التابو , السلطة , النخبة , و نير الاستبداد
مازن كم الماز
نعيش في عالم يقوم على حلقات متتالية من الاستبداد الفوقي من سلطة ما , إن السلطة السياسية و الطبقة الحاكمة ليست إلا تتويجا لهذا الهرم الهائل من التبعية و القمع الذي تمارسه كل سلطة ما ضد من هم أدنى منها أو ضد من يتبعون لها..إن الديمقراطية وفقا لهذه الرؤية الأشمل ليست مجرد عقد جديد بين الحاكم و المحكوم يحتاج تطبيقه النسبي أو المجتزأ قبل أي شيء إلى ظروف غائبة أو مغيبة بحرص من قبل الطرف المسيطر أو الحاكم أو المالك للحيلولة دون وجود أية قوة فعلية بيد المحكوم , أي أن العقد الجديد يقتصر على تغيير في الشكل و لكن مع المحافظة بإصرار على الفصل التام بين الحاكم و المحكوم و بالنتيجة حصر كل السلطة و القوة الفعلية بيد الحاكم و إقناع المحكوم بأن هذا الوضع هو أفضل و أنه “على الطريق نحو المزيد من الحرية” , هذا التغيير في شكل العلاقة بين الحاكم و المحكوم يجري تعقيده بشكل مقصود و مزيف للإيحاء “بحدوث تغيير جدي” , على العكس الحرية هي أن يحقق المهمشون سياسيا و اجتماعيا مشاركة فعلية في تقرير مصيرهم أبعد من لعبة النخب التمثيلية..في الحقيقة يجب التأكيد أن الاستبداد و تغييب الفرد في بنى سيطرة القوى السائدة يبدأ من مرحلة تشكل الإنسان الجسدي و بداية تشكل وعيه و يستمر حتى الغياب الفعلي الفيزيائي للإنسان من قبل مؤسسات مختلفة و متنوعة و لصالح سلطات مختلفة , حتى أن طقوس الولادة و الموت نفسها هي جزء من طقوس عبادة أو التسليم لسلطة ما , إعادة إنتاجها من جديد , قد تكون السلطة المستبدة و الطبقة الحاكمة أو المستغلة اقتصاديا و اجتماعيا أكثرها شمولية و تكاملا و قوة فهي تشكل بالفعل قمة هرم الاستبداد و الاستغلال , أما مبررات هذا التغييب و التهميش التي تستخدمها كل هذه المؤسسات و السلطات الأكثر شمولية أو الأكثر جزئية تكاد تكون هي نفسها منذ الولادة و حتى الموت , و تقود في أحيان كثيرة مع الوقت أو مع عملية تكييف “ناجحة” أو تدريب على الخنوع و على رفض أي حرية و إدانتها و شيطنتها كممارسة و كفكرة إلى تحول الفرد في بعض الحالات من مقموع أو مادة للقمع إلى مصدر للقمع و ممارسة السلطة في حدود تختلف صغرا أو اتساعا , فمثلا يتحول أبناء الأمس إلى آباء اليوم , التلميذ أو الطالب إلى أستاذ أو معلم , الشاب المراهق إلى رجل دين يستنكر أية أحلام بالحرية عند المراهقين الجدد أو إلى رجل شرطة أو حتى ضابط يقوم بممارسة تعذيب خصوم النظام أو ربما فقط “المجرمين العاديين” بشكل لا إنساني باعتبارهم “بشر منحرفين أو ذوي إنسانية ناقصة”..قلة بالطبع يستطيعون تسلق كل السلم الاجتماعي و الطبقي التراتبي الهرمي ليصلوا إلى ذروته , رغم أن هذه الحركية ممكنة خاصة في أوقات تغيير النخبة الحاكمة..تتنازع الإنسان هنا نزعتان , و ربما غريزتان , رئيسيتان , غريزة الخنوع و غريزة التوق إلى الحرية , قد نختلف فيما إذا كان هذين الدافعين غريزيين أو فطريين أو أنهما نتاج عملية تحريف و تعديل دائمة لا تنقطع إلا بموت الإنسان مع الأفكار و الممارسات السائدة و مع محيطه و البشر الآخرين , أي عملية تفاعل قمعي بين الحالة الغريزية و بين الواقع كما قال فرويد..تحدث فروم أيضا عن الخوف من الحرية , عن القلق الذي يسببه التحرر أو الرغبة في التحرر من التابوهات و القيود و السلطات التي تكبل الإنسان , الخوف من الحرية يعني أننا نشعر بشيء من السلام في حالة الخضوع و بالكثير من القلق في الحياة دون قيود دون نير أو دون سلطة توجهنا و لو على حساب استغلالنا الصريح المعلن..في الحقيقة نجد هناك على الدوام صراع , علني أو خفي , بين تكريس التابو أو النضال ضده , سواء أكان هذا يدور في الوعي أو اللاوعي , إن التابو في الحقيقة هو أساس سلطة ما تقوم على حمايته و معاقبة كل من ينتهكه , فأي معنى مثلا لسلطة المؤسسة الدينية إذا لم تكن هي المسؤولة أساسا و ربما المسؤولة الوحيدة عن تحديد الحقيقة المطلقة و القيام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كوظيفة محصورة بها و كوصية على روح الإنسان التي تنزع وفقا لها و لكل الأديان للخطأ و التي ستضل طريقها من دون شك دون توجيه و إشراف المؤسسة الدينية ؟ كما أن سلطة الآباء على الأبناء مثلا , رغم أنها تقوم بشكل أساسي على واقع أن الآباء هم من يوفرون المال اللازم لحياة الأسرة , تقوم أيضا على واقع أن الآباء هم الأوصياء الأوائل الذين يواجههم الكائن البشري على روحه و على التزامه الدقيق بالنسخة السائدة من الأخلاق مثلا ؟ هذا الجانب القيمي في السلطة يعرض دوما بشكل حقائق مطلقة أو تابوهات مقدسة أو شبه مقدسة هام جدا إلى جانب وحدانية هذه السلطة في احتكار القوة و العنف في مواجهة الأفراد – أتباعها أولا و من ثم من هم خارجها..القضية هنا هي تلك الأرضية التي ستشكل أساس خضوع أتباع السلطة لها , الوطن , الدين , الأخلاق , أو غيرها , كلها مفاهيم سلطوية أساسا , تعرض في شكل إنساني شمولي و في شكل حاجة إنسانية عامة لتبرير الخضوع للسلطة أساسا و لاعتبار الحرية خروجا على تلك “القيم الإنسانية” للعن حتى الحلم بالحرية..في الحقيقة إن كل سلطة تعتبر مهمتها الأساسية توجيه الإنسان و الإشراف على سلوكه و الحكم عليه و عقابه عند اللزوم..السؤال هنا هل هناك أية علاقة بين الاستبداد السياسي و الأشكال الأخرى من السلطة المطلقة التي تستهدف الفرد في وضعيته كتابع ؟ و هل أن هذه الحالة القيمية التي تنتج ثقافة الخضوع تجاه أية سلطة و ثقافة التحريم فيما يتعلق بالتابوهات هي ثقافة متواصلة إن لم تكن واحدة ؟ و هل يفسر هذا مثلا لماذا لم تكن البرجوازية و من بعدها الستالينية قادرتين على الوفاء بوعودهما بالحرية الإنسانية , و هل يدل تعايشهما مع أعداد لا حصر لها من السلطات و التابوهات , و قيامهما بإنتاج سلطاتها و تابوهاتها الخاصة في وقت لاحق , دليلا على أن رغبتهما المعلنة بتحرير الإنسان لم تكن أكثر من خطاب مزيف , من خطاب سلطوي جديد ؟ لنتذكر في محاولتنا الإجابة هنا الخطابات الدينية مثلا , التي تعلن أنها تريد تحرير الإنسان من كل الطواغيت ( وفق المصطلح الإسلامي ) , أي أن توحد السلطات التي يخضع لها الإنسان في قوة وحيدة جديرة فعلا بالعبودية و الخضوع و الاستسلام , لكن ما أن يعترف الإنسان بهذه القوة , بهذا الرب كسيد واحد وحيد , حتى يصبح عبدا لسلسلة لا تنتهي من السلطات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الروحية و الأخلاقية و لمجموعة لا تنتهي من الأوامر و النواهي التي تكاد تريد السيطرة عليه في كل تفصيل من تفاصيل حياته حتى أقلها تفاهة , حسنا , لا مشكلة في ذلك بالنسبة لمن يعتبر الحرية هرطقة أو حالة حيوانية , هذا حقه , وفقا للحرية الإنسانية تلك التي يرفضها , لكن إذا كنت تدعي البحث عن الحرية فمن الطبيعي أن تجد نفسك أمام الاستنتاج الذي يقول أنه لا يمكن تحرير الإنسان من بعض قيوده دون بعضها الآخر , إن هذا زيف أو خداع باسم الحرية هذه المرة..فكما أن الحديث عن الحرية الإنسانية من دون الحرية الاقتصادية أو الاجتماعية وفقا لماركس هو محض سخافة أو كذب , فإنه على نفس المستوى من السخف أو حتى الزيف الحديث عن حرية اقتصادية أو اجتماعية مجردة دون أن يؤدي ذلك إلى تدمير كل قيود الإنسان و سجونه كما ادعت الستالينية مثلا و الأنظمة البيروقراطية في عالمنا العربي…في الحقيقة لقد خدمت هذه النظرة الأحادية للإنسان القوى السائدة الجديدة , لقد تمكنت من إظهار دولنة الرأسمالية و تأميمها بمعنى نقل كل وظائفها في السيطرة على عملية الإنتاج و على نتائجها من جهة و في ممارسة السلطة و إنتاج قيمها و تابوهاتها من جهة أخرى إلى البيروقراطية على أنه تحرير اقتصادي للطبقات المستغلة من مستغليها القدامى بينما كانت في الواقع تنتج سلطة متطرفة في طغيانها و شموليتها و عسكرتها لروح الإنسان و لعالمه بمعنى تحويله إلى مجرد برغي في آلة الدولة..يقول باكونين في الله و الدولة أن الاشتراطات الوحيدة التي على الإنسان أن يخضع لها دون تردد هي اشتراطات الطبيعة وحدها و قيودها على وجوده , القضية هنا أن كل السلطات الموجودة , و التي وجدت من قبل , قد ادعت أنها , مع قيودها و تابوهاتها , جزء من اشتراطات الطبيعة هذه , نذكر جيدا أنه حتى أرسطو اعتبر النظام العبودي نظاما “طبيعيا” “فمن الناس من خلقوا أحرارا فزودوا بالجسم و العقل معا , و منهم من خلق عبدا فلم يزود إلا بقوى الجسم وحدها , أي منهم من خلق للسيادة و منهم من خلق للطاعة فقط….فالرقيق في نظره هو الأداة الحية و هو العامل الأول و أهم الأدوات جميعا” ( د. مصطفى النشار , تطور الفلسفة السياسية , ص 84 ) , كان واجب العبيد أن يثبتوا خطأ أرسطو , المعلم الأول , و ليس علماء الاجتماع أو السياسة أو منظري النخب و الطبقات السائدة و لا كبار “المفكرين” , وحده نضال العبيد للإطاحة بنظام مستعبديهم تمكن من قلب تلك “الحقائق الطبيعية” لتحل مكانها “حقائق طبيعية” جديدة , نخب جديدة و تابوهات جديدة و سلطات جديدة , نير جديد على ظهور الناس….
خاص – صفحات سورية –