الكبوة الإسلامية بين الجهادية الدموية والاجتهاد الخالق
مرح البقاعي
مقدمة كان الإسلام الحضارة الأكثر استنارة وتحصيلا للثقافات وتحصينا للأديان في إمبراطوريته التي عمرت 8 قرون، بين ما يقارب 750 و1550 ميلادية،
وقامت على فتوحات ترفعّت عن أعمال استهداف العًزْل، أونهب الخيرات، أواقتراف التطهير العرقي والاضطهاد الديني؛ في رقعة جغرافية امتدت من جزيرة إيبيريا والبحر الأطلسي غربا، إلى حدود بلاد الهند والصين شرقا، ومن بحر الخزر وأرمينية شمالا، إلى العمق الأفريقي والمحيط الهندي جنوبا.
وكان أول ما يقوم به الفاتحون المسلمون بناء جامع ومدرسة في المدن التي كانوا يدخلونها، ما جعل مدائن حاضرة إسلامية كالأندلس تتحول إلى مراكز إشعاع علمي وحضاري خلال العصر الذهبي للدولة الإسلامية مابين القرنين الـ 14 و الـ 16 الميلاديين، وغدت محجّا للبعثات العلمية الأوروبية في تأصيل لحوار خالق بين غرب وشرق، شمال وجنوب عن طريق التبادل الثقافي والعلمي عبر المتوسط. وأصبحت جزيرتي صقلية ومالطة موئلا لعلماء المسلمين، ومركزا نشطا للترجمة المباشرة لأمهات الكتب اليونانية والعربية. ومن الطبيعي أن يأتي الفن في ظل هذا الرخاء الاجتماعي والاستقرار السياسي محصلة للتفاعل بين الشعوب التي اتّخذت من الإسلام دينا قارب بين مبدعيها في توجّههم الفكري والفلسفي، في حين حفظ لهم حرية الطرح والتناول التشكيليين.
الفن هو الحافظ لتاريخ الشعوب والحامل لذاكرة العالم بامتياز. والتاريخ الإسلامي بدوره هو نتاج حضاري لفنون وعلوم وأدبيات تلك الأمة التي حضنت في أعطافها الأديان والطوائف والقوميات على اختلافها لتصهرها في بوتقة الاستيعاب الثقافي، والتقارب الإنساني، والتسامح الدين”.
سرمدية الحرف العربي
إذا كان شعار عصر النهضة الأوروبي السائد في حينها هو “الفن للفن فقط “فقد جاءت الحركة الفنية في الحقبة الإسلامية تحت لواء شعار آخر وهو”الفن للفن والحياة”. وتجلّى هذا التوجّه بأشكاله التطبيقية في روائع الأرابيسك والموتيفات الهندسية الباهرة التي عمادها الحرف العربي بإيقاعاته التشكيلية وإيحاءاته المستمدّة من البعد البلاغي والعمق الصوفي للكلمة.
لقد ارتبطت اللغة العربية، التي أنزل الله بها كلمته على النبي محمد، بالنص القرآني القدسي في فجر الإسلام. وكانت أداةَ تدوينه، واكتسبت عمقها الزماني من سرمديّته، ما أضفى قيمة سامية على النماذج الفنية التي حمّلها الفنان المسلم هذه النصوص. وقد تهيّأ للفنان المسلم أن ينقل الخط من هيئة الدلالات الرمزية اللغوية إلى فن ذي هوية، يرصف ويعضد الفكرة التشكيلية.
الخط الكوفي كان الأكثر شيوعا، وقد كُتبت بواسطته معظم المصاحف ما بين القرن 10 والقرن 18 الميلاديين. ويتميز عن عداه من الخط العربي كونه يتحرك في الفراغ بزوايا حادة، واستطالات مشرئبة باتجاه الفضاء، محققا في تشكيله لغة الاتصال مع الأعلى بعيدا عن صغائر الشؤون الدنيوية. وإذا كانت الطاقة الجمالية للحرف العربي تكمن في القيمة التشكيلية التي يحمّلها الفنان لهذا الحرف، فإن الخط الكوفي شكل عماد الكتابة في الأندلس لخصائص استثنائية تتعلّق بسهولة تنفيذه، وإيجازه، وقدرته التكثيفية على التوصيل.
