صفحات سوريةياسين الحاج صالح

“إعلان دمشق” وأزمة المعارضة السورية

null
ياسين الحاج صالح
أزمة على أزمة
لا جديد في القول إن المعارضة السورية في أزمة. لكن قد يجدي التمييز بين وجهين للأزمة هذه: وجه بنيوي مزمن، يحيل إلى الشروط السياسية والثقافية الشاقة لوجود المعارضة وعملها طوال عقود؛ ووجه حاد، أخذ شكلا متفجرا منذ أواخر العام الماضي. فبعد التئام اجتماع المجلس الوطني لائتلاف “إعلان دمشق”، كتلة المعارضة الرئيسية ومظلتها الأوسع، في مطلع الشهر الأخير من عام 2007، التقت ثلاثة عناصر تأزيم. أولها، اعتقال بعض نشطائها الأبرز، وقد انعقدت أولى جلسة علنية لمحاكمة اثني عشر منهم في الثلاثين من شهور يوليو الفائت؛ وثانيها انقسام سياسي وإيديولوجي (بين “ليبراليين” و”وطنيين” في رواية، و”معارضين” و”ممانعين” في رواية أخرى)، ترتب على نتائج الاجتماع وعلى تراجع الفاعلية العامة للمعارضة؛ وثالثها تمام استتباب الأمر للنظام بعد تقلقل خطر، ما قوض أساس الانحياز إلى سياسة تغييرية منذ تأسيسه في خريف 2005، سياسة كانت بنيت على تغير موازين القوى النسبية لغير مصلحة النظام في ذلك العام والعام الذي تلاه. بيد أن طور التأزم المتفجر هذا أخفى طورا أقدم وأكثر أزمانا وإعضالا من الأزمة ذاتها، يتمثل أساسا في عزل المنظمات السياسة عن القوى الاجتماعية منذ مطالع العهد البعثي قبل أكثر من 45 عاما، وقبل ذلك في تنظيم “كوربوراتي” (أو “رعوي محدث”) للمجتمع، يفتته ويلغي “اجتماعيته” ووطنيته، وقدرته على توليد تعبيرات عامة، ويجعل من النظام ممرا حصريا للتفاعلات بين السوريين. لا مجال للتوسع في هذا الشأن هنا، نكتفي بالقول إن النقابات والمنظمات الطلابية والشبابية والنسوية مسيطر عليها بإحكام من قبل الحزب الحاكم وأجهزة الأمن، وإن الأحزاب السياسة خضعت لتدمير مديد بواحدة من وسيلتين: إما باستتباعها في “الجبهة الوطنية التقدمية” حيث تحافظ على وجودها مقابل خسارة استقلالها، أما الأحزاب التي قد تتطلع إلى لعب دور مستقل فيتكفل السجن بإلغاء وجودها ذاته. من جهة أخرى لا تجد السلطات ما يزعجها في التكوينات الأهلية من عشائر وطوائف وجماعات دينية منزوعة السياسة، هذا فوق أن من “طبائع الاستبداد” المشرقي العريقة أن تكوينات كهذه تنتعش في شروط الحجر السياسي العام. وهكذا لدينا إما منظمات حديثة فقدت صفتها الطوعية والحرة فباتت أشبه بروابط عضوية موروثة، أو روابط موروثة صراحة يشكل وجهاؤها وأربابها “نخبا” مساعدة في السيطرة الاجتماعية مقابل مغانم مناسبة.
