صفحات مختارة

الفرق بين دولة ذات دستور ودولة دستورية

توفيق المديني
حين تصبح عملية الانتقال الى السلطة عبر صناديق الاقتراع مستحيلة في العالم العربي، جراء ضعف التغيير من خلال المؤسسات التي لا تؤمن الترابط، الاساسي في النظام الديموقراطي، بين القرار والمسؤولية، نتاج لجوء الحكام الى تفصيل ديموقراطيات على مقاس أبنائهم من بعدهم، تطرح النخب الفكرية والثقافية والديموقراطية العربية سؤالاً جامعاً، أيهما كان أفضل ان يتم التغيير في أي بلد عربي بواسطة تدخل القوى الأجنبية كما حصل في العراق، حيث دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً جداً، وخلق حالاً من الفوضى وعدم الاستقرار، أو من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية – كشكل وحيد للتغيير من الداخل من دون دعم من الخارج؟
ان رفض الديموقراطيين العرب لهذه الاشكال من الانتقال الى السلطة الآنفة الذكر ينطوي على الكثير من الصدقية، ولا سيما ان معظم مآسينا كعرب جاءت من انقلابات عسكرية أو دستورية – ولا فارق هنا بين هذا وذاك – قدمت لنا في بدايات حكمها مشاريع سياسية براقة ما لبثت ان تحوّلت الى أوهام وخراب، حين تمسك الانقلابيون بالحكم بصورة إطلاقية، وأخفقوا في مجال التنمية المستقلة، وفي عملية تحرير الأرض السلبية، وبناء الديموقراطية.
يكاد لا يخلو أي دستور دولة عربية من الاشارة الواضحة الى بنوده المتعددة الى احترام المؤسسات، واحترام القانون، والحريات الفردية والعامة، والتداول السلمي للسلطة. ومع كل ذلك، فإن الباحثين السياسيين وعلماء الاجتماع المهتمين بتأصيل فلسفة سياسية عقلانية عن الدولة الحديثة والمجتمع المدني في العالم العربي يعتقدون جازمين ان المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية مأزومة، بدءاً من دور البرلمان، الذي لم يعد يتحكم بجدول أعمال جلساته، مروراً بشخصنة النقاشات عبر لعبة الانتخابات الرئاسية، كما هو الحال في تونس، أو من خلال إفراغ فصل السلطات من معناه.
يمكن التعرف في واقع الدولة العربية ما بعد الاستقلال السياسي، الى ان سير تطور بنيتها وخصائص وظائفها الاقتصادية، أم السياسية القمعية، أم الدمجية، أم التقنية تختلف عن السيرورة التاريخية لتبلور الدولة البورجوازية في الغرب (أوروبا الغربية وأميركا الشمالية)، بسبب من تطورها كدولة رأسمالية في ظل الرأسمالية المتأخرة، لعبت دور جس للبورجوازية الاحتكارية الامبريالية، ومفوض وكيل للرأسمال الدولي، وتقوم بوظائف إعادة الانتاج المندمج في السوق الرأسمالية العالمية، وبالتالي إعادة انتاج سيرورة الاستغلال من جانب رأس المال.
وليس من شك ان هذه العلاقة الادواتية قد أسهمت في تقليص السيرورات السياسية ضمن وبين مكونات المجتمع المدني الوليد، وتحويل هذه الدولة ذاتها – التي هي بالأساس دولة لا قانونية حيال غالبية الشعب من دولة في ظل «اللحظة الليبرالية» التي عرفها العالم العربي، التي تقوم على مؤسسات مستقلة نسبياً في اطار وظيفتها الى دولة سلطة، أعادت انتاج مؤسسات الدولة وفق مصالح الفئة الحاكمة، حتى بات التمييز صعباً بين السلطة والدولة.
يتفق علماء الاجتماع والسياسة على انه ليس هناك دولة دستورية في العالم العربي، ومشروعيتها، بالمقارنة مع دولة القانون التي وضعتها الثورات الديموقراطية البورجوازية المتعاقبة في الغرب، وركائزها الحديثة باعتبارها دولة تقوم على المذهب الوضعي الذي يستند بدوره الى الفكرة القائلة إن الدفاع عن القانون يقوم على الحرية. وفي ظل غياب الحرية ينعدم القانون.
وما زال الفكر السياسي العربي يفتقر افتقاراً فعلياً الى بلورة نظرية حول طبيعة الدولة الدستورية العربية، وهو ما يشكل واحدة من أهم أزماته، فضلاً عن أنه يتجاهل التمييز بين الدولة والسلطة، لأن فكرة الدولة في العالم العربي لم تتغير كثيراً عن معنى الدولة قبل الأزمنة الحديثة، حيث كان معنى الدولة عند ابن خلدون على سبيل المثال هو مدة حكم أسرة حاكمة تبعيتها، أو الامتداد الزماني والمكاني لحكم عصبية من العصبيات، سواء أكان هذا الحكم عاماً أو خاصاً.
وحين نتأمل في أحوال الدولة العربية الراهنة، فإننا نجدها متماثلة مع السلطة، بما أن هذه الدولة على الرغم من أنها ذات دستور، تقلصت الى حدود العاصمة بحكم مركزية السلطة فيها، وبالتالي فهي دولة هذه العاصمة، لا دولة الأمة ولا دولة الوطن، وهي ليست دولة جميع المواطنين المتساوين أمام القانون، بل هي دولة متحيزة لحزب مهيمن أو لطبقة، أو لدين أو لطائفة أو لأثنية أو لاقليم بعينه. وهنا يكمن الفارق بين دولة عربية ذات دستور وبين دولة دستورية. فالدولة الدستورية هي تلك الدولة التي تقوم قولاً وفعلاً على احترام الحرية السياسية باعتبارها أصل الحريات وشرط تحققها، فبانعدامها تتعذر ممارسة «حرية الفكر والعقيدة والتملك» على حد قول مونتسكيو. والحرية السياسية لا توجد إلا في ظل الدول التي تحترم القانون، بينما الدولة العربية ذات الدستور، فتلك التي تنتهك القوانين والانظمة السائدة، لمصلحة النخبة الحاكمة، وتصادر الحريات وتعرضها للضرر والانتهاك، وترفض ايضاً اقامة نوع من التوازن السياسي عبر الالتزام بمبدأ فصل السلطات، بوصفه أداة فنية تجعل التعايش بين المؤسسات الدستورية أمراً ممكناً، ووسيلة للتوفيق بين المشروعيات المتنافسة والمتصارعة داخل المجتمع السياسي. وهذا هو مصدر نشوء الاستبداد في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى