العالم خارج أمريكا: رغيد، كابوسي، أم ساكن؟
صبحي حديدي
في وسع المرء أن يغبط جون ماكين، المرشّح الجمهوري للرئاسة الأمريكية، على تعهده أمام مؤتمر الحزب بالقبض على أسامة بن لادن في حال انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، وذلك لامتلاكه ثلاث قدرات: أنه ‘يعرف كيف يفعل ذلك’، و’تجاربه في الأمن الوطني سوف تساعده على تنفيذ المهمّة’، ولأنه أخيراً يمتلك ‘المعرفة والخلفية والتجربة لاتخاذ القرارات الصحيحة’. وبالطبع، في وسع المرء ذاته، على أعتاب الذكرى السابعة لهزّة 11/9، أن يضحك ملء شدقيه لسبب واحد وحيد: هل عجز الرئيس الأمريكي جورج بوش عن إلقاء القبض على بن لادن لأنه، ببساطة، يفتقر إلى هذه السجايا التي يمتلكها ماكين؟ من الممكن، ضمن الرياضة الثنائية ذاتها، أن ينظر المرء إلى جولة نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني في القوقاز، جورجيا بعد أذربيجان وأوكرانيا، وإلى سعيه لإنجاز مطمح سوبرماني ليس بين أقلّ نتائجه إنقاذ إدارة بوش من كارثة إخفاق كبرى جديدة، في ما تبقى من زمن لهذه الإدارة في البيت الأبيض. ولعلّ على المرء أن ينتظر معجزة اخرى من ماكين، على غرار اعتقال بن لادن، في إجبار القوّات العسكرية الروسية على الإنسحاب من الأراضي الجورجية، وإيقاف عمليات التطهير الإثني التي جرت وتجري على قدم وساق في أوسيتيا وابخازيا.
وأمّا في العراق، فإنّ تسليم أمن الأنبار إلى الجيش العراقي (وهو التطوّر الذي تفاخر به بوش، معتبراً أنه إنقاذ للمحافظة، ذات الاغلبية السنّية، من براثن ‘القاعدة’) بدا أشبه بضحك مكشوف على اللحى… من جانب واحد في الواقع! إذْ كيف تبدو لحى أحد كمَنْ جرى الضحك عليها، إذا نفضت قوّات الإحتلال الأمريكية يدها من أمن المنطقة، ولكنها أبقت على 25 ألف جندي أمريكي، يواصلون الإنتشار فيها بكامل جاهزيتهم القتالية وأسلحتهم الثقيلة وعتادهم المخصص لإقامة طويلة الأمد؟ وكيف، والحال هذه، يمكن تسجيل أيّ انتصار سياسي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بعد اتضاح الدور العسكري الأمريكي المباشر في عمليات مدينة الصدر والعمارة، ضدّ مقتدى الصدر و’جيش المهدي’؟ وفي ليبيا، التي تزمع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس زيارتها، للمرّة الأولى على هذا المستوى منذ زيارة جون فوستر دالاس سنة 1951، ما الذي تغيّر حتى بلغت العلاقات الأمريكية ـ الليبية كلّ هذه الدرجة من الدفء. شون ماكورماك، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، لديه إجابة وقائعية ـ واقعية يخال الرجل أنها قادرة على إفحام كلّ سائليه: ‘لقد هبط الإنسان على القمر، صار لدينا إنترنيت، وسقط جدار برلين، وتعاقب على أمريكا عشر رؤساء’! كذلك أوضح ماكورماك أنّ زيارة رايس هذه هي ‘دليل قاطع’ على أنّ أمريكا لا تتخذ أعداء دائمين، وليبيا تصلح قدوة لأمم مثل إيران، في أنها إذا استقرّت على جملة خيارات مختلفة، فإنّ علاقاتها مع الولايات المتحدة يمكن ان تتخذ مسارات مختلفة.
