القمة الرباعية في دمشق…حذار من التطيّر
عريب الرنتاوي
رفع الإعلام السوري من سقف التوقعات والتقديرات لمغزى “القمة الرباعية” الأخيرة في دمشق، ودلالة نتائجها، أما الإعلام اللبناني “الصديق” لسوريا فحار في تسمية القمة من دون أن تسعفه الجغرافيا أو الإيديولوجيا، فلا هي “رباعية” عربية ولا إسلامية ولا متوسطية ولا أوسطية، وكان واضحا شغف هذا الإعلام في تأطير لقاء عابر، ورفعه إلى مستوى المحور، ووضعه في تقابل مع “رباعية الاعتدال العربي” أو “الرباعية الدولية”.
بعض “عباقرة الإستراتيجية”، تفكيرا ومعطيات، اجتهدوا أكثر من غيرهم لإسباغ مزيد من الأهمية على حدث لا أحد ينكر أهميته على أية حال، ولكن من دون مبالغة أو تطيّر، فصوا حضور نيكولا سراكوزي القمة كناطق باسم أوروبا لا كرئيس فرنسي فقط، والشيخ حمد آل ثاني بوصفه رئيس مجلس التعاون الخليج لا كأمير لقطر فحسب، أما الرئيس السوري، فمن باب تحصيل الحاصل أن يقدم كزعيم للأمة ورئيس للقمة وليس كرئيس سوري فحسب، في حين لم تسعف تركيا “عباقرة المعطيات الإستراتيجية”، فاكتفوا بتقديم رجب طيب أردوغان بصفته “المتواضعة” كرئيس للوزراء التركي.
القمة الرباعية في دمشق، لا شك مهمة، وهي تعبر عن نجاح الدبلوماسية السورية في اجتياز عنق الزجاجة الذي وجدت نفسها تختنق فيه منذ جريمة الرابع عشر من شباط 2005، فالعلاقة السورية – الفرنسية، تشكل اختراقا سوريا مهما لأطواق العزلة الأمريكية – الأوروبية المضروبة حول دمشق، الآخذة في التفكك التدريجي على أية حال، إذ أن هناك أكثر من “باريس واحدة” تقترب بخطى وئيدة من سوريا، وهذا نجاح يسجل للدبلوماسية السورية لا عليها.
والعلاقة بين دمشق والدوحة، تمثل اختراقا سوريا لمجلس التعاون الخليجي، وقد ثبت في قمة دمشق الأخيرة، أن التأثير السعودي على دول مجلس التعاون لم يعد كسابق عهده، إذ رفضت عدة دول الفيتو السعودي على المشاركة في القمة، وقررت المشاركة على أرفع المستويات المعتادة (الكويت وقطر والإمارات على المستوى الرئاسي)، عُمان على مستوى أقل قليلا، والبحرين على مستوى وزاري.
والعلاقة بين دمشق وأنقر، تأخذ شكل التحالف الاستراتيجي، وهي تتطور في شتى المجالات، وتشكل نافذة سوريا الوسع نحو الغرب وإسرائيل من جهة، ومعادلا موضعيا لتحالف استراتيجي آخر بين دمشق وطهران من جهة ثانية، وقد أصبحت هذه العلاقة أحد ثوابت السياسة الخارجية السورية في السنوات العشر الأخيرة التي أعقبت التوقيع على “اتفاق أضنة” بين الجانبين، وتبديد مناخات التوتر والتصعيد في علاقاتهما الثنائية.
كل هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا، الذي تدركه دمشق ولا يتحدث عنه إعلامها وبالأخص الإعلام اللبناني “الصديق”، أن الحاضر الغائب في قمة دمشق كانت واشنطن على المستوى الدولي، والقاهرة والرياض على المستوى العربي أو الإقليمي، وقد كان الأسد واضحا وشفافا في مخاطبته واشنطن من فوق أكتاف ضيوفه الثلاثة، فهو ربط تقدم المفاوضات السورية الإسرائيلية بالرعاية الأمريكية لها، وطلب إلى فرنسا التدخل لتحقيق هذه الهدف تحديدا، وتبديد العوائق التي تحول دون عودة المياه إلى مجاريها بين واشنطن ودمشق.