فإذا أضفنا لذلك كله أن النظام كان أقدم في العقدين الأخيرين من القرن السابق على حرق الأرض الاجتماعية السورية كيلا تنبت عليها منظمات سياسية، تبينّا درجة عسر تكاد تقارب الاستحالة في وجود معارضة في سورية، دع عنك أن تكون نشطة وفعالة. ثمة معارضون في سورية رغم ذلك بفضل شجاعتهم، لكن ما يصمد بالشجاعة والعناد يبقى عرضة لأمراض البيئة القاسية، مثل السرية والانعزال والقزامة، فضلا عن الصراعات الداخلية والبينية التي لا مبالغة في القول إنها استهلكت الكثير من جهد المعارضين ووقتهم وصدقيتهم. على أن أهم وجوه الأزمة البنيوية للمعارضة السورية هو اكتهالها وقلة الوارد الشبابي إليها. فربما كان متوسط عمر المشاركين الـ 165 في اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق نحو خمسين عاما، أي أكبر بنحو عقد من عمر الرئيس بشار الأسد الذي يعارضون نظام حكمه. وهذه وحدها واقعة دالة على الوضع العسير للمعارضة السورية. بالمقارنة، كان أكثر المعتقلين اليساريين في ثمانينات القرن السابق، وعددهم بالمئات، عشرينيون (وكذلك معظم المعتقلين الإسلاميين). وكان كاتب هذه السطور في العشرين حين اعتقل عام 1980. أما معتقلو الإعلان اليوم فهم مجايلونا، ومتوسط عمرهم يقترب من الخمسين أيضا.
فإن أضفنا تقادم عتاد المعارضة السياسي والفكري والتنظيمي (متوسط عمره أعلى بعدُ من متوسط أعمار الناشطين العارضين والمعتقلين)، تمثل لنا وضع مستحيل لا تفي كلمة أزمة بتعريفه.
نهتم بالشروط العامة لعمل المعارضة لأنه يحصل كثيرا في أيام الجزر الراهنة أن تسقط الشروط هذه من ثقوب الذاكرة، فلا يستبقى إلا طور أخير، طور أزمة “إعلان دمشق”. وكما هو معهود في أوقات التراجع فإن التمايزات الإيديولوجية تستعيد قوتها ودورها التفريقي للطيف المعارض، بينما تنزوي العناصر البرنامجية والسياسية التي يفترض أنها تقارب بين مختلفين إيديولوجيا. لكن ليس هذا وحده ما جرى خلال بضع الشهور الأخيرة في أواسط الطيف السوري المعارض، بل كذلك أخذت الإيديولوجيات المستعادة تقرأ، بمفعول رجعي، مجريات السنوات الثلاث الماضية، وذلك لإضفاء الشرعية على توجهات مستجدة أو لتزويد هذه التوجهات بنسب أصيل. إن عوامل متنوعة، اجتماعية وثقافية (وبالخصوص الانتظام الرعوي المحدث للمجتمع السوري)، وصراعات على السلطة والشرعية داخل المعارضة بالذات، ربما تسهم في تفسير حقيقة أن الصراعات بين ضحايا الاستبداد تتقدم أحيانا على صراعهم المفترض ضد الاستبداد ذاته.
“صحيح سياسي” جديد
كانت أبرز سمات “إعلان دمشق” الذي صدرت وثيقته التأسيسية في 16 أكتوبر 2005، أنه شكل إطار إجماع واسع لحركة المعارضة السورية. فقد شاركت فيها أكثر التنظيمات المعارضة “العربية” وعدد من الأحزاب الكردية (منذ انهيار الشيوعية، تضاءل عدد الأكراد في أحزاب سورية عامة؛ أما الأحزاب الكردية الصافية فكانت تكاد تحصر نشاطها في شؤون الأكراد في سورية، وفي البلدان المجاورة) وعلى الفور أعلن “الإخوان المسلمون” السوريون انضمامهم إليه. واستقطب الإعلان مثقفين وناشطين كانوا منكفئين على عملهم المهني أو حياتهم الخاصة، والتف حوله أو عمل في هيئاته أكثر المعتقلين السياسيين السابقين الناشطين، وشكل أوسع إطار تحالفي للمعارضة في سورية منذ بداية حكم البعث. فهل يكون الإجماع النسبي الواسع هذا معيارا لصواب سياسة الإعلان؟ أم تراه انسياق حسن النية من قبل البعض وراء وهم سيء النية والمآل، يسوّقه آخرون بقصد واع؟ ندافع بالأحرى عن فكرة تفيد أن السياسة الصحيحة والإجماع (النسبي دوما) يولدان معا في لحظات ربما يكون أخص ما يميزها إنها تشكل “صحيحا” جديدا و”حقيقة” جديدة وسياسة جديدة. إنها لحظات كثيفة، تبدو واعدة بتغير في نظام القوة/ المعرفة القائم، فيكف الاحتكام إلى ما هو مستقر ومتعارف عليه من أوضاع وأحكام وأفكار عن أن يكون مجديا، ولا يركن أحد إلى الواقع القائم والتوقعات المبنية عليه. لم يكتشف “إعلان دمشق” صحيحا سياسيا سابقا عليه، بل بدا لجميع المشاركين مباشرة فيه، وأكثر لجميع من انضموا إليه بعد صدور وثيقته، صانعا لصحيح سياسي مختلف.