حسناً، لماذا إذاً يقوم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي باستدراج بشار الأسد إلى خيارات أخرى أكثر اعتدالاً، في ملفات إقليمية شائكة، بالأصالة عن فرنسا والإتحاد الأوروبي من حيث المبدأ، ولكن بالنيابة عن البيت الأبيض كذلك، وجوهرياً؟ ولماذا لا تزور رايس دمشق، بعد تدمير ما قيل إنه مفاعل نووي سوري، واغتيال عماد مغنية، وإتمام أربع جولات تفاوض إسرائيلية ـ سورية غير مباشرة، وانتخاب رئيس لبناني، وعقد قمّة رباعية سورية ـ قطرية ـ تركية ـ فرنسية في دمشق… معتدلة، لكي لا نقول صديقة للغرب والولايات المتحدة، ويصعب أن تطلق عليها أيّ من صفات الممانعة؟ ومع ذلك فإنّ مشهد هذه الإدارة الأمريكية الآفلة لا يكتمل إلا بالعودة إلى أرلنغتون، ولاية فرجينيا، حيث مقرّ البنتاغون، وزيارة الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكية على الإنترنيت، وتصفّح بعض تفاصيل التقرير المسمّى ‘استراتيجة الدفاع الوطني 2008’. ثمة، في المستهلّ، مقدّمة جيو ـ سياسية تتغنّى بـ 230 سنة قضتها القوّات العسكرية الأمريكية وهي تلعب دور الحصن المنيع المدافع عن الحرّية والفرصة والرخاء داخلياً، ودور المساند الأقوى للراغبين في حياة أفضل على نطاق العالم بأسره، حين كانت أمريكا هي ‘النبراس المضيء في الأماكن المظلمة’. وثمة فصول لاحقة، تتحدّث عن البيئة الاستراتيجية، والإطار الاستراتيجي، والأغراض الاستراتيجية، وإمكانات الوزارة ووسائلها، وإدارة الأخطار… والحال أنّ قارىء هذا التقرير يمكن أن يخرج بانطباع يفيد أنّ العالم في عقيدة البنتاغون لم يتغيّر كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانهيار نظام القطبين وأفول الحرب الباردة، حتى لتبدو الصورة وكأنّ الإنسانية في العام 2008 لم تغادر العام 1988 إلا زمنياً فقط، وليس جيو ـ سياسياً أو جيو ـ عسكرياً. عالم واحد ثابت، وإلى الجحيم بأيّ وجميع المتغيرات والهزّات والإنقلابات، دولية كانت أم إقليمية، داخلية أمريكية أم خارجية كونية، إيديولوجية أم سياسية أم ثقافية… وبالمعنى العسكري، وهو ميدان البنتاغون وعلّة وجوده، العالم كما هو: صورة طبق الأصل عن الحال ذاتها التي اقتضت، قبل خمسة عقود، إعداد سيناريوهات تعبوية وقتالية ولوجستية لمواجهة حلف وارسو! مثير، أيضاً، مقدار التشابه بين تقرير العام 2008 وتلك التقارير التي اعتادت الوزارة رفعها إلى الكونغرس كلّ أربع سنوات، وتأخذ صفة البرنامج العقائدي والعسكري والتكنولوجي والإداري والمالي للوزارة طيلة السنوات الأربع اللاحقة. ومن المعروف أنّ عقود الحرب الباردة جعلت تحرير مثل هذه التقارير مسألة روتينية للغاية، لأنّ العقيدة لم تكن تتغير ما دام الخصم على حاله، وما من حكمة تبرر تجميد هذا الخطّ أو ذاك في الصناعات العسكرية، بل الحكمة كلّ الحكمة في تطوير أجيال الأسلحة وفق مبدأ هنري كيسنجر الشهير: لا تتوقفوا عن تطوير الأسلحة، وسيضطرّ الشيوعيون إلى اللحاق بنا، حتى يأتي يوم تفتح فيه السيدة الروسية الثلاجة فلا تجد سوى الجليد والرفوف الخاوية.
على مستوى العقيدة العسكرية كانت الرؤية الدفاعية، وتحديداً في عهد رونالد ريغان وطور ‘حرب النجوم’، قد نهضت على مفهومين استراتيجيين: ـ أشكال التعامل مع النزاع الخفيف Low Intensity Conflict أو LIC، والذي لقي اهتماماً محدوداً في السبعينيات إثر هزيمة فييتنام، لكنه اكتسب حيوية خاصة في مطلع الثمانينيات مع إحياء اهتمام البيت الأبيض بالعالم الثالث. ريغان، من جانبه، ارتقى بالمفهوم ليعطيه أولوية عسكرية في ولايته الثانية، حين انتقل اهتمام الإدارة من سباق التسلح النووي إلى التسابق على اجتذاب أنظمة الجنوب، خصوصاً تلك التي كانت موالية للإتحاد السوفييتي.
ـ أشكال التعامل مع النزاع المتوسط Mid-Intensity Conflict أو MIC، وهو القتال الذي تخوضه القوات الأمريكية ضدّ قوى كبرى في العالم الثالث. وإذا كان الـ LIC مخصصاً لمواجهة ضروب حرب العصابات والجيوش الصغيرة المحدودة (كما في مثال باناما)، فإن الـ MIC مخصص لحرب واسعة النطاق تشترك فيها قوّات وصنوف وأنظمة قتالية عالية المستوى والتدريب والتسليح (كما في مثال العراق).
