سوريا والعراق: بعض ما يجمع وما يفرّق
أُبيّ حسن *
من نافل القول إنّ الضغوط الغربية بشكل عام، والأميركية منها بشكل خاص، على النظام السوري جدية، وهذا ما يستدعي أخذها بعين الاعتبار، وخاصة أن مشروع إعادة هيكلة الشرق الأوسط ليس مجرّد نكتة لا أساس لها من الصحة، إذ إن معطيات السياسة الأميركية والغربية ونتائجها على أرض الواقع، ولا سيّما لبنان وحتى العراق، تشي أن موضوع مشروع الشرق الأوسط الجديد جدّي. ولأنّه كذلك، بات الكثير من السوريّين يخشى مصيراً مشابهاً للمصير العراقي، وهي مخاوف مشروعة.
ولئن كان ثمّة تشابه قد يزيد أو ينقص في سياسات النظامين البعثيّين (العراق سابقاً وسوريا)، إلا أنّ ثمّة فروقاً خدمت سوريا، وخاصة في السنوات السبع المنصرمة، لم تكن موجودة في العراق، وهي فروق تصبّ في مصلحة السوريّين، بمعنى حال وقوع ما يخشى منه. ومن شأن تلك الفروق أن تكون أشبه بعاصم في ما يخصّ مستقبل سوريا، وفي الحدّ الأدنى من شأنها أن تجعل مستقبل السوريّين أقلّ بؤساً ممّا آل إليه العراق راهناً. إذ ثمّة في سوريا معطى واقعي عايشته (ولا تزال وإن كان بنسب محدودة الآن)، ألا وهو أنّ الشعب السوري سنحت له الظروف (لأسباب عدة) لممارسة الحوار السياسي والعمل في الشأن العام منذ قرابة ست أو سبع سنوات وإن كان قد تخلّل هذه السنوات الكثير من الاعتقالات التعسّفية طالت الكثير من النشطاء كميشال كيلو وأنور البنّي وعارف دليلة ورياض درار حمّود وفائق المير وسواهم من بعض نشطاء «إعلان دمشق» كما جرى لاحقاً.
وفيما يخصّ ممارسة السوريّين للحوار في الشأن العام ربما كان تاريخ هذه الممارسة يعود إلى مرحلة دخول الفضائيات منازل الناس أواسط تسعينيات القرن الماضي، وخاصة فضائية «الجزيرة» التي على شاشتها شاهد المواطن السوري كيفية تحطيم الأوثان البشرية «المقدّسة» سلطوياً. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نجد أن الانترنت يغزو سوريا (وإن كان ببطء) بما فيه من مواقع حافلة بالشأن السوري (قبل أن يتمّ إغلاق المُعارض منها تباعاً)، وما كان يتيحه من منابر أفسحت مكاناً للحوار بين وجهات النظر المتباينة، وقد كان من شأن هذه المواقع أن خفّفت بشكل نسبي من غلواء الاحتقانات المتراكمة بفعل هيمنة السلطة على المجتمع.لاجئون عراقيّون ينتظرون دورهم لكي يسجّلوا أسماءهم في سجلّ اللاجئين في سوريا في 13 من الشهر الجاري (باسم تلاوي – أ ب)لاجئون عراقيّون ينتظرون دورهم لكي يسجّلوا أسماءهم في سجلّ اللاجئين في سوريا في 13 من الشهر الجاري (باسم تلاوي – أ ب)
هذه المعايشة من جانب السوريّين لوسائل التكنولوجيا الحديثة التي أفرزتها ثورة المعلومات بكلّ مزاياها وإيجابياتها لم يكن يعرفها الشعب العراقي مطلقاً قبيل سقوط بغداد حسب زعمنا. بهذا المعنى، فإنّ الشعب العراقي انتقل مباشرة من صقيع الاستبداد الصدّامي بكلّ ما فيه من خواء وانعدام للحوار بين أطياف المجتمع ومعرفة ماهية (أو مأسسة) فكرة تقبّل الآخر الشريك في الوطن، إلى فراغ معنوي ونفسي ثانٍ من غير المرور بأي تجربة حوارية افتراضية كتلك السورية التي روّضت، ولا تزال، الشعب السوري وإن كان في الحدود الدنيا.
من جانب آخر، نجد أنّ المعادلة الطائفية والعرقية في سوريا تختلف عمّا هي عليه في العراق من حيث شماله الكردي ومثلّثه السنّي وجنوبه الشيعي. ففي سوريا ولأسباب لها علاقة بوجود الجبهة العسكرية على مقربة من العاصمة السورية، ولأسباب سلطوية، وأخرى اقتصادية وسياسية، تمّ كسر المعادلة الطائفية التقليدية في العاصمة، ولئن كان لمثل ذلك الكسر من تبعات سلبية عديدة قد يكون في مقدّمتها ترييف المدينة بكلّ ما لكلمة ترييف من معاني السلبية، إلا أنّ لها ثمرات ايجابية عدّة خاصة على المدى البعيد، كما هو مفترض.
في السياق ذاته، من المفترض أنّ التجربة المرّة التي عاشتها سوريا في ثمانينات القرن الماضي، بالإضافة إلى تجارب الجزائر وأفغانستان في ما مضى وما يجري في العراق اليوم، أن تشكّل بمجموعها عاصماً للسوريّين من العودة إلى دائرة العنف والعنف المضادّ حال حدوث أي تدخّل خارجي في سوريا.
ولئن كان المجتمع السوري طائفياً عبر تاريخه ــــــ حسب حدود معرفتنا المتواضعة ــــــ وقد زاد من هذه الطائفية ممارسات (بعض) السلطة الاستفزازية في أكثر من منحى، إلا أنه ليس مجتمعاً متعصّباً طائفياً، وشتان ما بين الطائفية والتعصّب الطائفي، وإن كنا نلمح بعض جزر التعصّب المتناثرة هنا أو هناك من الجسد السوري، إلا أنها دون فاعلية أو تأثير يُذكَر حتى الآن.
من جانب آخر، يرى البعض أن الخطاب الإسلامي السياسي السوري الذي تتزعّمه حركة «الإخوان المسلمين السوريين» يبدي، في ظاهره، الكثير من الوطنية والمرونة والتسامي على الجراح، فضلاً عن استيعابه الكافي لما تعايشه سوريا من أزمات داخلية، وإن كان قد بدأ مؤخّراً بحوار مع الأميركيّين حسب ما يُقال، وعلاقات مع بعض دول «الاعتدال» العربي، وهي علاقات يمكننا وضع أكثر من إشارة استفهام حولها.
انطلاقاً ممّا سلف ذكره وممّا لم نذكره، يرجّح الكثيرون أنّ وضع الداخل السوري مغاير نسبياً عن وضع الداخل العراقي قبيل سقوط صدام حسين، وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن مستقبل سوريا قد يكون مختلفاً عما آل إليه الراهن العراقي حال حدوث أي تدخّل خارجي، فضلاً عن أن لا أحد من أطياف المعارضة السورية ــــــ داخلاً وخارجاً ــــــ يؤيّد التدخّل الخارجي، لا بل إن الكثير من معارضي الخارج يجهرون بمعارضتهم لأيّ تدخل خارجي!
* كاتب سوري