ولم يكن هذا التصور وهما محضا. ففي الشهور التي تلت الانسحاب السوري القسري من لبنان (أبريل 2005) قدر كثيرون، في سورية وخارجها، أن النظام لن يتعافى من رضته اللبنانية التي زامنتها وتلتها ضغوط دولية حادة، أثارت عند أطراف من النظام بالذات الرغبة في التخلص منه. إذ يبدو أن غازي كنعان، وزير الداخلية السابق وحاكم لبنان الفعلي طوال قرابة عقدين، كان متورطا في أنشطة تآمرية ضد النظام؛ وبعد شهرين ونصف من “انتحار” كنعان في مكتبه، “انشق” عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السابق، وأخذ يعمل صراحة للتخلص من النظام. وأشار تقرير ميليس الأول (صدر بعد أقل من أسبوع من الإعلان عن “إعلان دمشق”) إلى تورط مسؤولين سوريين في اغتيال الحريري. وأخذت دول عربية مؤثرة، فضلا عن جهات دولية فاعلة، مواقف سلبية من النظام. في المجمل، بدا أن كل شيء يوحي بأن النظام مهدد بالترنح والسقوط. وما كان لصورته الإيديولوجية، أو لنقل عالم المدركات والتوقعات التي ترتبط به، إلا أن تنهار لو سارت الأمور في هذا الاتجاه. فهي لا تحوز أي تماسك ذاتي خاص بها، ولم تعتد أن تعيش مستقلة منذ نحو خمسة عقود.
تشكل الإعلان على هذه الخلفية، وتكون حوله إجماع واسع على هذه الخلفية. والتحق به حتى متحفظون على بعض أفكاره لأنه بدا لهم “البديل” الأكثر صدقية وتماسكا أمام أفق ملتبس، لا يركن حياله إلى المألوف والقياسي من أفكار وسياسات. وما كان لأحد من المعارضين السوريين أن يجعل من نفسه استثناء فيمتنع عن أخذ علم بهذه التطورات المتزاحمة التي كانت مفتوحة النهايات وقتها، خلافا لقراءة إيديولوجية لاحقة يفضلها من يفضلها لحسابات تخصه. القول، تاليا، إن “إعلان دمشق” ولد وسورية تتعرض لضغوط كبيرة صحيح إن كان قولا وصفيا، لكنه خاطئ بالمطلق كاتهام. فمن هو السياسي الفرد أو التنظيم السياسي الذي لا يبني توجهاته على التقدير الأرجح لتطورات وضع بلده؟ ومن هو المعارض الجدي الذي لا يحاول التأثير على المسار المرجح لتطور أوضاع بلده؟، لا لشيء إلا لأنه ليس مسيطرا على هذا المسار؟
وعليه يكون إنكار ناطقين باسم “إعلان دمشق” تزامن صدور الإعلان مع الضغوط تلك ومحاولته الاستفادة منها والتأثير عليها خاطئ بدوره، ومخالف لطبائع السياسة والتاريخ، والإنسان ذاته. فلا تهمة من أجل التنصل منها. ولا يشير تنصل معارضين إلا إلى قوة المحدد الإيديولوجي في تفكيرهم السياسي أو إلى إرادة تقديم تأويل مختلف لسياستهم بعد انزياح الأساس الذي بنيت عليه، بدلا من إعادة تقييم هذه السياسة ككل وإجراء الانعطاف اللازم. أما المضي إلى حد القول إن الإعلان مندرج في حملة غربية على سورية أو “بقايا وشم” لتلك الحملة على العالم العربي، على نحو ما تفاصح صحفي لبناني، فلا يستحق تعليقا. وعلى أية حال لا يبدو أن ثمة سياسة للمعارضة السورية يمكن أن تنال رضا أمثال هذا الصحفي، ولم يعرف عن أي منهم تضامن مع ضحاياها ومعتقليها في أي وقت.
