المَشاهِد المتقطّعة لمسرحية المفاوضات الإسرائيلية السورية!
وهيب أيوب
لا شك أن أي تحليل لمسار المفاوضات واللقاءات السورية-الإسرائيلية العلنية منها والسريّة، المباشرة وغير المباشرة منذ توقيع اتفاقية فصل القوات في جنيف نهاية أيار عام الـ 74 على جبهة الجولان وحتى اليوم، مرتبط بحل مجموعة ألغاز وأسرار هزيمة الـ 67 وسقوط الجولان، وربما ما قبلها بقليل أيضاً. وأن أي انطلاق بالتحليل يتجاهل تلك المعطيات سيفضي لنتائج غير صحيحة، لا بل خادعة. وربما المُراد منها أشياء وأهداف أُخرى غير مرتبطة مُطلقاً بالوصول لاتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل وإرجاع الجولان، بل لخدمة أجنّدة خاصة لكلا الطرفين تخدم أهدافهما كُلٌ من وجهة مصالحه، سيّما وأن تلك المفاوضات باتت كمسلسل مُقطّع الأوصال ومشاهِد لا نهاية لها، بحيث تعود لتبدأ في كل جولة من نقطة الصفر.
أولاً: إن المُحرّض الأساسي على الحرب قُبيل الخامس من حزيران ولأشهر عديدة كان نظام البعث في سوريا، والذين دفعوا بعبد الناصر لإغلاق مضائق تيران وطرد القوات الدولية وباقي المسلسل المعروف، من مزايدات نظام دمشق في حينه، الذي كان يدّعي قادته السياسيون والعسكريون أنهم جاهزون لتحرير فلسطين، وتناول الغداء في تل أبيب، إضافة لتصريح وزير دفاعهم آنذاك حافظ الأسد أنهم يأخذون بالحسبان أيضاً دخول الأسطول السادس الأميركي في المعركة. إلى هذا الحد كانت الجهوزية!
ولن نُعيد ونزيد في قصة سقوط الجولان بالشكل المُريع والمُخزي الذي تمّ بعد تخلّي قادة الجبهة والجيش عن جنودهم على طريقة “عسكري دبّر راسك” وانج بنفسك، فيما عُرِف حينها عن الانسحاب الكيفي وبيان سقوط القنيطرة رقم 66 قبل وصول الإسرائيليين إليها بساعات وعلى بعد كيلومترات عديدة منها، إضافة وهو الشيء الأهم عدم الاكتراث لتهجير ونزوح 131 ألف مواطن سوري من مدن وقرى الجولان (وعددهم اليوم يقارب النصف مليون “نازح”) والذين كانوا موزّعين على أكثر من 140 موقع سكّاني بين مدينة وقرية ومزرعة، مُنتشرين من أقصى شمال الهضبة إلى جنوبها، ولماذا يتم إهمالهم والتعتيم الإعلامي بحقهم من قِبل النظام بكونهم مُهجّرين من أراضيهم منذ أكثر من أربعين عاماً؟! على الرغم من تجربة نزوح الفلسطينيين وتهجيرهم قبل ذلك التاريخ بعشرين عاما أثناء نكبة الـ 48؛ فكيف تكرّرت نكبة التهجير تلك مع نظام كان يدّعي ثقافة التشبث بالأرض وكامل الجهوزية لاستعادة فلسطين وإعادة أهلها الذين هُجّروا إليها؟ فلا الفلسطينيين عادوا، ولا السوريين ثبتوا بأرضهم! إضافة للعديد من التساؤلات والألغاز والأسرار التي لم تُحلّ شيفرتها حتى اليوم، والتي طُرحِت في العديد من الكتب والمقالات من شهود عيان ومن قادة وشخصيات هامة كانت مشاركة في السلطة في تلك المرحلة على الصعيدين العسكري والسياسي.
والمُستغرب أنه منذ ما بعد توقيع اتفاقية فصل القوات في العام 74 وظهور حافظ الأسد وهو يرفع العلم السوري فوق مدينة القنيطرة البالغ مساحتها 50 كم2 من أصل 1250 كم2 تحتلهم إسرائيل إيحاءً للشعب السوري والعرب بأن الجولان قد تحرّر؟! وهذا ما يُفسّر سلوك النظام فيما بعد وتجاهله المقصود لما تبقّى من أراضٍ محتلّة وأن مواطنين سوريين ما زالوا يعيشون هناك في خمس قرى هي: مجدل شمس وبقعاثا وعين قنيه ومسعدة والغجر، وربما شعر النظام بإحراجٍ كبير حين أعلن هؤلاء إضرابهم الشهير عام الـ 82 الذي استمر حوالي الستة أشهر، ورفضهم ضم الجولان لإسرائيل، إضافة لرفضهم استلام الجنسية الإسرائيلية.
ثم ماذا عن مضمون الاتفاق الذي تم بين أميركا والنظام عام 76 وبموافقة إسرائيلية للتدّخل السوري في لبنان، وما هي الأثمان التي دُفِعت مقابل ذلك؟ وبعد ذلك في العام 91 في الحرب العدوانية على العراق الذي شارك بها النظام بقوات عسكرية، بعد أن أشبعنا شعارات عنترية غوغائية ضد الإمبريالية وأميركا والرجعية العربية على مدى عقود. فماذا كانت الاتفاقات أو الصفقات التي وُقّعت حينها، وما هي الأثمان المقبوضة والمؤجلة؟!
إن غموض النظام الحاكم في تعامله مع كل قضايا الوطن الهامة والإستراتيجية، وعدم إطلاع الشعب السوري ومؤسسات الدولة على ما يتم من اتفاقات هامة مع أطراف خارجية تحتل أرضاً سورية، سواء الجولان من قِبل إسرائيل أو تركيا للواء الإسكندرونه، بحيث لا يعرف السوريون حتى اليوم ماهية وفحوى الاتفاقية الموقّعة مع الطرف التركي عام 1999، بعد قدوم اللجنة العسكرية التركية إلى سوريا، وهل تم التنازل عن اللواء نهائياً للأتراك أم لا؟ خاصة بعد تحسّن العلاقات السورية التركية بشكلٍ مفاجئ ودراماتيكي بعد أن كانوا يهدّدون باجتياح سوريا وتدميرها على أهلها. وهل كان كافياً للأتراك التخلّص من الزعيم الكردي عبد الله أوجلان وحزبه وطردهم من سوريا أم أن للأمر بقية؟!
والشيء المُلفِت والأهم، رفض إسرائيل الدائم لأي محاولة أميركية أو غربية لمحاصرة النظام السوري بُغية إسقاطه، لا بل أبدى الإسرائيليون والأميركيون أيضاً ارتياحاً واطمئناناً لانتقال السلطة عام 2000 من الأسد الأب إلى الأسد الابن… وهو المطلوب.
كل ذلك وغيره من تغييب تام للشعب السوري ومؤسسات الدولة التي باتت بمجملها تابعة لأجهزة أمنية متعدّدة تتبع مباشرة لقصر الحاكم وحاشيته المُقرّبة فقط. حتى أن عبد الحليم خدّام المُنشق عن السلطة والمُشارك فيها لعدة عقود، لم يستطع الإفضاء بأي معلومات هامة عما يجري في سوريا وعن كيفية اتخاذ القرارات وتوقيع الاتفاقات. كل هذا الغموض يجعل التخمينات مفتوحة على مصراعيها وفي كل الاحتمالات والاتجاهات.
لا يمكن لأي تحليل علمي ومنطقي أن يخرج بنتائج معقولة إذا كان لا يمتلك المعطيات والمعلومات التي على أساسها سوف يستند لنتائج تحليله. ففي ظل نظام أمني مُهيمن على كل مقدرات البلد، لا يثق بشعبه وشعبه لا يثق به، يبقى الإبهام والغموض هو المُسيطر على كل تصرفات السلطة في سياساتها الداخلية – خاصة الاقتصادية ومدخولات النفط – والخارجية على حدٍ سواء.
في بلدٍ لا قضاء مستقّل فيه ولا قانون مُحايد ولا حياة سياسية لأحزاب غير أحزاب السلطة ولا صحافة حرّة ولا مؤسسات مجتمع مدني حقوقية أو غيرها تستطيع العمل بشكلٍ حر. إضافة للقمع المروّع للمعارضة والاعتقالات المُستمرة ومحاكمات شكلية يقررها الحاكم على هواه. وفي ظل إعلام سلطوي مُهيمن على كل شاردة وواردة يبات الحصول على معلومات وحقائق في أي أمرٍ من أمور البلد تبقى مهمة شبه مستحيلة.
زِد على ذلك نهج السلطات الأمنية المستمر حتى اليوم تجاه المعارضة، وهو استمرار اعتقال مناضلين أمثال محمد موسى ومشعل تمو والشاعر هوزان شيخموس محمد “هوزان بادلي” وغيرهم على طريقة العصابات باختطاف “مشعل تمو” وإنكار وجوده. ثم ليمثل لاحقاً أمام محكمة صورية وليواجه بتهم النظام الفولكلورية المعروفة. إضافة لما اكتنفه التعتيم وإخفاء المعلومات عن العديد من الاغتيالات التي تتم على مرأى ومسمع أجهزة النظام في سوريا إن لم تكن بيده، ليس بدءا بمحمود الزعبي ولا انتهاءً بمحمد سليمان، ليزداد الأمر تعقيداً على تعقيد وغموضاً فوق غموض؟! فالأجهزة الأمنية حجبت حتى الآن 160 موقعاً إلكترونيا في سوريا، ناهيك عن الأحداث والاعتقالات والاغتيالات التي جرت العادة أن يكون السوريون آخر من يعلم بها؟!
في تلك الظروف التي تحوّل فيه الوطن إلى غابة موحشة ومظلِمة لا يعرف المواطن فيها متى وفي أي لحظة ومكان تتلقفه فيها الوحوش لتقتاده إلى الجحيم. في ظل هكذا ظروف تعمّ الوطن السوري كلّه، من تدهور اقتصادي وسياسي واجتماعي لا يمكن التنبؤ بما قد يحدث.
لقد وصف أحد المحللين الإسرائيليين سوريا بقوله: سوريا نظام قوي ودولة ضعيفة. إذن لماذا يتنازلون عن الجولان وفي ظل أي موازين قوى؟
إن أي اتفاقية “سلام” تتم في الظروف وموازين القوى الحالية سوف لن تكون بكل تأكيد أفضل من “كامب ديفيد” أو “أوسلو” أو “وادي عربه” وستكون في أفضل الظروف مُجرد انتقال العلم الإسرائيلي من قمة حرمون في جبل الشيخ إلى قمة قاسيون في دمشق دون أي سيادة وطنية على الجولان أو عودة النصف مليون نازح الذين هُجِّروا عام 67.
لهذا عليكم أن تنتَظِروا مزيداً من الجولات التفاوضية المسرحية والتي لن تُفضي لأي نتيجة. ثم ترقّبوا ما هي الصفقة المُقبِلة في حال ضُرِبت إيران؟…. فلننتظر.
وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس \ 10\9\2008
خاص – صفحات سورية –