ثم إن إعلان الرئيس السوري أن “دولا تدعم رسميا” التطرف السلفي في طرابلس، وتوسعه في الحديث عن مخاطر هذا التطرف وانعكاساته على الاستقرار الهش في لبنان، هو رسالة لمن يعنيهم الأمر، خصوصا في الرياض، بأن دمشق لم تعد معزولة، وأن من الأفضل التعاون معها، قبل ارتداد السحر على الساحر، وتحول طرابلس من عبء يراد له أن يثقل كاهل سوريا، إلى فرصة لها لتجديد دورها في لبنان من بوابة الشمال، وبضمانات دولية هذه المرة كما في مرات سابقة، وكان واضحا أيضا أن الخدمات السورية التي تعرض بصورة مباشرة وغير مباشرة، لاحتواء الخطر السلفي وتصليب الوضع اللبناني الهش، يمكن أن تأتي بالتعاون مع السعودية ومصر، أو من دونهما.
بالطبع، لا يمكن القول أن القادة الثلاث الآخرين يوافقون مضيفهم السوري في كل ما ذهب إليه، فلا أردوغان معني بمحور المقاومة والممانعة، ولا الأمير القطري بصدد الفكاك من شبكة علاقات قطر وتحالفاتها الإقليمية والدولية، أما الرئيس الفرنسي، وهو الضيف الأكثر إثارة للاهتمام، فقد رسم علاقته المستجدة مع دمشق وفقا لثلاثة معايير وضوابط هي: (1) أن فرنسا لا تغرد ولن تغرد خارج السرب الأطلسي الأوروبي الأمريكي، ولذلك شدد على أن واشنطن تعرف ما يفعل وما يقول في دمشق…(2) أن دمشق والأسد ما زالا تحت المجهر الفرنسي، وفي مرحلة الاختبار، وكلما تقدم دمشق والأسد على طريق التجاوب مع المطالب والشروط الفرنسية في لبنان تحديدا والمنطقة بصورة عامة، كلما أمكن تطوير هذه العلاقات، وكل مرة تعود فيها سوريا للتدخل بصورة غير مقبولة دوليا في لبنان أو غيره، ستعود هذه العلاقات للانتكاس…(3) أن فرنسا لا تريد لسوريا أن “تعتدل” وحدها، أو تغادر محور “المقاومة والممانعة”، بل وأن تعلب دورا في تدوير الزوايا الحادة في مواقف شركائها، وتفكيك هذا “المحور” ودفع أطرافه للقبول بما يطلب إليهم، من البرنامج النووي إيرانيا، إلى قضية شاليط إسرائيليا، فضلا بالطبع عن قضايا ضبط الحدود ووقف تسليح حزب الله إلى غير ما هنالك مما نعرف وما لا نعرف من مداولات في الملفات الساخنة والحساسة.
إذن، نحن أمام خطوة سورية نوعية على طريق الخروج من عنق الزجاجة وقبضة الحصار والعزلة، بيد أن دمشق ما زالت قيد التجربة وتحت الاختبار، والأهم أننا لسنا أمام إطار دولي – إقليمي جديد، نحن أمام قمة نظمتها سوريا، قد تتكرر وقد لا تتكرر، بدلالة أن ساركوزي الذي لم يترك عاصمة شرق أوسطية من دون أن يزورها، من دون أن يحظى بكل هذا “الضجيج الدمشقي”، حرص من “قصر الشعب” على دعوة من يشاء للالتحاق بأية اجتماعات مستقبلة، وخصوصا القاهرة والرياض، وهي دعوة لا تأتي منسجمة مع اتجاهات هبوب الريح السورية.