إجماع استقطابي
نعود إلى القول إن “إعلان دمشق” حظي بإجماع نسبي واسع لأنه ولد في لحظة صانعة للإجماع. وهذا لا يعني أنه لم يواجه بانتقادات وتحفظات. لقد كان من سمات الإعلان أن تواقت صدوره مع زوبعة انتقادات واتهامات وشتائم غير مسبوقة، لا يضاهيها إلا اتساع الانشداد نحوه وإعلان الانتساب إليه. وما كان للإعلان أن يواجه بعاصفة من التشنيع والاتهامات لولا أنه بدا فعلا سياسيا مؤسسا، لا يستطيع المرء في الشرط السوري العياني إلا أن يكون ضده، إن لم يكن معه. وكان الانتساب الواسع إليه ومبادرة مؤيديه إلى تسجيل أسمائهم في مواقع إلكترونية برهانا على خصوصية تلك اللحظة المشحونة وجاذبيتها النادرة. لقد أدرك المنتسبون إلى الإعلان، قوى وأفرادا، أنه الإطار الحاسم للعمل الوطني إلى حد أن التحق به من لن تكف تحفظاتهم عليه عن الاتساع بالتناسب مع انقضاء اللحظة الصانعة التي استمرت شهورا فحسب. أيضا إلى حد أن المرء لا يعدو الإنصاف إن قال إن أخصام “إعلان دمشق” وقت صدروه هم أخصام لمعظم تاريخ المعارضة السورية، ولمفهوم المعارضة ذاته في الغالب.
ومن حيث المبدأ، قد يمكن تفسير دوافع المنجذبين إلى الإعلان بواحد من أمرين: إما الرغبة في الحلول محل النظام وتلهف متلهفين إلى حجز موقع في ترتيبات وأوضاع جديدة محتملة للبلد؛ أو الحرص على وجود قوى منظمة فاعلة يمكنها أن تحد من آثار التداعي المحتمل وتحاول توجيه سير الأحداث نحو مسارات موافقة للمصلحة الوطنية أو في اتجاه أقل ضررا للبلاد. الأرجح أن العاملين معا تدخلا. واللافت أن خصوم الإعلان، بمن فيهم من كانوا فيه حين كانت قضيته صاعدة، فضلوا التفسير الأول، وأسندوه على “رهان على الخارج” يفترض أن يكون الإعلان تأسس أصلا عليه. لكن “الرهان” هذا أقرب إلى إسقاط لاحق بغرض تسويغ انحيازات مستجدة منه إلى واقع الحال. يبرهن على ذلك أن أحدا من غير المصطفين صراحة إلى جانب النظام لم يتكلم عليه قبل العام 2007.
ولا شك عندي أنه كانت تحفز أكثرية ناشطي الإعلان وكل المجموعات الديناميكية التي اشتغلت على وثيقته طوال أشهر أرفع الدوافع الوطنية. كان الحال العراقي ينبسط أمام أعينهم، وكانت الرغبة في التغيير تتلاطم في صدورهم مع الخشية من انزلاق البلاد في مسار عراقي منفلت تتعذر السيطرة عليه. وكانت الفكرة الموجهة لأكثرهم تتمثل في أنه كلما توفرت للبلاد قوى منظمة وعقلانية أوسع، كانت الفرصة أكبر لتجنب أسوأ العقابيل المحتملة لتغيير لا نملك رده. ولطالما عبر رياض سيف، رئيس الأمانة العامة لائتلاف إعلان دمشق والمعتقل منذ 7 أشهر، عبر عن هذا التوجه بالقول إن الغرض توفير “شبكة أمان” للبلد تفاديا للأسوأ. وقد كرر الكلام نفسه في جلسة محاكمة معتقلي الإعلان في 30/7/2008.
