حوارات المبادئ والمصالح في القمة الرباعية الدمشقية
مطاع صفدي
قد لا يكتب المشرق العربي عناوين تحولات العالم للقرن الواحد والعشرين في عقده الافتتاحي، لكنه من دون شك، يسجل واحداً من نصوصها الرئيسية. ويبدو أن فرنسا ستكون السباقة إلى قراءة سطوره الأولى، إذ أنها لا تكتفي بهذه القراءة، بل سوف تشارك كذلك في كتابة مقاطع هامة، من متن هذا النص الفريد عينه. رئيسها ساركوزي لا يأتي بجديد لا تعرفه تقاليد (السياسة العربية) لفرنسا. كما أنه ليس في وارد انبعاث مثل هذه السياسة حسب منطلقات تراثها الديغولي، الذي استمر أكثر من أربعة عقود.
وكانت رئاسة شيراك حافلة بكل التظاهرات الدبلوماسية المؤكدة لخصوصية العلاقات الفرنسية العربية عامةً. وهي تظاهرات جنى الاقتصاد الفرنسي في ظلها مكاسب كبيرة، وخاصة إبان أزماته الكثيرة المتلاحقة. كما أن النفوذ الثقافي الفرنسي استطاع المحافظة على معدلات تأثيراته المعهودة بالرغم من الاجتياح اللغوي الأنكلو أمريكي لألسنة الأجيال العربية الصاعدة. إلا أن عقول النخب الثقافية، لا يزال أكثرها يفكر بحسب القواعد المعرفية الديكارتية، أو أنه يعتقد ذلك. فإن باريس مثلاً، أمست منذ أن كتب مكتشفها الرائد، الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، نموذجَ العاصمة الطوبائية أو المخيالية، لالتقاء الحلمين شبه المستحيلين، الحرية والمدنية، بالنسبة لمجتمعات التخلف والقمع التي تتوارثها طلائع النهضة العربية المغدورة بين عصر كارثي وآخر، دونما قدرة جذرية على إحداث أية انقطاعات في سلاسلها المعدنية المنخورة.
العودة السياسية لفرنسا إلى صميم الحدث العربي المشرقي له باب واحد، هو دمشق. لكنه هو (الباب الضيق) الذي كان عنواناً لأحد مؤلفات أندريه جيد. والضيق هنا ليس بمعنى الامتناع عن تقبل الضيف، بل هو التعبير عن شدة الحفاوة، لدرجة الالتصاق به أو استيعابه أحياناً، وذلك بالرغم من كل نعوت (السياسة الواقعية) التي تحف بهذا اللقاء بينهما، ومن ثم بالقمة الرباعية. فالسياسة ليست صفقات بيع وشراء فحسب، فهي، وكما تعلّمها ثقافة الغرب دائماً لمواطنيها على الأقل، الوسيلة المجتمعية العليا التي حصلتها تجارب الأمم، من أجل إحكام العلاقة الأخلاقية، بين منطق المنافع المباشرة لكل طرف على حدة، وبين المبادئ الكلية التي ينبغي أن يخضع لها مجموع الأطراف على قدم المساواة أو التكامل معاً.
ومن هنا يصح التصور أنه لا يمكن لفرنسا الساركوزية أن تلعب أدوار السمسرة لحاجات غرب متأمرك ومتصهين، وتتناسى في الوقت عينه، أنها هي فرنسا الرائدة، سليلة الشرعية الكونية لإعلان حقوق الإنسان. وعلى هذا لا يمكن لساركوزي أن يعتز بكونه هو المتعهد لموضوع فك العزلة الأوروبية والإقليمية عن سورية لقاء شروط معينة قد يحققها كلها أو بعضها، آجلاً أو عاجلاً.
فالشعب العربي السوري يجهل (ثقافة) هذا المصطلح المشبوه: فرض العزلة الدبلوماسية أو فكّها. لا يشعر شعب الشام أنه كان معزولاً يوماً ما، ولأية أسباب مصطنعة أو قائمة.
فحين يبدو أن نظامه السياسي قد يتمسك ببعض ما يعتقد به هذا الشعب، حين يدعم الشعب حق المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان، لن يضيره ذلك إن وُصفت دولتُه بالخروج عن معايير القبول أو الرفض لدى الغرب.
بل سوف يزعجه إن تخلت دولته عن هذا الترميز لانتمائها الطبيعي إلى أحد أبسط المبادئ الكونية، وهو التضامن التلقائي مع المظلومين ضد الظالم الطاغي.
المغزى الاستراتيجي لتظاهرة دمشق الدولية، يتلخص في هذا الهدف وهو قطع الصلة بين السياسة كمبادئ، وبين السياسة كمصالح. ويبدو أن محاولة الغرب الأوروبي، كما يسميها، في فكّ عزلة سورية، مشروطة بنجاح السعي الفرنسي إلى زجّها في مأزق أكبر من صراع المبدأ والمصلحة في سياسة النظام الحاكم، الخارجية تحديداً. فإن انتزاع سورية من أدوارها التاريخية المفترضة، طبع سياسة غربية قديمة، منذ مرحلة استقلالها..
