ساركوزي في دمشق: منعطف تاريخي ؟!
موفق نيربية
على مبدأ البحث عن تحقيق خطوات «تاريخية»، احتاج نيكولا ساركوزي كما يبدو إلى القبول بتخفيف الضوء الذي كان مقدّراً أن يتركّز عليه وحده في دمشق، ودعوة رئيس الوزراء التركي والأمير القطري لاجتماع رباعي أعمق تأثيراً.
وكانت القمة الرباعية صورة جديدة معبّرة عمّا يجري أو يمكن أن يجري. تذكّر بصور اجتماعات شرم الشيخ العديدة، وإن كانت الأولى أكثر اهتزازاً أمام عدسة المصوّر العابر. تلك يكون مبدؤها «الاعتدال»، وهذه تعمل على «التعديل» باتجاه الاعتدال، بوجود سماسرة محترمين كبار، لا تجّار أصحاب مصالح مباشرة.
وعلاقة فرنسا بسورية ولبنان قديمة جداً، تكاد تكون من عمر فرنسا نفسها. كان الفرنسي المأخوذ بالعيش في «المشرق»، يُسمّى «المشرقي». علاقة ليون ومرسيليا بحلب وبيروت قديمة و«عضوية» بشكل من الأِشكال، وعندما ابتدأ مرض «الرجل المريض»، اختارت فرنسا أن تكون حامية للكاثوليك في المشرق، حتى تحتفظ لنفسها بموطئ قدم.
حين جاءت بعثة كنغ-كرين لاستطلاع رأي السكان في الدولة الكبرى التي يودّون أن تكون منتدبة من قبل عصبة الأمم لرعاية شؤونهم في مرحلة انتقالية لبناء دولتهم القابلة للحياة، اختار السوريون آنذاك وفضّلوا الولايات المتحدة أولاً، ثم بريطانيا، وأخيراً فرنسا. فجاءت فرنسا.
بالطبع كان الأمر تقاسماً استعمارياً موصوفاً، تعمل من خلاله كلّ دولة من الدول المنتصرة على جمع الغنائم الجاهزة، أو النفوذ اللاحق. فانتعشت الوطنية في المشرق، مع مطالب الاستقلال في دولٍ أخذت تتبلور ملامحها، جغرافياً وسكانياً. لكن صفاتها المكوِّنة كانت تتشكّل بالتفاعل مع «المستعمر» نفسه، فظهرت نوى المجتمع المدني، وصيغة حكم القانون، ومجتمع الحريات، وتأسست البنية التحتية بأشكالها الأولى… الصحيحة.
حتى الآن، هنالك من يقول: هذه من أيام فرنسا، لم تتغيّر إلى الأفضل، ما لم تكن قد تراجعت! وهذه الأقوال شائعة من دون تسجيل ولا طباعة بالطبع. ولكلّ ما سبق من حديث سبب، هنالك عودة إليه في النهاية.
الآن: يقول الإعلام السوري (الرسمي بالطبع)، إن «ما جرى في دمشق كان منعطفاً تاريخياً على مستوى المنطقة والعالم، وكان تأكيداً للدور الكبير والمهم الذي تلعبه سورية، ويمكن أن تلعبه لاحقاً، من أجل الأمن والاستقرار والسلام».
وهذا يمكن أن يكون صحيحاً، إذا حذفنا صيغ المبالغة المعتادة، وبشروط.
فهنالك احتمال تحقيق انعطاف في السياسة الخارجية السورية، والإقليمية منها على وجه الخصوص. جوهر هذا الانعطاف هو التحوّل عن سياسات المواجهة، والاعتقاد بأن المواجهة تحقق مكاسب يومية أكبر، وأكثر ضماناً. هو اعتقاد بأن «قبضاي الحارة» قادر على تغيير أوضاع الحلبة أو تخريبها، والجميع يحتاج من ثَمّ إلى رضاه، وهذه لم تعد سياسة، لا في التعريف ولا في العلوم المستجدّة في العالم الجديد.
فهنالك «انعطاف» في لبنان، ابتدأ يتأكّد باتّفاق الدوحة، وانتخاب رئيس للجمهورية، كنا نظن أنه لن يأتي، ثم تشكيل الحكومة ونيلها الثقة على بيانها الوزاري، بشقّ الأنفس في كلّ خطوة، ولكن بتجاوزها دائماً.
القمة الرباعية في دمشق، إذا وضعت الأسس للمرحلة القادمة من الصراع على أرض لبنان، فساعدت على نزع فتيل الفتنة في طرابلس، وأرست لطريقة الحوار حول سلاح «حزب الله» على الطاولة المقترحة، تكون قد أسست للانعطاف فعلاً. وكلّ شيء متعلّق بالموقف السوري في العمق.
وهنالك «انعطاف» في مسار التسوية السورية-الإسرائيلية، تستطيع القمة الرباعية أكثر ما تستطيع أن تساعد على تطويره بالاتجاه الأسلم والأكثر فعالية. الوجود الفرنسي بذاته ضمانة أرفع لمثل هذا الاتّجاه، ليس من خلال الموقف الفرنسي (الأوروبي) الأقرب إلى النزاهة والحياد وحسب بل أيضاً من خلال العلاقة الفرنسية الإسرائيلية، والعلاقة الفرنسية الأميركية خصوصاً. إن الوجود الفرنسي العملي في هذا السياق يمهد لوجود أميركي لا بدّ منه لتحقيق شيء على هذا المسار، بل يمهّد لوجود أميركي من نوعية أفضل أيضاً.
هنالك «انعطاف» محتمل آخر، هو في أن يصبح ممكناً أن تلعب السياسة السورية دوراً في عقلنة السياسة الإيرانية، والمساعدة على إخراج الملف النووي من دائرة خطر الحرب والتحديات الهوجاء.
لكنّ كلّ هذه الانعطافات غير مضمونة، ما لم تتأسّس على انعطاف آخر، عميق في الأرض، قائم على المجتمع المدني وحكم القانون والحريات… والبنية التحتية الصحيحة والصحية. هذا الكلام للحكومة الفرنسية أيضاً، التي خرجت مذمومة مدحورة من قِبَل البريطانيين والأميركيين والسوفييت والوطنين السوريين عام 1946، قبل أن تنهي واجباتها، القانونية والأخلاقية… والتاريخية. ولن يكون منعطف من دون ذلك!
صديقي يتوقّع الأسوأ دائماً، ويكسب الرهان، ولا يريدنا أن ننتظر شيئاً ممن لا يُعَوّل عليهم. ونحن في حرج!
* كاتب سوري