الإسلام الأوروبي: بعد جديد
جمال باروت
ارتبط مفهوم الإسلام الأوروبي أكثر ماارتبط بوجود الجاليات المسلمة المهاجرة في الدول الغربية، وبروز مشكلات اندماجها في مجتمعات تلك الدول،
وأثار بحكم إشكاليته أسئلة متعددة وشائكة عن مضمونه ووظيفته وطبيعته. غير أن استقلال دولة كوسوفو التي كثيراً مايشار إليها على أنها أحدث دولة في القرن الواحد والعشرين طرح معنى آخر للإسلام الأوروبي لايرتبط بوجود أقليات مسلمة مهاجرة إلى مجتمعات تشكل المسيحية دين غالبية سكانها، ويقوم تنظيم العلاقة فيها بين الدولة والدولة على قاعدة الفصل العلماني أو” السيكولاري” بل يرتبط بشعوب أوروبية أصيلة يشكل الإسلام دين غالبية مواطنيها منذ 600 سنة، ولاتواجه المشكلات التي واجهتها وماتزال تواجهها الأقليات المسلمة في البلدان الغربية من مشكلات اغتراب واندماج، وضرورة بلورة فقه أقليات بالنسبة إلى بعض اتجاهات تك الجاليات.
ونعني هنا على وجه التحديد الدول التي يدين معظم مواطنيها بالإسلام في البلقان، مثل جمهورية البوسنة والهرسك ودولة كوسوفو وجمهورية ألبانيا قبلهما، والتي يشكل المسيحيون أقليات دينية فيها. و تمثل دولة كوسوفو أحدث هذه الدول التي قام دستورها على حل مسألة الأقليات الاثنية القومية والدينية على أساس ” مساواتي” بين المواطنين، يضمن لكافة المجموعات الدينية التي ينتمون إليها حرية العقيدة ومزاولة الشعائر والحريات الدينية بوصفها مجموعات، كما يضمن لكل مواطن” حرية العقيدة” بما في ذلك حقه قانوناً بتغيير دينه، والانتقال من دين إلى دين آخر، بوصفه مواطناً، مع النص دستورياً على أنه “لا يحق لأحد أن يرغم على ممارسة الدين أو يمنع من ذلك ضد رغبته”.
ليست دولة كوسوفو من الناحية الدستورية لادولة إسلامية ولادولة قومية للألبان الذين يشكلون غالبية مواطنيها الساحقة بل” دولة جميع المواطنين”. وهذا شيء جديد في تاريخ نشوء الدول التي تمر عادة بمرحلة تكوين غالبيتها الاثنية لدولتها القومية ثم تواجه في مرحلة ثانية مسألة التطور إلى دولة جميع المواطنين. كما أنه جديد من زاوية أن نمط دولة جميع المواطنين قد ارتبط بدرجة أساسية بالدول التي تشكلت عير موجات من الهجرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوستراليا.. إلخ وليس بنمط الدول التي شهد تاريخها تكون حركات قومية قوية فيها.
يعني ذلك أن الحركة القومية الألبانية الحديثة التي تعود جذورها الأساسية إلى الرابطة القومية التي أسسها القوميون الألبان في مدينة برزرن في العام 1878، والتي مايزال المنحف الصغير لمؤسسيها قائماً حتى الآن في مسجد المدينة قد وافقت على تخطي مرحلة بناء الدولة القومية في كوسوفو إلى دولة جميع المواطنين مباشرةً، كما التزمت بالتخلي عن مفهوم” ألبانيا الكبرى” أو” المتكاملة” في تعبير بعض منظّريها، وهو مايقابله التزام صرب كوسوفو بالتخلي عن” صربيا الكبرى” مع أنهم يشكلون أقلية محدودة في دولة كوسوفو الجديدة.
لقد كان قبول الحركة القومية بمبادىء” هذا” الاستقلال المشروط” ثمناً لابد له للتخلص من السيطرة الصربية التي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وحاولت أن تدمج كوسوفو في عهد ميلوسفويتش بصربيا الكبرى بواسطة التطهير العرقي والإبادة. ويمكن القول هنا أن هذه الحركة قد قدمت تنازلات” إيديولوجية”، لكن قبولها بمزيج من” علمانية” الدولة ذات المرجع الفرنسي و” سيكولارية” الدولة ذات المرجع الأنكلو- ساكسوني ليس من قبيل” التنازلات: بل ينبع- وهذا مهم- من صلب مفاهيمها التي قامت منذ العام 1878 على الفصل بين الدين والدولة. فخلافاً للصرب الذين شكلت الكنيسة الأروثوذكسية مكوناً أساسياً لحركتهم القومية فإن الحركة القومية الألبانية قامت على صيغة” المصالحة” بين الدين والقومية في شكل الفصل بينهما.
يقدم تاريخ الحركة القومية الألبانية تعبيراً منمذجاً عن ذلك، فلقد قام استقلال دولة ألبانيا عن الدولة العثمانية إثر الحرب البلقانية في العام 1912 على أساس الفصل بين الدين والدولة، وأنه ليس للدولة دين رسمي. صحيح أن ذلك قد تم في شروط إلحاح الدول الكبرى على هذه الصيغة وتكريسها، لكن هذا التكريس ماكان متعارضاً مع مفاهيم الحركة القومية الألبانية، التي عبرت عنها من خلال تجربة أحمد زوغو الذي أعيد الاعتبار إليه بعد نهاية الحقبة الشيوعية في ألبانيا بوصفه” باني ألبانيا الحديثة”، والتي سبقت على مستوى المفاهيم تجربة مصطفى كمال في تركيا، لكنها تأثرت بها لاحقاً وتجاذبت معها في المنافسة في وتيرة التحديث التي ارتفعت يومئذ في تركيا وألبانيا وإيران ومصر وفي فصل” عابر” في أفغانستان في عهد ملكها أمان الله.
كانت مفاهيم الحركة القومية الألبانية علمانية مرنة، وتتعارض على طول الخط مع مافرضته الحقبة الشيوعية لاحقاً في تاريخ ألبانيا من خلال مرسوم” حظر الدين” و” تجريمه”. ويبدو استئناف هذه الحركة لعلمانيتها المستبقة من خلال دستور دولة كوسوفة ليس بمثابة عودة إليها بقدر مايمثل استمرارية طبيعية لها، على الرغم من أن الصراع الصربي ضدها قد حاول أن يقدمها بوصفها حركة” إسلامية” متعصبة، نتجت عن” دين” وافد على منطقة البلقان. وفي صلب تلك المفاهيم هناك اتجاه واسع يرى أن الإسلام قد حمى الألبان، وحافظ على هويتهم القومية، ولكن ليس إلى حد الدمج بين الدين والقومية على غرار ماهو قائم كثيراً في الحركة القومية الصربية.
وهذا طرح جديد لمايمكن أن يدعى بالإسلام الأوروبي الذي بات مصلجه متداولاً في البلقان، فهو إسلام حمى القومية عبر التاريخ لكنه وازن بين وظائف المجال الديني والمجال السياسي وعدم الخلط بينهما وفق الصيغة التي تحتلها” المشيخة” الإسلامية اليوم في كوسوفو، وقبل ذلك في ألبانيا أحمد زوغو. والإسلام الأوروبي هنا هو إسلام شعوب اوروبية، ويشير في بعض أبعاده إلى الإسلام كسلوك أنتروبولوجي كما يمارسه المسلمون في حياتهم” الأوروبية” من دون صراعات هوية قاتلة، كما يشير إلى مفهوم لاتتعارض فيه ممارسة الإسلام مع أساسيات الدولة الحديثة، بما يعنيه ذلك من إعادة إنتاج فقه تعايشي بين المسلمين ودولتهم، فكوسوفو دولة لادينية لكن92% من شعبها يدين بالإسلام كدين” طبيعي” له، ولايشعر الكوسوفيون المسلمون باتناقض بين إسلامهم وبين المبادىء الحديثة للدولة. وهذه تجربة مازالت على المستوى الدستوري في طور التكون لكنها تحمل أبعاداً جديدة إزاء تعقد الصراع القومي الديني واختلاطه التاريخي في منطقة الألبان. والأبرز أنها باتت تسمح لنا بالحديث عن بروز معنى آخر للإسلام الأوروبي يرتبط بشعوب اوروبية وليس بجاليات أو أقليات مسلمة في الغرب.
العرب