ولقد ترجمت الانقلابات العسكرية المتلاحقة خلال العقود الأولى من مسيرة الاستقلال، هذا الجدلَ العنيف بين سورية المبادئ كما يديرها ويفهمها شعبها، وبين سورية الأنظمة الحاكمة العاكسة لجدلية المبدأ والمصلحة، وصراعهما الواقعي الشرس، تحت ظل المتغيرات الدولية والإقليمية الضاغطة، والمتدخلة دائماً في الشأن الاستقلالي والسيادي للدولة العربية الناشئة، سواء كانت سورية أو العراق أو لبنان وكل أقطار العرب حديثة الكيانات الدولتية المعترف بها من قبل المجتمع العالمي بهيئاته التشريعية الكبرى. وهو الاعتراف الذي ترفض القوى العظمى أن تأخذه على محمل الجد. فمن وجهة النظر هذه ينبغي أن تُفهم هذه الهجمةُ الأوروبية الراهنة، وبقيادة فرنسا الساركوزية؛ إنها في الواقع هجمة استيعاب للشأن العربي مجدداً، من خلال إحدى آخر رموزه الاستقلالية التي هي سورية الشعب والدولة معاً. فإنه، وبصرف النظر عن كل العلاقات الملتبسة داخل الهرم السوري بين قمته وقاعدته، تبقى الشام هي إحدى أغنى ذخائر العصر النهضوي العربي، المكتنزة بتجاربه الريادية، كأفكار ومبادرات، وتمارين شاقة رهيبة، شكلت، أو شاركت في تدوين الأسماء التاريخية النيرة أو الزائفة منها، لمنعطفات الحقب التغييرية التي أودت بمعظم رهانات رواد النهضة المعاصرة. ولكن بقيت سورية التاريخية، أي كما عرفها هؤلاء الرواد وتعرفوا إلى ملامحها الآتية كذلك، أشبه بنموذج الرسالة المحلقة دائماً فوق رؤوس أجيالها، تذكر المنهزمين الكثر منهم، بوقائع الخطيئة وأسبابها، كما تحاول في الوقت عينه تجديد عزيمة الناجين، القلّة، منهم؛ بإقناعهم أن للنجاة ثمناً، قد لا يقلّ فداحة- في حال العجز عن تطويرها والحفاظ على مكتسباتها العامة – عن ثمن السقوط ثانية في جحيم الانحطاط القومي الشامل المداهم لمجمل دول الاستقلال العربي المحتضر، مع معانيه الحضارية الآفلة. لكنه هو الثمن الآخر الأنبل الذي يتطلب من السياسي العربي الناهض الجديد عدم القفز دائماً ما فوق مسافة الالتباس الأخلاقي بين المبدأ والمصلحة؛ ألا تتجلى براعته فحسب، في جعل معيار المصلحة، هو في اكتساب مصلحة أخرى، بل هو في ممارسة القدرة السياسية عبْر إعادة صياغة المصالح كمفرادات واقعية للمبادئ عينها.
تطرح البراعة السياسية ذلك التساؤل العريق فكرياً، والقديم ولكن المستحدث دائماً، ألا وهو: إلى أي حد يمكن أن تستعاد معارك التحرر الوطني للشعوب المستضعفة عبر اللعب الذكي على تناقضات الأقطاب الكبار. ذلك أن الحاجة تاريخية عملية واضحة لانبثاق تعددية القوى العظمى من جديد، وكسر كل احتكار قيادي أمريكي همجي لمصائر الحضارات. فمن دواعي استئناف الدفاعات المجدية عن استقلالية الإرادة الوطنية، أن التحرك السوري الراهن يأتي متواقتاً إلى حد ما مع بداية المتغيرات الدولية نحو علاقات توازن مختلفة عما كانت عليه. فقد لا يكون العالم مقدماً على حرب باردة ثانية لكن ظهور دول الكتل السكانية والإقتصادية ذات الحجوم المليارية غير المسبوقة تاريخياً، سوف يفرض حجوماً سياسية لها على المسرح الدولي تكافئ ثقلها البشري والمادي ذاك. وكان العرب هم من أوائل الأمم المستقلة لما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن رواد الاستثمار السياسي لتلك المساحات الصغيرة من هوامش الحرية المتناثرة بين قطبي الحرب الباردة، الرأسمالي والاشتراكي؛ فنجحوا في استغلالها إلى حدٍ ما في دعم استقلالات دولهم الناشئة. حتى يمكن القول أنه لولا تلك الظروف الموضوعية لأوضاع العالم المنقسم على نفسه آنذاك، لما أمكن الانتهاء من عصر الاستعمار الغربي التقليدي.
واليوم يواجه العالم، والعرب في المقدمة، ما يشبه الانتهاء من عصر الاستعمار الأمريكي. لكنها مواجهة حافلة بأعنف الأحداث، والمفاجئ منها بشكل خاص. سوف يظل الصراع الأمريكي والصهيوني ضد الاستقلال العربي، وتحت أية يافطات دينية ومذهبية وعنصرية، يشكل ساحة مركزية لتجارب ولادة عالم الغد، من أجل مستقبل إنساني مختلف. هذا الصراع أمسى يتخطى في نتائجه أفقَه الإقليمي؛ وقد تقرأ أوروبا ملامح هذا التغيير، قبل غيرها. وهكذا ينبغي لبعض العرب كذلك أن يشرعوا في استنهاض سياسات جديدة نابعة عن أفكارهم وسواعدهم. فسورية كانت، ومعها مصر، في طليعة الريادة العربية لمشروع عالم ثالث مستقل وحيادي في زمن توازن الرعب النووي. كان العالم الثالث هو من أهم عوامل ثبات هذا التوازن. كان مانعاً إلى حد بعيد من انفجار الكارثة العظمى ونهاية الإنسانية. كان مجالاً رحباً لتنفيس الاحتقانات الخطيرة بين العملاقين، في نقل الصراع بينهما من مستوى الحدية المطلقة، إلى مستوى صراعات من الدرجات الثانوية، تتمثل في التنافس على اكتساب مناطق النفوذ والأحلاف والثروات، و كانت كلها في نطاق دول العالم الثالث وضواحيه.
إذا كان ثمة رؤية استراتيجية يمكن النظر من خلالها إلى هذا الحدث العربي الأوروبي البالغ الأهمية في آفاقه الآجلة أكثر منها العاجلة، فهي أنه ثمة عودة لسياسة المبادئ في قيادة سياسة المصالح، بالرغم من كل صفقات المنافع الظاهرة والمتبادلة بين أطراف المبادرات الجديدة. مهما قيل أن فرنسا تلعب أدوار الرديف للإمبراطور الأمريكي، إلا أنها مع ذلك لا يمكن لرئيسها الحالي أن ينأى بذاته كلياً عن تراث ‘السياسة العربية’ لفرنسا. وانفتاحه الواسع على سورية ربما يأتي من تقدير تاريخي وموضوعي لما يعنيه كيان هذا البلد بالنسبة للخارطة الجيوسياسية المشرقية التي غالباً ما تبدو كدوائر منداحة حوله. فلبنان مثلاً، مهما تصور بعض زعماء انعزاله أنه يمعن في تضاده لسورية بقدر ما يؤكد استقلاله السياسي عنها، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينتزعه من كينونته الجغرافية التاريخية، وبالمقابل لا يمكن لأي سياسي سوري أن يرد لبنان إلى مجرد جبل وسهل وساحل في بلاد الشام الشاسعة الواسعة. فالمشرق، من المتوسط إلى العمق الآسيوي، هو خضم هائل من التنوع الموحد في آن معاً. لا يتأثر ببعضه فحسب، بل يقذف بتداعيات تحولاته إلى أوسع مدى خارج أقاليمه وقارته. وقد أثبتت عواصف العقد الأول للقرن الحالي أن هذا المشرق هو الإغراء الأعظم للإمبراطوريات، وهو المبدّد لأوهامها المتوحشة كذلك.
القمة الرباعية الدمشقية مدعوة حقاً لاستثمار لحظتها التاريخية الآتية في أزمان القحط لتبشر بحكمه عربية إقليمية، وهي أن متغيرات (الخارج) أحياناً قد تحل بعض استعصاءات (الداخل). فالنظام السوري الذي يسجل نقاطاً إيجابية في لعبة المبادئ والمصالح مع القوى العالمية، مطالب من جديد أن يرفع من مستوى تحديات الداخل المجتمعي والشعبي إلى سوية تحديات الخارج الإقليمي والدولي. بمعنى أنه آن الأوان للكفّ عن معالجة الأقفال الجديدة بمفاتيحها القديمة الصدئة. وفي الوقت الذي يتبنى فيه المجتمع السوري، وربما المجموع الشعبي العربي معه، إنجازات نظامه الدولية، فإنه يجدد انتظاره لتبني نظامه حاجات البلد الكيانية لولادة المجتمع المدني في شروطه السيادية والعصرية معاً.
وتلك هي مهمة لم تعد مستحيلة عندما يتقن القادة والنخب معاً التعامل مع معادلات المبادئ كحاكمية للمصالح، وللمصالح كمفرادات واقعية للمبادئ.
تماماً على غرار تمارين القمة الرباعية. الواعدة حتى الآن.
القدس العربي