أما الشعر العربي الذي هو ديوان العرب وحافظ تاريخهم، فقد كان معتمدا بوفرة في تزيين الزجاجيات وقطع الأثاث والمخطوطات غير الدينية، إلى جانب نصوص كتبت باللغتين الفارسية والتركية التين اعتمدتا الأبجدية العربية في ذلك الوقت، ما جعل من الموروث الثقافي الإسلامي جزءً لايتجزأ من التراث الإنساني العالمي.
الجسد بين الغياب والحضور
يقوم الفن الإسلامي العربي على قاعدة عقائدية لايمكن خرقها تستند إلى فكرة أزلية الله وزوال الكائنات. تلك المخلوقات التي يرتبط بقاؤها بمشيئة الله وينتفي بإرادته أيضا، ليبقى وجه الله الأبد الذي يتعالى على التصوير أوالتصوّر.
وانطلاقا من هذه الرؤية الإيمانية فقد انتفت تشكيلات الجسد في الفن الإسلامي العربي، واعتمد الفنان المسلم على تكنيك الأرابيسك الذي يمتلك منطقه الزخرفي الخاص في تداول الأشكال وتراصفها لدفع الشحنة التأملية للناظر إبحارا في اتجاه الملكوت الأعلى، وتوطيدا للصفاء الذهني المرتبط بالمجرد.
فالأرابسك عبر نمائه المنتظم والمفتوح إنما يهيّئ المناخ للتداعي الذهني في عالم صامت، سرمدي، وآخذ، حاله حال اللغة العربية الحافظة لتلك السكونية والأزلية في آن. إن اللغة العربية هي الأرابيسك الذهني بامتياز الذي يعكس كينونة الأبد في انهمار الزمن الجارف.
لقد ابتعد الفن الإسلامي عن محاكاة الطبيعة بكائناتها كما كان حال فنون عصر النهضة الأوروبية. واتجهت الطاقة الإبداعية لمعظم الفنانين المسلمين نحو فن العمارة والزخرفة. وما قصر الحمراء في الأندلس إلا شاهدا نابضا للإبداع الإسلامي في ذروة رعشته، عاكسا حضارة الدولة ومقومات عظمتها. فعندما كان الناس في بريطانيا يغرقون في ظلامهم كانت قرطبة هي (عاصمة النور) التي تضيء رونقا وحداثة على أوروبا الغافلة في نزاعاتها.
غير أن تشكيل الجسد، من إنسان وحيوان، ظهر جليا في فنون فارس والأندلس مجمّلا المخطوطات وسطوح السيراميك وكذلك النسيج، ناهيك عن شخوص “الواسطي” في العراق الذي يعتبر مدرسة فنية متفرّدة خلّفت بصماتها على فن معاصريه، ومن جاؤوا بعده. ونسخة مقامات الحريري التي تحمل توقيعه في العام 1237 خير مثال على تجسيده المرأة بحرية ووعي بجسدها تماما كما جسّد الرجل. ولو أن البعض كان يرى فيه مقاربة للمكروه في الدين، وانتهاكا لتفرد الخالق في قدرته، وخرقا لروحانية العقيدة الإسلامية.
تتمحور صورة الفن الإسلامي لدى الغربيين حول فكرة ثابتة: خلوّه القطعي من تصوير المخلوقات والتشكيل الجسدي. وهي فكرة غير دقيقة. فرغم أن التصوير كان مكروها لدى المسلمين لأسباب عقائدية دينية مردّها إلى بطلان محكاة الذات الإلاهية للخالق في معجزة الخلق والتكوين، إلا أن هذه الصور ظهرت في غير موقع “لاديني” من بلاط رجال الحكم، إلى مجالس علية القوم في الأندلس، وتباينت بين تماثيل تجسّد أفراد الحاشية والموسيقيين ومناخات السمر تشير إليها منحوتات الطيور والحيوانات والحدائق المنحوتة بانسجام بمادة العاج الدافئة. ومن المعروف أن الإسلام نهى عن التجسيد في هيئة تماثيل ثلاثية الأبعاد لارتباطها بالحقبة الوثنية وعبادة الأصنام قبل الإسلام.
ثقافة التسامح/ تسامح الثقافة
لم تكن المساجد هي التحف المعمارية الوحيدة في دولة الإسلام الجامعة للأديان والأعراق والقوميات على تباعدها. لقد كانت الثقافة الإسلامية ثقافة اتصال استوعبت الديانات التوحيدية من مسيحية ويهودية إلى جانب غيرها من الديانات الغير السماوية. وكان للمسيحيين و اليهود والزارادشتيين في إيران أماكن العبادة الخاصة بهم التي لم تخلُ من التحف المعمارية والفنية من ، والتي كانت ترفق عادة بالنص الديني المناسب.
لقد شارك في بناء صرح الحضارة الإسلامية مسلمون ومسيحيون ويهود، وحتى لادينيون، من الأقاليم التي دخلت في جغرافيا الدولة الإسلامية. و كان مبدأ التسامح الديني والعدالة هو الذي يحكم أركان الدولة. وكان يعفى من الجزية – التي تكاد تعادل ضريبة الزكاة التي يدفعها المسلم – غير المسلمين من الفتيان والنساء والعجزة والمرضى ورجال الدين من القساوسة والأحبار وكذلك الرجال من الذين يؤدون الخدمة العسكرية”صنع فنانين مسلمين.
كان المسيحيون يعملون جنبا الى جنب والمسلمين لترجمة الفلسفة الإغريقية وإحيائها. وفي رياض الأندلس، الطرف الغربي لمشارف الإسلام ، قام المسلمون بتطوير ما تدعوه المؤرخةMaria Rosa Menocal من جامعة : Yale “ثقافة تسامح” مع اليهود.
مضى التجديد وروح الإجتهاد متساوقين. وفي مدينة قرطبة، قامت ولاّدة ابنة الخليفة المستكفي بالله الأموي ـ الأميرة العربية والشاعرة من بيت الخلافة الأموية في الأندلس ـ قامت بتنظيم “صالونات أدبية” لتفسيرالقرآن وتلاوة الشعر. وكان رواد هذه الصالونات من الأعيان والشعراء يناقشون ما حرَّمه القرآن عل الرجل والمرأة في آن. وقد اشتهرت ولادة ببيتين من الشعر قيل أنها كانت تكتب كل واحد منهما على جهة من ثوبها:
أنا والله أصلح للمعالي / وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكّن عاشقي من صحن خدي / وأعطي قبلتي من يشتهيها
لم يكن الفن الإسلامي فنا تبشيريا يعكف على نشر رموز دينية إسلامية بعينها متجاهلا سطوة المؤثرات الجمالية والمحرضات الإبداعية خارج المنظور العقائدي الأحادي. وقد كان لنضوج فنون العمارة المدنية غير الدينية من قصور ومجالس، ومن استتباعات للزومياتها التجميلية من أقمشة وأثاث وزجاجيات وسجاد وأكسسوارات، ما يقارب الفن الوظيفي Functional Art في حركة الفن المعاصر اليوم. فالفن الإسلامي لم يكن فنا دينيا فحسب بل كان فنا شاملا لما هو دنيوي أيضا. ولا يزال العالم حتى اليوم يتوقف مبهورا أمام إنجازات فن العمارة الإسلامية، وينأمل بإعجاب قصور المعتمد بن عباد فى إشبيلية، وقصر الحمراء فى غرناطة الذى كتب عنه الشاعر الفرنسى الشهير فيكتورهوجو قصيدة طويلة مطلعها: /أيتها الحمراء.. أيتها الحمراء.. أيها القصر الذى زينتك الملائكة كما شاء الخيال وجعلتك آيه الانسجام.. أيتها القلعة ذات الشرف المزخرفة بنقوش كالزهور والأغصان المائلة إلى الانهدام.. حينما تنعكس أشعة القمر الفضية على جدرك من خلال قناطرك العربية يسمع لك فى الليل صوت يسحر الألباب/.
في ضوء كل ما تقدّم نستطيع أن نجزم في أن كبوة الإسلام المعاصر إنما ترجع إلى ترجيح الفكر”الجهادي” الموتور، على الفعل”الاجتهادي” الخالق ــ الذي كان تقليدا إسلاميا راسخا في التعليل، والوصول الى أحكام مستقلة، إلى جانب كونه أداة تحديث متّصل في النص الديني.