وعلى أية حال، لا يشذ “إعلان دمشق” عن أية حركات تغييرية أو وطنية في أي مكان في أن الإجماع يقترن دوما بالاستقطاب، أو أن كل إجماع سياسي هو إجماع استقطابي. وهو ما تظاهر في حالتنا في غياب تام للمواقف البينية، فمن لم ينضموا للإعلان هاجموه، ولم يبق أحد على الحياد.
وقد تعطي مبادرة تقدم بها رياض الترك بعد أسابيع قليلة من صدور “إعلان دمشق” فكرة عن المناخات النفسية التي صدر بها الإعلان وعن دوافعه في آن معا. اقترح الترك أن يستقيل رئيس الجمهورية ويحل محله مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وأن يتولى الجيش ضبط الأمن في البلاد، وأن تتعاون الحكومة مع التحقيق الدولي في اغتيال الحريري.. ما كان لمثل هذه المبادرة أن تصدر عن معارض متمرس لولا شعور منتشر بأن البلاد مقبلة على تغير قد ينفلت من سيطرة الجميع (كان الإعلان تكلم على “مهمة تغيير إنقاذية”، كما سلفت الإشارة). وما كان لها أن تصدر أيضا لولا رغبة في “تغيير آمن”، يضمن استمرارية مؤسسية ويجنب البلاد فراغا سياسيا وأمنيا قد يحمل مخاطر جمة.
الغرض من هذه التذكيرات، مرة أخرى، إعطاء فكرة عن فرادة لحظة صدور “إعلان دمشق” وتفسير ما حظي به من جاذبية. لقد شكل مساحة التقاء راغبين في تجنيب بلدهم المخاطر أمام منعطف خطر، كما مثل محور استقطاب أساسية في الحياة السياسة السورية، فباء بإدانة ونقمة غير مسبوقين. وإنما لذلك لم يسبق أن تعرض ناشطون سوريون للتخوين الصريح أو نصف الصريح بأشد مما تعرض “إعلان دمشق”.
“انتظام في تراث”
على أن من المفيد العودة إلى مسألة “التوقيت” ووضع أمرها في نصابه الحقيقي.
استمر العمل شهورا حتى خرجت إلى النور في خريف 2005 وثيقة الإعلان والائتلاف الذي تأسس عليها. كان إصدار وثائق تعلن نيات الموقعين عليها أو تطرح مطالب عامة قد غدا تقليدا سوريا طوال السنوات الخمسة السابقة لصدور وثيقة الإعلان. يذكر عموم المهتمين بالشأن العام في سورية “بيان الـ99” في خريف 2000، ومشروع وثيقة “أصدقاء المجتمع المدني” في الوقت نفس تقريبا، ومشروع “حركة السلم الاجتماعي” الذي قدمه النائب السابق والصناعي (السابق أيضا) رياض سيف في شباط 2001، و”بيان الألف” الذي أصدره ناشطون في لجان إحياء المجتمع المدني (الاسم الذي استقرت عليه لجنة أصدقاء المجتمع المدني)، ووثيقة تدعو إلى عقد مؤتمر وطني عام في بدايات عام 2003 بالتزامن مع الغزو الأميركي للعراق واحتلاله. وقد يكون “بيان المليون” منسيا اليوم، إلا أن “لجان الحريات الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان” (قبل انشقاقها) نشرت بيانا يدعو إلى إلغاء حالة الطوارئ في عام 2004، وأعلنت أنها تعتزم جمع مليون توقيع عليه (قيل إن نحو 6000 وقعوا عليه). هذا فضلا عن دعوات ومبادرات ووثائق أخرى نشرت في صحف أو ألقيت في محاضرات عامة، من أبرزها دعوة إلى المصالحة الوطنية قدمها رياض الترك في محاضرة عامة في آب 2001، ومحاضرة بعنوان “نحو عقد وطني جديد” قدمها برهان غليون في أيلول من العام نفسه.
