صفحات سورية

باريس تخاطب دمشق وعينها على طهران

د. سعيد الشهابي
ربما من السابق لأوانه الحديث عن تغير جوهري في السياسات الاستراتيجية السورية بما في ذلك تحالفاتها وسياساتها الاقليمية. فاذا كانت زيارة الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، مؤشرا مهما لتغيرات جوهرية محتملة، فان زيارة الرئيس الاسد الى موسكو الشهر الماضي تضع سورية في موضع اللاعب السياسي الماهر الذي يتحرك بجدارة في مباراة ساخنة بين فرقاء يسعى كل منهم لاحراز نقطة ضد الآخر بأي ثمن. مع ذلك فلا بد من الاشارة الى عدد من المتغيرات التي تحظى بأهمية غير قليلة عند النظر الى سورية من منظور استراتيجي.
أول هذه المتغيرات غياب الرجل الذي صاغ سياسات بلاده بيديه على مدى اكثر من ثلاثين عاما، والذي جعل من سورية رقما صعبا في المعادلات الاقليمية لا يمكن تخطيه او سبر اغواره بسهولة. ثانيها ان الخروج المفاجئ من لبنان قبل ثلاثة اعوام كشف حجم الضغوط التي تواجهها سورية من جهة واستعداد قيادتها للانحناء امام العاصفة من جهة اخرى. ثالثها ادراك القيادة السورية الحالية، بزعامة بشار الأسد، مدى جدية الغربيين، خصوصا الولايات المتحدة الامريكية في التصدي لبلده، خصوصا بعد ما حدث للعراق، الذي كان محكوما من قبل حزب البعث الذي يحكم سورية حاليا (برغم المفارقات العميقة بين الفصيلين البعثيين). رابعها: شعور سورية بالتداعي التدريجي لبعض الجهات التي تستند اليها، خصوصا سقوط الاتحاد السوفياتي، وما احدثه ذلك من اضعاف لكل من كان محسوبا عليه. خامسها استشعار النظام السوري بجدية الولايات المتحدة وحلفائها في التصدي له ان استمر في سياسات الرفض التي ميزت حكم الرئيس حافظ الاسد والتي ساهمت في عدم انجاح السياسات الغربية خصوصا في مجال فرض السلام من وجهة نظر الغرب على المنطقة. يضاف الى ذلك ما بدا من ‘تصدع’، وان كان محدودا، في بنيان النظام، بعد هروب نائب الرئيس، عبد الحليم خدام، الى فرنسا في مطلع 2006، واعلانه معارضته العلنية للنظام الذي عمل معه طوال حياته. سادسها، فتح الملف الايراني من قبل الدول الغربية على مصراعيه بشكل سريع بعد سقوط نظام بغداد، وما أدى اليه من ترهيب لمعارضي السياسات الامريكية. سابعها: تداعي الموقف الليبي المناوئ للغرب بشكل مفاجئ للكثيرين، والقبول باملاءات الولايات المتحدة خصوصا ازاء ثلاث قضايا اساسية: المشروع النووي الليبي الذي سلم بالكامل لواشنطن، وملف الارهاب الذي يشارف على الانتهاء بعد موافقة ليبيا على دفع تعويضات لضحايا طائرة ‘بان آم’ التي سقطت في 1989 فوق قرية لوكربي في شمال انكلترا، وتخلي ليبيا عن دعمها الحركات الثورية المناهضة للهيمنة الامريكية والاحتلال الاسرائيلي.
هذه التطورات ادت الى تغيرات نفسية دفعت القيادة السورية الى اعادة حساباتها الداخلية والاقليمية والدولية، وفرضت تغيرا في نمط تعاطي دمشق مع القضايا السياسية والتحالفات والعلاقات. وحتى هذه اللحظة لا تبدو دمشق قد حسمت امرها بشكل نهائي، فما تزال تتشبث ببعض الثوابت في سياساتها الخارجية وتحالفاتها الاقليمية، وتسعى للتوفيق بين امرين: ابداء مرونة في تلك القضايا على امل تجاوز الضغوط الامريكية الهائلة التي تتوقع ان تخف نسبيا بعد الانتخابات المقبلة، والاحتفاظ، ما أمكن، بالعلاقات مع الدول والجهات التي كانت ‘حليفة’ على مدى العقود الثلاثة الماضية مثل ايران وحزب الله وحماس وبقية الفصائل الفلسطينية المناوئة للمشروع الامريكي الصهيوني في فلسطين.
سورية اليوم تشعر بضرورة الوفاء لـ ‘الماضي الثوري’ بالشكل الذي لا يؤثر على واقعها ومصالحها، كنظام وبلد وشعب. والرئيس بشار الاسد يسعى لدور اكثر ديناميكية في العلاقات الخارجية، ويوفر لسورية قدرا من الحضور الفاعل على المستويين الاقليمي والدولي. والواضح ان ‘صدمة لبنان’ كانت مفصلا مهما في التفكير الاستراتيجي السوري. جاء ذلك بعد حادثة التفجير التي اودت في 2005 بحياة رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، ووجهت اصابع الاتهام الى سورية. وبدأ الضغط الامريكي والفرنسي (في عهد الرئيسي السابق جاك شيراك الذي تحمس كثيرا ضد سورية آنذاك) متمثلا في تشكيل لجنة تحقيق دولية للبحث عن الذين نفذوا عملية التفجير، ثم المطالبة بالتحقيق مع مسؤولين كبار في النظام السوري.
كان واضحا ان حقبة مهمة في التاريخ السوري الحديث قد شارفت على الانتهاء، وان دمشق امام استحقاقات خطيرة لن يستطيع احد وقفها. الرئيس بشار الاسد تحرك بسرعة لاحتواء آثار تلك الازمة، فأجرى تعديلات جوهرية على سياساته ومواقفه، ادت الى عدد من الامور: اولها قرار الانسحاب الفوري من لبنان بعد ثلاثين عاما من التدخل في اطار ما كان يسمى آنذاك ‘قوات الردع العربية’ لوقف الحرب الأهلية في ذلك البلد. ثانيها قرار ‘الاعتراف’ بلبنان كبلد مستقل، للمرة الاولى منذ الانسحاب الفرنسي في الاربعينات من القرن الماضي، بما في ذلك تبادل السفراء الذي يحدث للمرة الاولى ايضا. ثالثها: الدخول بشكل اكثر جدية في ‘مفاوضات’ مع العدو الاسرائيلي بمبادرة تركية. ومع ان سورية كانت قد دخلت في العام 2000 في مفاوضات مماثلة، ولكنها اصبحت اكثر جدية هذه المرة في سبر اغوار مشروع السلام الغربي، برغم التحفظات الايرانية العلنية (وربما الرفض السري). رابعها: استعداد دمشق لغلق ملف ‘المجموعات الثورية’ التي تعتبرها واشنطن ‘ارهابية’ والبدء بتحجيم وجوداتها في دمشق. ويتردد الآن ان السيد خالد مشعل، وزير خارجية منظمة ‘حماس’ قد ينتقل منها الى بلد آخر مثل السودان. خامسها: اتخاذ دمشق خطوات عملية لتحسين ملف حقوق الانسان لديها باطلاق سراح الكثير من السجناء، وفتح هامش الحريات، والتركيز على بناء الاقتصاد بتبني ‘الاقتصاد الحر’، والتحول التدريجي من الاقتصاد الاشتراكي.
جاءت زيارة ساركوزي لسورية على خلفية هذه التطورات التي لا يمكن التقليل من شأنها. الجانب السوري من جانبه، يشعر بان لديه اوراقا يستطيع تحريكها والمساومة عليها لتقوية موقفه التفاوضي سواء مع الكيان الصهيوني ام مع القوى الغربية. فعلاقاته مع ايران لا يمكن التقليل من شأنها. وتعلم سورية ان جانبا كبيرا من قوة موقفها ينبع من ذلك التحالف، وانها بدونه، ستصبح مكشوفة تماما امام الضغوط الغربية. ومواقفه الداعمة للقوى المناهضة للاحتلال الاسرائيلي وفرت له وسيلة فاعلة للضغط على الاطراف الاخرى. وعلاقاته التاريخية بروسيا، هي الاخرى، عامل قوة يوفر له قدرة تفاوضية غير قليلة.
فبامكان الرئيس السوري التلويح بالورقة الروسية اذا ما مورست الضغوط ضد بلاده بشكل اوسع. وخلال زيارته الاخيرة لموسكو اتضح امران مهمان: اولهما ان سورية وقفت سياسيا مع موسكو في ازمة جورجيا، وثانيهما: انها حصلت على تعهدات روسية بالحصول على اسلحة جديدة، في الوقت الذي كان الغربيون يسعون فيه لتكثيف الضغوط السياسية والعسكرية على سورية. ولذلك جاءت المفاوضات الاخيرة بين دمشق وباريس على خلفية متينة من العلاقات المتنامية بين دمشق وموسكو الى الدرجة التي دفعت رئيس الوزراء الاسرائيلي للاتصال بالرئيس الروسي، دمتري مدفيديف، للاستفسار عن مشروع التسليح السوري. هناك اذن تداخل معقد بين التفاوض السوري الاسرائيلي والعلاقات السورية الروسية، والتواصل الاسرائيلي الروسي، يتسم بالشد والجذب وتسجيل النقاط. الرئيس الفرنسي يتحرك ضمن الاجندة الغربية عموما، ولا يستطيع ان يطرح ما يتناقض مع السياسات الامريكية.
والواضح من خلال الزيارة والتصريحات المتزامنة واللاحقة معها، استمرار خطاب الاستعلاء الغربي في التعاطي مع الدول العربية والاسلامية. فالزيارة تعتبر، في المنظور الغربي ‘احتضانا لسورية في المجموعة الدولية’ وانها ‘كسر لسنوات من العزلة’، وانها جاءت لافهام سورية بايجابيات ‘التعاون والمرونة بدلا من الانعزال والتشدد’. والواضح ايضا انها محاولة لتشكيل محور اقليمي واق للكيان الاسرائيلي من اي خطر قادم من ايران او المجموعات المناهضة للاحتلال الصهيوني. فلا شك ان دخول تركيا بهذه القوة على محور التفاوض والتطبيع بين الدول العربية و’اسرائيل’ عنصر قوة للمشروع الامريكي الهادف لتحقيق تطبيع في العلاقات بين العالم العربي والاحتلال الصهيوني من جهة، وتوفير حماية امنية لذلك الكيان، وضرب المجموعات الرافضة للاحتلال والتطبيع من جهة اخرى. سورية تسير في هذا الخط بوعي يخالطه الخوف والجزع من وجود خطط لضرب النظام واسقاطه. فسورية ليست ايران، سواء من حيث النظام السياسي ام الايديولوجية السياسية ام الامكانات البشرية والاقتصادية. ولتبرير سيرها في طريق التفاوض بالشكل الذي تم به، تروج دمشق رغبتها في التوسط مع ايران حول مشروعها النووي، وهو امر ليس خافيا، اذ ان الغربيين يطرحونه كذلك. ولكن ماذا تستطيع دمشق او غيرها عمله في هذا المجال؟
فايران ملتزمة بخطاب ثابت في موقفها وسياستها، ولم تبد اي تراجع او تنازل في اي من القضايا موضع اهتمام الغرب.
ففي المجال النووي تصر على حقها في امتلاك دورة تصنيع كاملة بما يتيح لها انتاج الطاقة النووية التي اصبحت حاجتها لها ملحة بسبب تصاعد الطلب المحلي على الطاقة مقارنة مع امكاناتها النفطية المحدودة. اما بخصوص ‘اسرائيل’ فلم تترك ايران مجالا للتشكيك في موقفها الرافض للاعتراف بوجود الكيان الاسرائيلي على اساس انه كيان غاصب احتل اراضي الغير ويستمد شرعيته من قوته العسكرية والدعم الامريكي له. وبالتالي لا ترى ايران غضاضة في دعم القوى الثورية المناهضة لذلك الكيان ولا تسعى لاسترضاء الغربيين حول ما تعتقده قضايا مبدئية وعقيدية.
ومع ان كلا من دمشق وطهران تصران على ابداء شيء من التوافق، فالواضح ان ايران تشعر بان استدراج سورية بعيدا عن محور مقاومة الاحتلال الاسرائيلي ومقاومة الهيمنة الامريكية على المنطقة تطور سلبي تسعى لاحتوائه ومنعه من اضعاف موقفها واصرارها على استقلال قرارها وعدم الخضوع للضغوط والابتزاز.
ان من السابق لاوانه تحديد مدى توافق امريكا مع فرنسا ازاء خطة احتضان سورية ضمن المشروع السياسي الغربي في المنطقة. ولا بد من التأكيد على عدم رضا واشنطن على عدد من الخطوات الفرنسية برغم التناغم في التفكير والمصالح المشتركة بين ساركوزي والادارة الامريكية. فقد انزعجت واشنطن من دعوة الرئيس بشار الاسد الى باريس في احتفالات يوم الباستيل في شهر تموز (يوليو) الماضي، مشيرة الى اعلان دمشق في وقت سابق استعدادها لاستقبال صواريخ روسية على اراضيها في ضوء الازمة التي نجمت عن قرار الولايات المتحدة بتنصيب صواريخ في بولندا. ولكن الجانب الفرنسي ينطلق من ضرورة توفير حوافز مناسبة لسورية لاقناعها بجدوى انتهاج سياسة اكثر ‘استقلالا’ عن الجمهورية الاسلامية الايرانية، وأقرب الى الدول الغربية. مع ذلك لا يمكن اخفاء التعارض في المواقف السورية بين الرغبة في تمتين العلاقات مع موسكو من جهة، والاستعداد للتعاطي مع المبادرات الغربية، وآخرها ما حمله الرئيس الفرنسي، من جهة اخرى.
البعض يصفها بـ ‘الواقعية السياسية’ والآخر يعتبرها ‘براغماتية من نوع جديد’، بينما يراها آخرون انها ‘استجابة لضرورة’ انطلقت بعد ان اصبحت سورية امام فوهة المدفع الامريكي لاسباب عديدة: اولها الموقف السوري التاريخي المحسوب على خانة اعداء الكيان الاسرائيلي والمحرضين على قتاله، والثاني ما يقال عن دعم سوري للمجموعات ‘الارهابية’ التي تعمل في العراق وتخترق الحدود السورية العراقية بشكل منتظم، والثالث احتضان المجموعات المسلحة المقاومة لـ ‘اسرائيل’. وسوف يبقى السجال قائما حول مدى وجود تفاهم حقيقي بين باريس وواشنطن حول الخطوة الفرنسية لاحتواء سورية ضمن المشروع الغربي في المنطقة. سورية، من جانبها، لا تقل رغبة في ‘التذاكي’. فبغض النظر عن مدى قناعتها بالسير ضمن ذلك المشروع، فقد وافقت على مسايرته على امل تخفيف الضغوط الموجهة ضدها.
وليس معلوما بعد مدى التنسيق مع طهران حول هذه الخطوات. ففي خلال زيارته الثالثة للعاصمة الايرانية في مطلع الشهر الماضي، استعرض الرئيس الاسد مع الايرانيين كافة القضايا موضع الاهتمام بين البلدين خصوصا الملف النووي الايراني الذي كان الاسد قد ناقشه مع الرئيس الفرنسي خلال احتفالات يوم الباستيل. الفرنسيون، من جانبهم، حريصون على مد الجسور مع ايران، بشرط ان يكون هناك ‘تهدئة’ حول نقاط التماس خصوصا المشروع النووي الايراني والموقف من ‘اسرائيل’. فلو استطاعت فرنسا تحقيق اختراق مع ايران، فسوف تستطيع اقناع الاتحاد الاوروبي بموقف أقل تشددا وأكثر قدرة على لعب دور في المنطقة التي تبدو حتى الآن خاضعة بشكل شبه كامل للمشاريع الامريكية غير المتوازنة.
ان من الصعب اصدار حكم على حقيقة توجهات الحكم السوري برغم استعداده للتفاوض مع ‘اسرائيل’ وما ينطوي عليه ذلك من اعتراف رسمي بالكيان الاسرائيلي. ومن الصعب ايضا التنبؤ بمستقبل التحالف السوري الايراني فيما لو عقد اتفاق ‘سلام’ بين دمشق وتل ابيب. الأمر المؤكد ان الطرفين ليسا مستعجلين لفك الارتباط بينهما، فلكل منهما مصالحه الخاصة من استمرار العلاقة الاستراتيجية والتعاون الوثيق.
الامر المؤكد الثاني ان ثمة تغيرات غير قليلة قد طرأت على السياسة السورية، وان علاقاتها بايران لن تكون بمنأى عن ذلك. فدمشق تستدرج، وطهران تراقب بحذر وترقب، وواشنطن غير مطمئنة، وربما تجد باريس نفسها في مضمار متعثر لا تجيد السباق فيه ولا تأمن عثرة السقوط.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى