انقاذ الرئيس من اسئلة الفرنسيين والصحافي الذي تنطّح للامور الخطيرة!
توفيق رباحي
كان الأمن مستتبا والأجواء لطيفة والناس مستريحين مستمتعين بما يشاهدون ويسمعون، وكأنهم في عرس عائلي في تلك القاعة الملكية بذلك القصر الجمهوري.
لم يشعر أحد بغربة أو اغتراب. حتى الذين لا يتحكمون في لغة من لغتي التخاطب في ذلك الحفل، خُصصت لهم مترجمتان وقفتا على الجانب في انضباط واستقامة جميلين كأنهما في فرقة كورال، تترجمان حرفيا بدقة تستحق الثناء، واحدة من العربية الى الفرنسية والأخرى العكس.
المشهد مثير بمعنى الكلمة. لم يكن، قبل سنة من الآن، يخطر على بال أحد أن يشاهده أو يعيشه. كان يوما تاريخيا نادرا ما شهدت مثله سورية رغم القمم الكثيرة و’التاريخية’ التي شهدتها وشهدت عليها عواصم تلك المنطقة في السنوات الأخيرة والتي ارتبطت كلها بحرائق وأزمات تلد الواحدة الأخرى.
لم يشعر أحد أبدا بأن ضيف سورية، الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، غير مرتاح أو يستعجل انتهاء الوليمة والانصراف. أكاد أقول أنه أوشك أن يغني ‘يا ليل طوّل’ كي يتسنى له قول كل شيء والاستماع لكل شيء. كان واثقا من نفسه وكأنه في بيته، رغم الأسئلة المحرجة (المطروحة علنا والتي تدور في خلد الحاضرين والغائبين) عن دور فرنسا المنحاز للحكومة اللبنانية في أزمات بيروت المتكررة، ولإسرائيل في صراعها الخالد مع جيرانها. وبدا ضيف الشام متنازلا هذه المرة عن دور رسول الديمقراطية (كما تنازل عنه بتونس) وتلقين الآخرين دروسا في الحكمة والحكم. يبدو أنه راعى واجب الضيافة. أو أن الديمقراطية لم تعد أولوية في مثل تلك الزيارات واللقاءات الهامة، كل ما هنالك أسئلة يمليها بعض الحياء وواجب البروتوكول مدفوعا بتشويش بعض المنظمات الحقوقية الدولية، التي أشعر أنها، بعد زمن قصير، ستعلن اغلاق محلاتها وترفع الرايات البيضاء.
ولم يشعر أحد بأن الرئيس بشار الأسد محرج أو متضايق من شيء رغم الأسئلة المحرجة عن ‘العلاقة الحميمية’ مع إيران، وهي في العرف الرسمي السوري لا تستحق كل هذا الضجيج في باريس وشقيقاتها من العواصم. ورغم الأسئلة الأخرى عن تفاصيل المفاوضات مع اسرائيل، وهي في العرف الرسمي السوري محرجة بل وتكاد تكون غير موجودة. ورغم الأسئلة الأخرى عن حقوق الانسان في سورية والمعتقلين السياسيين بسجونها، وهم في العرف السوري ليسوا أسوأ حالا من سجناء غوانتانامو، وحقوق الانسان بها ليست أسوأ من العراق الأمريكي.
العكس تماما هو الأصح، كان الأسد الوريث يرد بثقته المعهودة في نفسه مضافا إليها قليل من الأريحية وربما الافتخار بكون سورية اضطرتهم جميعا الى القدوم إليها وطلب ودها، ويصح فيها القول الفرنسي: يضحك حقا من يضحك في الأخير!
ثم فجأة.. يتغير كل شيء! يتناول صحافي من التلفزيون السوري الميكرفون في طابور الصحافيين السائلين ويسأل بجرأة ولغة عربية تشبه لغة المحاضر الرسمية: سيدي الرئيس بشار الأسد، السيد الرئيس نيكولا ساركوزي.. هل لكما ان تحدثانا عن الاتفاقات الاقتصادية التي ناقشتماها؟
ساركوزي في سورية في هذه الظروف لمناقشة اتفاقات اقتصادية؟ الله.. من قال هذا؟ لكن دعونا نفترض انه حدث ان ناقش الرئيسان مسائل اقتصادية (وكان بينها مذكرة تفاهم حول التنمية المحلية)، أين أهميتها قياسا بالمفاوضات مع اسرائيل والمشكلة النووية الإيرانية وموضوع الحقوق والحريات داخل سورية؟
لحظتئذ قلت في قرارة نفسي: هذه لا يمكن أن تكون إلا مؤامرة! أية ذبابة استفزت منخار هذا الصحافي التلفزيوني (أعرف شكله لأنني حدث أن شاهدته في نشرات أخبار وبرامج بالتلفزيون السوري) لكي يشعر بأن عليه انقاذ الموقف بحرف النقاش الى المسائل الاقتصادية التي هي، في العرف الرسمي السوري، موجودة وبقوة ـ بل قد لا يوجد غيرها؟
ربما لأنه لا يستطيع المغامرة بطرح سؤال عن التفاوض (غير الموجود في العرف السوري) مع اسرائيل. وربما سرّبوا له ورقة أن انقذ رئيسنا من أسئلة هؤلاء الصحافيين الفرنسيين الأوغاد الذين لا يتورعون عن طرح أي سؤال، فقفز، مستجيبا، الى مقدمة الطابور. وربما تصرف بصدق مدفوعا بحسه القومي والمهني المُغذى من أدبيات حزب البعث السوري والثقافة السياسية في البلاد عموما. وربما شيئا من كل شيء، فكان ما كان.
يا معشر القراء والقارئات.. أنا أخوكم ومنكم، لا تلوموني على جنوحي الى ‘نظرية المؤامرة’، فقد جنحت لها بعدما جنحوا لها. لهذا أعذروني إن سوّلت لي نفسي ظن هذه الظنون بزميلنا السوري. أقول هذا مؤمنا بأن في بلاد مثل سورية (وأزيد اليمن وتونس والسعودية والجزائر والبلاد الأخرى.. حتى لا يغضب السوريون) هناك ثقافة سياسية تجعل صحافيا ما يعتقد، في مثل الموقف السوري المذكور آنفا، أن عليه الدفاع عن شرف القبيلة وانقاذ سمعة أولي الأمر وحماية صورتهم.
هناك دائما شعور بوجود استنفار تحسبا من غدر الآخر، خصوصا من ناحيتنا. وفي حالة سورية/فرنسا يكاد الاستنفار (السوري) يجد تبريره في حالة الثقة القليلة أو المفقودة، وفي كون الجروح والاساءات المتبادلة لا تزال حديثة، فما أن يسأل صحافي فرنسي رئيس سورية عن العلاقات مع اسرائيل (أو بوتفليقة مثلا عن صحته) حتى تشعر كأن جبرائيل تسلل بطاقية الاخفاء فوق الرؤوس هامسا: يا أيها الناس هذه مؤامرة والسائل يريد احراج رئيسكم والاساءة له فماذا أنتم فاعلون؟!
هذه الحالة تشبه الى حد ما التلفزيون المصري (بكل قنواته) يومي السبت والأحد وحادثة انهيار جبل المقطم على سكان كانوا أصلا أمواتا:
التقارير الدولية تقول: ارتفاع الحصيلة الى كذا قتيل، والتلفزيون المصري يغرّد: الرئيس مبارك أعطى توجيهاته بسرعة التكفل بالمصابين وإيواء الناجين. التقارير الدولية تقول: السكان يشتكون من الاهمال رغم تحذيرات سابقة، والتلفزيون المصري يرد: استنفار القوات المسلحة وعمليات الانقاذ تسير على ما يرام.. الخ من شهادات الزور.
أكاد أجزم بأنه بعد انتهاء زيارة الرئيس ساركوزي الى دمشق، كان بين الصحافيين السوريين من انتابته رغبة في كتابة شيء عن حركات وسكنات وتصرفات البعثة الصحافية الفرنسية، والعكس صحيح من جانب الصحافيين الفرنسيين.
القدس العربي