ومعظم هذه الوثائق تعارض النظام سياسيا، و”تنشق” عليه فكريا وإيديولوجيا. ليس بالدرجة المطلوبة من الانشقاق دوما، نظرا لقوة التراث “الممانع” في سورية، التراث الذي يعرف الوطنية بدلالة الموقف من “الخارج”. لكن الأكيد أن المتاع الإيديولوجي الممانع، “القومي” و”الشيوعي”، لا يصلح أساسا لفاعلية معارضة وديمقراطية في سورية، بل إنه يقود نسقيا إلى مواقع قريبة من النظام. وواقع الحال شاهد. وحده الانشقاق على ذلك المتاع يمكن أن يكون أرضية لمعارضة غير متهافتة ولثقافة سياسية ديمقراطية. هذه قضية تستحق نقاشا أوسع لا مجال له هنا. هنا أيضا نكتفي بالقول إننا نفتقر إلى تراث فكري انشقاقي. وهو ما ترك أثره على وثيقة “إعلان دمشق” ذاتها. فرغم أن عددا من فقراتها (تصور المجتمع السوري بخاصة..) مثلت “هرطقة” حقيقة حيال الثقافة السياسية المهيمنة في سورية، إلا أنها كانت تعبيرا عن حساسية مختلفة وعن نفور من خطاب سياسي أجوف أكثر مما هي مستندة إلى مرجعية فكرية متماسكة (نحتاج إلى وقت طويل لبنائها، فهي غير موجودة..). ولا ريب أن هذا الشرط، أعني افتقار بعض رؤى الإعلان إلى غطاء فكري، هو ما كان وراء وثيقة “توضيحات” تعيسة ألحقت بالإعلان بعد شهور قليلة على صدوره، تقيد أو تلغي منه كل ما فيه من حساسية جديدة وعبارات قلقة، وتعود إلى اللغة المأمونة التي يجري اجترارها منذ عقود. لا ريب أيضا أن هشاشة السند الانشقاقي الفكري للاعتراض السياسي في سورية كان وراء انشقاق ائتلاف “إعلان دمشق” وعودة التمايزات الإيديولوجية إلى الإمساك بزمام السياسات العملية وتوجيهها.
لقد كانت وثائق السنوات الخمسة السابقة على الإعلان وجها من وجوه تماثل معارضين إلى العمل العام بعد غياب دام نحو عقدين من السنين بفعل السياسة الاستئصالية الصارمة التي اتبعها نظام الرئيس حافظ الأسد منذ النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. ومن وجوه التماثل أو التعافي الأخرى، ثمة “المنتديات” التي يلتقي فيها تجمع عشرات أو مئات قليلة من الأفراد في منازل خاصة مع التعبير عن الرأي بحرية نسبية (لعلها تشبه الديوانيات في الكويت..)؛ ومنها الكتابة النقدية في صحف عربية وفي مواقع إلكترونية؛ بل ومنها اعتصامات احتجاجية أمام “محكمة أمن الدولة العليا” في دمشق منذ عام 2001 وأمام “القصر العدلي” في دمشق أيضا في أعوام 2005 و2006 و2007 (انتهت دوما بتفريق المعتصمين بالقوة، وأحيانا اعتقال بعضهم..). ومنها كذلك عودة الحياة الحزبية، وعودة النشرات الحزبية المعارضة إلى الصدور…
نريد القول إن وثيقة “إعلان دمشق” “انتظمت في تراث” مقرر. وهي لا تكاد تنفرد عن هذا التراث بمضمونها، ولعلها لم تبد في عيون المشتغلين عليها أنفسهم مختلفة جوهريا عما سبقها. فمطالب الوثيقة تستعيد مطالب الديمقراطيين السوريين المألوفة طول السنوات السابقة من رفع حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين والحريات العامة وسيادة القانون وما إليها. ما تنفرد به وثيقة الإعلان هو تزامن العمل عليها مع تصاعد الضغوط الدولية على النظام. لقد التقت وثيقة مسبوقة بوثائق من جنسها مع شرط سياسي متفرد، فاكتسبت أهمية متفردة انعكست على نبرتها وبعض صياغتها. بالخصوص في عبارات من نوع “مهمة تغيير إنقاذية”، و”عملية التغيير قد بدأت”، ودعوة البعثيين إلى المشاركة فيها، ورفض “الحلول الترقيعية”..
يبقى أن نضيف أنه لا ريب أن “سياسة المشاعر” كان لها ضلع مهم في صوغ نبرة الإعلان وفي انضمام كثيرين إليه: كان النظام طوال ربع قرن قد آذى، وبقسوة وحقد، معارضين سياسيين لم تتجاوز معارضتهم في أي يوم الكلام. وكان لدى هؤلاء كل المبررات الإنسانية السوية لرؤية النظام يتحول أو يزول، خصوصا وأنهم طوال سنوات خمس أو أكثر ثابروا على الدعوة إلى الإصلاح والمصالحة الوطنية، مانحين المبادرة إلى النظام نفسه، دونما جدوى.
بيد أن المراجعات المتداولة الثالبة للإعلان لم تنصب على الاندفاع السياسي وراء تلك اللحظة الخاصة، وقد كان أكثر المراجعين شركاء فيها على كل حال، بل بدا كأنه يثأر من تاريخ المعارضة الديمقراطية ذاته، ويدرج مواقفه المستجدة في سجل قديم من الخصومة والنزاع. بدا أيضا أنه يمارس بالضبط ما يأخذه على الإعلان: يستند إلى اتجاه الريح الجديد كي يعوّم نفسه، أو ربما يبرئها أمام من قد يفيد التبرؤ أمامهم.
خروج من الأزمة؟!
يبقى أن نتساءل كيف الخروج من أزمة المعارضة، ومن المؤهل للعمل على الخروج من الأزمة؟ بعد انفجار أزمة “إعلان دمشق” في الأسابيع الأخيرة من العام الماضي، قد نميز بين ثلاثة تنويعات في الطيف السوري المعارض اليوم. ثمة أولا من كانوا على/ أو صاروا إلى خصام مع تاريخ المعارضة الديمقراطية منذ النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، ومنهم من لديهم مشكلة مع مفهوم المعارضة ذاته. هؤلاء بالطبع ليسوا معنيين بمعالجة الأزمة أصلا، اللهم إلا تمني استعصائها. وهؤلاء على العموم شيوعيون أو جوالون على هوامش البيئة الشيوعية السورية، لم يرتاحوا في أي يوم لفكرة الديمقراطية. وهم كذلك قلما يعملون، ويجدون دوما ما يعيبونه على غيرهم. من الطيف المعارض، ثانيا، من تتحدد هويتهم بخصومتهم مع معارضين آخرين، يشكلون “آخرهم”، “إعلان دمشق” بخاصة أو التنظيمات والمجموعات التي بقيت ضمن الائتلاف. توجههم هذا يجعلهم غير مؤهلين سياسيا ونفسيا لمعالجة أزمة المعارضة. وهم عموما شيوعيون وقوميون عرب وناشطون جوالون حولهم. وقد داعب هذا الطيف فكرة تشكيل ائتلاف مختلف بعد انفصالهم عن “إعلان دمشق”، لكنه أحجم في النهاية. في المقام الثالث، هناك التنظيمات والأفراد الذين ظلوا في “إعلان دمشق”. هؤلاء، والمعتقلون منهم، يجعلون من النظام “آخرهم”، ويشكلون استمرارا لتاريخ المعارضة والتزاما بمفهومها. و”بقايا وشم الحملة الغربية على العالم العربي” هؤلاء هم أيضا المعنيون بمعالجة أزمة المعارضة. فهل هم مؤهلون للتصدي لها؟ إنهم أيضا القوى الأكثر معاناة من أزمة هوية لكون أكثرهم شيوعيين وقوميين عرب سابقين ومراجعين، دون أن يتبلور لهم توجه فكري واضح بعد (يصفهم خصومهم بأنهم “ليبراليون”، وهذا لا يعادل عندهم غير نعتك خصمك بأنه شيوعي قبل خمسين عاما). ولعل التقاء أزمة الهوية مع أزمة العمل المعارض الراهنة يسوغ التحول نحو سياسة دفاعية تشغل إعادة بناء الذات محورها. وفي أساس سياسة كهذه إعادة النظر في العتاد الفكري السلطوي أو الاستبدادي الموروث وتطوير ثقافة انشقاقية مضادة لإيديولوجية الممانعة، وكذلك في العتاد التنظيمي الذي إما أنه نَفوذٌ أصلا لتأثير الروابط العضوية الموروثة أو أنه آل إلى امتصاص أخبث خصائصها البنيوية وإلى مماثلتها فكريا.
بعد طور أول من أطوار عمل موجة المعارضة الراهنة، بدأ في عام 2000 وانتهى بتشكل “إعلان دمشق” في خريف 2005، وغلب فيه التوجه الإصلاحي؛ وطور ثان انحازت فيه المعارضة السورية إلى التغيير، ونصطلح أن الأزمة التي تفجرت بعد انعقاد اجتماع المجلس الوطني في نهاية العام الماضي هي نقطة نهايته؛ يتلامح اليوم طور ثالث، سيكون من المناسب أن يتحرر من التمركز حول مسألة السلطة، إن إصلاحا أو تغييرا، ليتحول نحو إعادة بناء حركة المعارضة ومفهومها.
التقدير الشخصي لكاتب هذه السطور هو أنه لا مخرج قريبا من أزمة المعارضة السورية. سبق الكلام على اكتهال عام فيها. سبقت الإشارة أيضا إلى أجواء موبوءة في الوسط المعارض نفسه. كذلك سبقت الإشارة إلى حضور “سياسة المشاعر”. هذه عوامل ثلاثة تجعل المعارضة مشدودة إلى الماضي. بينما يحتاج الخروج من الأزمة إلى توجه نحو المستقبل.
وإذا تذكرنا ما تكلمنا عليه في بداية هذه المقالة من أزمة مزمنة وبنيوية، تمد جذورها في بنى السلطة والثقافة وصيغ الانتظام الاجتماعي القائمة في سورية منذ نحو نصف قرن، فهمنا أكثر وأنصفنا أكثر تعذر خروج قريب من أزمة المعارضة السورية. إذ يبدو أن مشكلات الزمنية القصيرة (اعتقالات، انقسامات، تغير موازين القوى النسبية بين السلطة والمعارضة..) تلتقي مع مشكلات الزمنية المتوسطة (مزيج من الكوربوراتية والأهلية في المجتمع، تقادم العتاد الفكري والتنظيمي للمعارضة، الاكتهال وقلة الشباب، تجدد شرط “الدولة الخارجية” أو التوافق البنيوي بين الاستبداد المحلي والخارج الغربي..) لتجعل الخروج من الأزمة غير متاح دون تأسيس فكري وسياسي وتنظيمي جديد للعمل العام في سورية. هذا أمر يستغرق سنوات طويلة. وهو يدرج تعافي المعارضة من أزمتها ضمن تعافي سياسي عام في البلد، يشكل تغيير النظام السياسي في اتجاه ديمقراطي وجهه الآخر. نريد القول إن معارضة جديدة ناهضة غير ممكنة دون نظام سياسي جديد في سورية. وهما معا وجهان لتجديد شباب سورية وتجاوز الشيخوخة العمرية والفكرية والسياسية التي تهدد بإعدام مستقبل هذا البلد الفتي.
كأن جيلا عمريا وسياسيا وفكريا يُطوى. وكأنما لا مناص من ذلك.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى