جحيم لم تزره شياطين!
هوشنك الوزيري
أخيراً اعتذر أحد الساسة عما صاغته مخيلة شاعر قبل أكثر من ثلاثة أرباع قرن. (أقتل الهندي في الطفل) جملة صاغها الشاعر والكاتب وعازف البيانو الكندي دنكان كامبيل سكات الذي ترأس قسم الشؤون الهندية في الحكومة الكندية من ١٩١٣ الى ١٩٣٢ وصاحب فكرة نزع الاطفال الهنود عن عائلاتهم وسلخهم عن بيئتهم الثقافية والاجتماعية. كتب سكات في إحدى الوثائق الرسمية الحكومية »أريد ان أتخلص من المشكلة الهندية برمتها… هدفنا هو الاستمرار حتى لا يظل هناك هندي واحد في كندا غير منصهر في الجسم السياسي«. وفي ١١ حزيران ٢٠٠٨ أعتذر رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر وبأكثر من لغة، ومنها لغة الضحايا، امام البرلمان لسكان كندا الأصليين. وجاء خطاب اعتذاره للهنود الحمر الذين باتوا يُعرفون باسم الامة الاولى بسبب عملية الفصل القسري لأكثر من ١٠٠ الف طفل عن عوائلهم وإدخالهم قسراً الى مدارس دينية مسيحية بهدف تطبيق الاستراتيجية السيئة الصيت التي تدعو الى قتل كل ما هو هندي، بمعناه الثقافي والاجتماعي، في الطفل.
ويبدو ان الاعتذار والتسامح اللذين كانا ينحصران حتى فترة قريبة في الاطار الديني وحكرا على الكنيسة قد وجدا مكاناً رحباً لهما في فضاء العلمانية بين الحكومات والدول والجماعات. فاذا كان اعتذار الخاطئ ودعاؤه للحصول على التسامح في الإطار الديني محاولة للتصالح مع مملكة السماء بهدف الدخول إليها فإن الاعتذار العلماني هو محاولة التصالح مع مملكة التاريخ بهدف الدخول الى الواقع الراهن وإعادة ترتيب تشكيله السياسي والاجتماعي. يعتبر الاعتذار العلماني وأقصد الاعتذار من قبل الشعوب والحكومات والجماعات ظاهرة حديثة نسبياً. وهو لا يقتصر على الحكومة أو الدولة فحسب بل لجأت اليه المؤسسات الاقتصادية والمدنية وحتى التعليمية، كما في حالة جامعة ألباما الأميركية التي اعتذرت في نيسان ٢٠٠٤ عن العبودية بسبب امتلاك بعض من رؤسائها واعضائها السابقين عبيداً وتوظيفها »عبداً« كمساعد في أحد مختبراتها. كما لجأت اليه الأحزاب والأفراد ذوو النفوذ السابقين في الدول التي مرت بمراحل انتقالية من الديكتاتورية الى الديمقراطية، وخصوصا العسكريين وأفراد قوى الشرطة السرية الذين كانوا يتمتعون بسلطات واسعة قبل سقوط أنظمتهم ودولهم.
لكن كل هذا يبدو بعيداً عن الرقعة السياسية والاجتماعية في الشرق الاوسط الذي لا زال يتشبث بعقلية تؤمن بنزاهة الذات ومعصوميتها وعدم ارتكابها أي عار أو قطرة دم واحدة. ففي فضاء تتجاور فيه ذوات دينية ومذهبية وقومية وعرقية متعددة وعاشت مراحل تصادم دموية قاسية بينها، تارة تحت عباءة الدين وتارات اخرى تحت غطاء الآيديولوجيا لا يبدو هناك أي استعداد للاعتراف بالخطيئة والدخول الى مرحلة بناء معادلة الاعتذار والتسامح. وهي معادلة لها القدرة على إنتاج السياسة التي تؤمن بقوة اللغة وليس ببطش القوة.
ربما تمثل التجربة العراقية، بشقيها السياسي والاجتماعي، التي تمر بمرحلة انتقالية من سقوط القوة الواحدة الى بناء قوى متعددة، والتي تجهد في الوقت ذاته بكل ما أتاح لها من الدم والقتل اليومي العشوائي على اثبات عصامية ونزاهة الذات، المذهبية تحديداً، ورؤيتها على انها الذات الناصعة الحق والصواب في مقابل الذوات المجاورة الاخرى، تمثل التجربة الأكثر وضوحاً في عدم الاعتراف بارتكاب عار التاريخ أو خطايا الدم، وبالتالي الابتعاد عن »مذلة« الاعتذار وطلب المغفرة..
اتسم النقاش السياسي العراقي لمرحلة ما بعد نيسان ٢٠٠٣ بالفوبيا من كشف الحقائق والدعوة الى الاعتراف بالخطايا وتقديم اعتذارات. فبدلاً من ان تتجه الأطراف الى النظر الى الوراء قليلاً، حيث الركام الهائل من الحروب والجرائم التي اجتاحت جسد الخارطة العراقية هرول الكل الى الأمام مطالباً بالمزيد من السلطة والقوة والذي أدى الى المزيد من الشروخات والمزيد من الجرائم. فبدلاً من ان يتوقف، على سبيل المثال، السني مذهبياً »وأقصد الجامع كمؤسسة دينية دعمت دولة صدام بالمطلق« والبعثي آيديولوجياً لكي يراجعا التاريخ الذي كانا يُعتبران العنصرين الأكثر فعالية في صياغة أحداثه المأساوية ومجريات هزائمه، وينظران الى هذا التاريخ ـ الذي انهار دفعة واحدة في التاسع من نيسان بسقوط صنم صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد ـ والمليء بالحروب والمجاعات والجرائم السياسية برؤية نادمة مع الشعور بالذنب للكيفية التي جرت بها الأمور والتي أدت الى نهاية تراجيدية كهذه بالنسبة لها، اتجه كل من »الجامع كمؤسسة مذهبية دينية وحزب البعث كمؤسسة آيديولوجية قومية واللذين تماهيا كليا بعد ٢٠٠٣ حيث كان الجامع ينطق باسم البعث مرات والبعث ينطق بلسان الجامع في أغلب الاحيان« الى رفض التغيير وانكار عناصر الواقع الجديد عبر المطالبة باسترداد القوة واعادة تنصيب السلطة القديمة. ومن جهة اخرى ارتكب الشيعي في عملية بناء خطابه السياسي، الذي امتزج بالمذهبية الى حد كاد الفصل بينهما مستحيلاً، خطيئة النظر الى الذات في بعدها المذهبي فقط وبالتالي رؤيتها على انها الضحية الأبدية والمحرومة من حق التاريخ. لذلك جاءت مظاهر التعويض وما تبعها من مطالبات أخرى في أضخم أشكالها ليست في بعدها السياسي بل في فضائها المذهبي الذي تمثلَ على سبيل المثال لا الحصر في إدخال مفاهيم ومصطلحات من الثقافة الشيعية الى الدستور العراقي. وبين التطرف السني في رفض الواقع الجديد ودعوته بالمزيد من السلطة والتطرف الشيعي في تحويل العملية السياسية إلى ممارسات وطقوس مذهبية لم يعد هناك أي أمل في وجود فضاء للاعتذار والتسامح حول تاريخ دموي طويل اتسم بعار قتل الأخ أخاه.
وهكذا نستطيع القول وبكل اطمئنان ان خطابات الساسة ومعهم بعض من رجالات الدين لمرحلة ما بعد سقوط دولة صدام حسين أدت مهمتها الجوهرية بامتياز. المهمة التي تمثلت في اذكاء النار الطائفية وتعميق شروخات الانقسام الموجود أصلا في البنية الوطنية والمجتمعية العراقية. فقد امتد زعيق جعجعة هذه الخطابات وقعقعة سلاحها ودوي انفجاراتها الى الشوارع والاسواق والجوامع لتقسيم المجتمع الى الابيض الخير والاسود الشرير على صعيدي الدين والسياسة. وبما ان هذا الجدال العنيف الدموي قد أكمل وظيفته على أتم وجه وحقق كل أغراضه الآيديولوجية وبالتالي انتهت مبررات وجوده في ظل انقسام طائفي حاد يضرب بالمجتمع العراقي، مقسماً اياه الى عمامة بيضاء وأخرى سوداء وتسرب إشكاليات العنف المذهبي الى الوحدة الاجتماعية الأصغر، العائلة، ربما آن الأوان للتفكير بجدية تامة في صياغة لغة اخرى لإنقاذ ما يمكن انقاذه ولملمة الاندثار والشتات الذي عصف بالعراق لمدة تزيد عن نصف قرن. لغة هادئة ترى في الذات قليلاً من الذنب والندم وفي الآخر قليلاً من الخير والحق. وهنا يأتي دور التساؤل الجريء وربما الأكثر ألما، الذي ينبغي على الفضاء السياسي العراقي بكافة تكتلاته طرحه على الذات، وهو ألم يحن وقت التفكير في بناء مشروع »اعتذارات« شاملة من قبل الاطراف كلها؟
اذا كان الاعتذار يعني الاعتراف من قبل المعتذر بخطيئة ارتكبها في لحظة تنتمي الى الزمن الماضي، فان التسامح في جوهره يعني عملية غفران هذه الخطيئة دون نسيان المعاناة التي نتجت عن تلك الخطيئة ودون ان يعني ان التاريخ سيحرر كتابة سجلاته حاذفاً هذه الخطيئة من متنها. لكن معادلة الاعتراف وقول الحقيقة ومن ثم الاعتذار من قبل طرف ما والتسامح من قبل الطرف الآخر لها القدرة على محو الحقد الذي ينتمي إلى الماضي، لكن وجوده يستمر في فضاء الحاضر على هيئة نزوع نحو الانتقام. وحين ينتفي الحقد وتتلاشى الرغبة العارمة في الانتقام يكون المجال خصباً لإنتاج نوع من المصالحة وتدشين مرحلة تعلم الفباء الحوار واستخدام اللغة بين الطرفين. وبناء هذه المعادلة تحديداً هو ما تحتاج إليه الشعوب التي تعيش مراحل انتقالية عاصفة بالشعور بالحقد والنزوع نحو القتل العشوائي بعد سقوط قوى ديكتاتورية شمولية كدولة البعث العراقية.
على العكس من التجربة العراقية التي يتحمل الدين، من خلال التناحر المذهبي والخطابات المذهبية لبعض رجالات الدين التي لم تثر سوى غريزة قتل الآخر »الطائفي«، جزءاً هائلاً من مسؤولية عار الدم، استطاعت دولة جنوب افريقيا والتي لم يكن فيها قس أسود واحد لم يتعرض للتعذيب على أيدي البيض، استطاعت ان تبني لجنة المصالحة والحقيقة بإشراف رجل الدين الأسود توتسي ديزموند. وساهم الدين من خلال القساوسة السود في بناء المصالحة بين ضحايا القمع السود والقامعين البيض ومحو الحقد واطفاء النزوع الانتقامي لدى أغلبية الضحايا السود من خلال قول الحقيقة وتقديم اعتذارات من قبل الرموز السلطوية لأهالي الضحايا.
وبدون محاولات صادقة من قبل الأطراف العراقية كافة لصياغة مشروع »اعتذارات شاملة« يقدمها كل منها للآخر يظل العراق الذي لطالما تباهى، ولم يزل، بانه مهد الانسان الأول وفجر الحضارات والارض الاولى للقوانين البشرية وأساطير أخرى كنا نرددها بملل في صفوفنا المدرسية، يظلُ العراق الجحيم السياسي القديم نفسه الذي عانى عار الإصرار على الدم لمدة تزيد عن نصف قرن بكثير. بدءاً من عار السحل الآيديولوجي في الشوارع بين الشيوعيين والبعثيين على هدير قصائد شعرية كانت تدعو الى عدم رخو الحبل من على الأعناق وجعل الجماجم نفاضات سجائر، مروراً بالتهجير الطائفي والقومي والحروب التي غنى لها ولجنرالها الكثير من الشعراء، وعار عمليات الإبادة الجماعية العرقية المنظمة وأخيراً ليس انتهاء بعار الحرب الطائفية بين السنة والشيعة. ويجب التذكير هنا بان الذين مارسوا، وما زالوا، العنف والتعذيب والقسوة والقتل لم يكونوا شياطين أو وحوشاً من الجحيم كما يتم تصويرهم في صياغة مجازية بائسة بل كانوا أناساً عراقيين من اب وام عراقيين. وهذا ما يجعل مشروع »الاعتذار« الضرورة الانسانية الأكثر الحاحاً والتسامح الحاجة الأكثر ضرورة لتجاوز الماضي والدخول العقلاني الى الحاضر.
بدون اعتذارات جريئة يرى في ضوئها الواحدُ الآخر برؤية جديدة مغايرة بهدف تدشين مرحلة جديدة يكون فيها التسامح والتخلي عن الف لام (الحق) »ثيمتين« مركزيتين، يظل العراق حبيس ماضيه رافضاً قول الحقيقة والاعتراف بالعار الذي يلطخ أبناءه بالدم بشكل يومي.