الفدرالية الإسلامية
لقد كان لموقع الدولة الإسلامية في العمق من طريق الحرير، الذي وصل الشرق والغرب، دورا كبيرا في الاتصال بفنون العالم المعروف في ذلك الوقت، حيث غدا ميناءي البصرة في العراق والسويس في مصر بوابتا البضائع المتدفقة عبر المحيط الهندي. و كانت موقع جذب لثقافات تعاملت معها كمصدر معرفة، واستوعبت عناصرها دون إلغاء لهويتها، فكانت أن ظهرت مؤثراتها واضحة لترقى بالفن الإسلامي إلى مستوى العالمية. فإذا وقفت اللغة حائلا دون تفاهم الشعوب فالفن يقوم بالغرض.إنه وسيلة التحاكي بين الأفراد وملكا للذاكرة العالمية لا حكرا على شعب أو حضارة بعينها.
يرى الغرب، خطأ، أن الثقافة الإسلامية ظاهرة تخص منطقة بعينها ولا تعني الشعوب خارج الحدود الجغرافية والفكرية والعقائدية للإسلام. وهذا بعيد عن الصواب كليا. فالشرق العربي الذي يقع في القلب من العالم كان محطة لمداولة وصهر الثقافات من كانتون في الصين، مرورا ببخارى وسمرقند، وصولا إلى تولوز وبواتيية الفرنسيتين. من المهم جدا أن يعي الغرب الامتياز الذي تمتعت به الثقافة الإسلامية وكم أثرت في تاريخهم وثقافتهم التي نشهد فورتها اليوم.
وإذا كان المثقف هو القوّام على السياسي و المرشد الروحي لأهل السلطة في دولة الديموقراطية، وإذا كانت إشارات العولمة الإيجابية تكمن في قدرة الشعوب على الارتقاء بعلمائها ومفكريها، و بناء قواعد الدولة على أسس من التعددية الثقافية، واحترام الخصوصية الدينية والحضارية، وفتح باب الاجتهاد الفقهي في النص، فنستطيع القول، تحصيلا، أن الحضارة الإسلامية تحمل ريادتها العولمية بامتياز.
هذه الحضارة “العربية” بحكم المنشأ و”الإسلامية” بحكم الإنتاج، قد ارتفعت على أيدي شعوب قاطبة من فرس وأوروبيين وأتراك وأفارقة و آسويين. فكانت الحضارة الإسلامية بوتقة للقاء العقول وانصهار الفكر لأن الحكّام المسلمين قربوا إليهم العلماء والمبدعين بغض النظر عن انتمائهم الديني والعرقي. وحين قام عمر بن الخطاب بتدوين الدواويين، وهو ما يعرف في الاصطلاح المعاصر بإنشاء الوزارات، أبقى عليها في إيران فارسية، وفي مصر قبطية، وفي الشام رومية، تماما كما كانت عليه قبيل الفتح الإسلامي ضمن وحدة جغرافية يسوسها مبدأي العدل والشورى.
قد تكون دولة الإسلام أعلنت في عصرها الذهبي نموذجا فدراليا سابقا في تاريخ نشأة الدول. وما يأخذ به الغرب من أسباب الرقي الحضاري والاستيعاب ثم الانتشار الثقافيين اليوم، كان سائدا في دولة الإسلام المستنير، في ظل نظام “عولمي” قام على أسس من “دولنة الإسلام” ـ وممارسته ضمن فضائه الحيوي الذي مساحته ضمير الفرد والإدراك الجمعي الوجداني، بعيدا عن سياسات “أسلمة الدولة” وما تفرزه من غيبيات وإفتاءات جماعية قسرية وملزِمة.
* نص محاضرة مرح البقاعي لطلاب الدراسات العليا للغة العربية في جامعة ميريلاند في الولايات المتحدة ، وهي عبارة عن قراءة سياسية لمعرض الفن الإسلامي “القصر والمسجد” الذي انتظم في العاصمة الأميركية واشنطن في المتحف الوطني للفن، وعرض ـ على مدى 6 أشهرـ شواهدَ من إبداعات تجسدها 100 تحفة تمّ اختيارها من ضمن 10 آلاف قطعة تستقر في متحف فيكتوريا أند ألبرت في العاصمة البريطانية