينبع من جوهرهم، فإن استئصال هذا الجوهر وتدميره هو العلاج الجذري والصحيح للشر. أما التمييز بين مسؤولين وغير مسؤولين بينهم فيغدو تدقيقا نافلا. فهم «في الجوهر مثل بعضهم»، كما يقول كثيرون بيننا. ليس وجود أبرياء بينـ»هم» هو ما يخفى على هذا الضرب من التفكير، بل بالضبط وجود مجرمين. وإذا ضاع التمييز بين بريء ومجرم، انهار مبدأ المسؤولية رأسا. ووحدهم المجرمون يستفيدون من انهياره.
وهنا بالضبط مشكلة المنطق التخويني الذي استمرأته السلطات السورية حيال معارضيها في الداخل وخصومها في المحيط العربي. إذ يفضي تبذيل مفهوم الخيانة برفعه في وجه كل معترض وناقد إلى تبذيل مفهوم الوطنية نفسه. ووحدهم من يحتمل أن يكونوا خونة فعلا يستفيدون من التلاعب قصير النظر بهذه التهمة المطلقة وجعلها مطاطة ونسبية جدا. وإذا أضحت الخيانة شيئا مبتذلا، ومثلها الوطنية (ومثلهما الكفر والإيمان، على نحو ما يفعل إسلاميون) فستتساوى جميع الأشياء، ويفقد المجتمع معايير التمييز بين الحق والباطل، أي عقله. إن تشويش المدارك العام وتساوي جميع الأشياء والأفعال وفقدان القدرة على التوجه والتمييز يدمر حس العدل في نفوس الناس ويخرس صوت احتجاج الضمير. وحيال حالة الضياع هذه، سيلوذ الناس بالطوائف، لأنها أطر ثقة وأهل، يتوجه فيها المرء بسداد وأمان، أوطان بديلة. ولإلفتنا الطويلة بهذا الشرط المشوش فقدنا الشعور بفظاعته، ولتفضيلنا تفسيره بوجود أشرار، قلما ننتبه إلى توطن الشر في نفوسنا وتفكيرنا، وإلى أن البحث عن الأشرار ينتج في النهاية الأشرار فعلا. نحن.
لا ينبغي أن يفهم من ذلك أننا نقرر تساوي المسؤوليات، أي التسليم بانهيار مبدأ المسؤولية. إنه بالأحرى تعبير مبدئي عن العزم على تحمل المسؤولية، ورفض منطق الاتهام والتنصل الشائع. إن الانغلاق السياسي المديد هو ما يسبب أزمة الثقة العامة والتعازل الاجتماعي وانتشار ذهنية البحث عن أشرار. ولقد بدا واضحا أثناء انفراجات وجيزة وهشة عرفتها البلاد («ربيع دمشق» بخاصة) تفوق مسعى البحث عن شركاء على البحث عن أشرار، وأرجحية الثقة والتواصل بين الناس على الريبة والقطيعة، وتطور نقد يجمع بين التفسير السببي وتحديد المسؤوليات على أسس عقلانية حسنة التحديد. هذا يكفي للقول إن مفتاح الخروج من أزمتنا العامة، السياسية والثقافية، سياسي ويقع بيد النظام. فهو من يشغل الموقع الأفضل للتأثير على وجهة سير الأوضاع العامة؛ وهو من يحتكر الفاعلية العامة، فيقع عليه تحمل المسؤولية عن أعطالها وأزماتها؛ وهو من يمنع الناس من التعاون والانتظام المستقل، ولو لتكنيس شارع. تحميل المسؤولية للنظام معرفا بموقعه العام ووسائله العامة أمر بديهي، ينبع من مفهوم الدولة بالذات. وتولي المسؤولية بصورة جدية هو ما من شأنه أن يقطع الطريق على انحطاط مبدأ المسؤولية، واتخاذه شكل البحث عن أشرار.
الشرير ليس موجودا. وحدها الحاجة إليه موجودة. وهي حاجة تنبع من شروط سياسية واجتماعية يتعين مقاربتها بالتحليل العقلاني. أشرنا إلى انغلاق سياسي مزمن، يثير شعورا بالاختناق الاجتماعي والثقافي، ويدفع نحو تأكيد الذات بالنيل ممن هم مثلنا؛ أشرنا كذلك إلى أن النظام لا يكف عن نشر مناخ إيديولوجي ونفسي اتهامي، محملا أشرارا خارجيين دائما، وأشرارا داخليين غالبا، المسؤولية عن نتائج سياساته هو؛ وقد نضيف أن الإيديولوجيات التي ينجذب إليها السوريون تحمل تصورا صراعيا للعالم، يسهل قلبه في بيئاتنا الاجتماعية والثقافية التي مستها الحداثة العقلية والسياسية مسا خفيفا إلى تصور ديني أو ثنوي للعالم، يواجه المؤمنون أو الأخيار فيه كفرة أو أشرارا. هذا فضلا عن أن التعبئة ضد الشرير استثمار مجز سياسيا على المدى القصير… في عين صغار المستثمرين.
… نتخلص من الأشرار بتحويلهم إلى شركاء.
خاص – صفحات سورية –