جديد ريغان تضمن أيضاً ما أسماه مخططو البنتاغون بـ ‘حرب ونصف’، حين افترض هؤلاء أنّ الولايات المتحدة قد تجد نفسها متورطة في حرب شاملة على نطاق أوروبا ضدّ حلف وارسو (وهذه هي الحرب الكاملة)، كما قد تجد نفسها في الآن ذاته أمام احتمال مواجهة محدودة تكميلية في أنحاء مختلفة من العالم الثالث (وهذه نصف حرب). ولكي تكون القوات الأمريكية قادرة على التعامل بكفاءة عالية مع قوّات حلف وارسو، وقادرة في الآن ذاته على ردع أي جيوب متمردة في العالم الثالث، فقد توجّب استحداث وحدات عسكرية على درجة من القوة توازي، وتتوازى مع، قوّات الحلف الأطلسي. وفي أواخر عهد ريغان وبدايات عهد بوش، بدأ الحديث يتعالى عن استراتيجية اسمها ‘حربان ونصف’: واحدة لحلف وارسو، وثانية لقوى العالم الثالث الكبرى (العراق، الباكستان، وإيران لاحقاً)، ونصف حرب لدول وجيوش من نوع باناما وغرينادا.
في القسم التمهيدي الذي يحمل عنوان ‘البيئة الأمنية العالمية’، كان تقرير البنتاغون يقول: ‘مع اقتراب القرن الحادي والعشرين تواجه الولايات المتحدة مناخاً أمنياً ديناميكياً وغير مضمون، حافلاً بالفرص مثل التحديات. ففي الجانب الإيجابي نحن في طور الفرصة الاستراتيجية. لقد تراجع خطر الحرب الكونية، وقيمنا في الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق يتمّ اعتناقها في العديد من أطراف العالم، الأمر الذي يخلق فرصاً جديدة من أجل السلام والرخاء وتوطيد التعاون بين الشعوب. ودينامية الإقتصاد العالمي تتسبب في تبدّل التجارة، والثقافة، والتفاعلات المتبادلة على نطاق عالمي. وإنّ تحالفاتنا، مع الناتو واليابان وكوريا، تتأقلم بنجاح مع التحديات الراهنة، وتؤمّن الأساس لبناء عالم مستقر ورغيد (…) ومع ذلك فإنّ العالم يظلّ مكاناً بالغ الخطورة وغير مضمون، ومن المرجح أن تواجه الولايات المتحدة عدداً من التحديات الهامة لأمنها ومصالحها’.
ويمضي التقرير إلى تعداد هذه ‘التحديات’ الهامة التي تستوجب الإعداد والعّدة والعتاد، بينها التالية: 1 ـ أخطار تعرّض حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة لغزو خارجي، يمكن أن يتسبب في وقف ضخّ النفط (وهو مصلحة أمريكية حيوية عليا)، أو في عرقلة وتعطيل العملية السلمية بين العرب وإسرائيل، وبالتالي تهديد أمن الدولة العبرية.
2 ـ انهيار أو تفكك بعض الدول، ثمّ وقوع حروب أهلية وما يقترن بها من مجاعات وأوبئة، يشكل تهديداً لدول ومناطق يمكن أن تكون حيوية لمصالح الولايات المتحدة. وكانت الأمثلة تبدأ من الصومال، وتمرّ بيوغوسلافيا السابقة، ولا تنتهي عند ألبانيا والزائير.
3 ـ رغم الجهود الكبيرة التي يبذلها المجتمع الدولي، فإنّ من الصعب ضبط انتشار وتداول المعلومات العلمية الحساسة، والتي يمكن أن تستخدمها بعض الدول في أغراض غير علمية (إنتاج الأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية)، أو في أغراض إرهابية. 4 ـ مثلما كانت الحال في السنوات الأولى من الحرب الباردة، سوف تظل أرواح المواطنين الأمريكيين معرضة للأخطار من ‘جهات متعددة الجنسيات’، وذلك بسبب من العداء الراديكالي للقيم الأمريكية، أو بسبب من تحالفات وصداقات الولايات المتحدة التي تثير هذا القدر أو ذاك من المعارضة والتحريض.
5 ـ تدفق أفواج الهجرة على نحو غير منضبط يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار دول حليفة للولايات المتحدة، ويهدد الأمن في مناطق بأسرها، ويلحق الضرر بمصالح أمريكا العليا.
ولعلّ المتغيّر الأبرز هو ميزانية البنتاغون للعام 2009، والتي بلغت 518.3 مليار دولار، فضلاً عن ‘ميزانية حرب’ إضافية بقيمة 140 مليار لا يحتسبها البنتاغون عادة، بالمقارنة مع 240 مليار دولار أيّام جورج بوش الأب، عشية ‘عاصفة الصحراء’. وأمّا الطريف اللافت فهو أنّ التقرير لا يأتي البتة على ذكر جورجيا أو أذربيجان أو أوكرانيا، هذه التي يزورها شيني اليوم لاهث الأنفاس، وفيها تبدو أشباح الحرب الباردة وكأنها غادرت مدافن التاريخ وتجوس المكان من جديد. وروسيا في التقرير ‘شريكة’، وتارة ‘صديقة’، لا عيب فيها سوى بعض التلكؤ في تطوير اقتصاد السوق، وبعض التراجع عن الديمقراطية، وبعض انحسار الإنفتاح! أيكون هذا بعض السبب في أنّ ساركوزي، وليس رايس، هو مُحاوِر بشار الأسد هذه الايام؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –