صفحات مختارةياسين الحاج صالح

“السنة والإصلاح” لعبد الله العروي: من التسنين إلى التاريخ!

null
ياسين الحاج صالح
هذا كتاب فريد في بابه، لا يشبه كتابا آخر، تحفة. بالقدر نفسه، “السنة والإصلاح” لعبدالله العروي كتاب مربك، يحار المرء في تصنيفه. المفكر المغربي يتناول الميثولوجيا والكلام والفلسفة في مطلع كتابه، مقللا من الفوارق بينها، فما وضع كلامه حيالها؟ إن كان منها، فكيف يسعه أن يتكلم عليها كلاما مقبولا؟ وإن لم يكن منها، وهو بعد ليس تاريخا ولا علما موضوعيا، فمن أين يصدر، وما مصدر صدقيته؟
بنظرة عامة يبدو الكتاب فلسفيا، رغم أن المؤلف لا يخفي ازدراءه للفلسفة. فكأنما لا يستطيع المرء أن يزدري الفلسفة دون أن يقع في أحابيلها، ويتفلسف.
على أن الفلسفة التي ينكرها العروي هي “الميتافيزيقا”، التي لا يستبقي منها إلا المنطق. ينحاز بالمقابل إلى الفلسفة حين تكون “تفكيرا في الزمن”، وحين “اللافلسفة إعراض عن الزمن ونفي لحقيقيته”. “اللافلسفة” هنا هي بالضبط “السنة”، وهذا مفهوم أساسي في تأليف العروي، يعرفه بدلالة الرفض العنيد للحدث وإنكار الزمانية.
لكن لم لا نعتبر الكتاب نصا مفتوحا للتذوق؟ قد نجد عند المؤلف ما يسوغ هذا الاعتبار. هو من يقول في صفحات الكتاب الأولى: “ما من قول يصدر عنا إلا ويعبر عن هم ذاتي”. هذا قبل أن يضيف أن “تجربة طويلة من المطالعة المتمعنة والمحاورة المطردة” علمته ألا يقرأ “الفلاسفة والمتكلمين والروائيين إلا كما اقرأ الشعراء والمغنين”. وهو من يختم كتابه بخلاصة ملغزة، تمنح أفضلية للتذوق على المجاهدة. ما معنى ذلك؟ أرجح، وبعض عبارات العروي غامضة، وأحيانا مستغلقة، أن التذوق دعوة للانخراط في العالم وتجريبه، وأن المجاهدة هي “الممانعة”، نقلة غير مشروعة من احتجاج سياسي محبط إلى رفض حرون للكوني .
في 106 فقرات موزعة على نحو ضعفها من الصفحات، يجول العروي في عالم تمتد حدوده الزمانية إلى ألف عام قبل الإسلام، منذ تكون “العالم الهلستيني” (حسب تعبيره) إثر فتوحات الاسكندر، وحدوده المكانية إلى عالم المتوسط المحدود بـ”السد”، أقصى ما بلغه الفاتح اليوناني من جهة الشرق؛ عالم عوالم تمازجت فيه المواريث اليونانية والرومانية والسامية (اليهودية والمسيحية) والفارسية. وتنضبط الحدود الفكرية لهذا العالم بما يتيحه “السجل”، أي تراث “الثقافة الهلستينية” من جهة، وإلمام بالغ السعة للمؤرخ والمثقف المغربي بالفكر الحديث من جهة ثانية. إن مفاهيم المعطى الهلستيني والسجل والسد أساسية بدورها في كتاب “السنة والإصلاح”.
العروي مؤرخ، يرفض اعتبار الإسلام بداية مطلقة؛ أو كذلك “الجاهلية”. ثمة عالم تاريخي وثقافي وجغرافي أوسع، كان العرب شركاء فيه بصورة ما. ورسالة النبي أقرب إلى “التأويل والاختيار” في علاقتها مع الثقافة الهلستينية منها إلى “الاقتباس والتأثر”. إنها “قراءة يقوم بها شعب بعينه [لتلك الثقافة]، وذلك قبل أن تدون تلك القراءة الخاصة المتميزة في نص مضبوط”.
على أن العروي حذر في أحكامه. يذكر غير مرة أن كشفا أثريا واحدا قد يقلب معارفنا عن بدايات الإسلام وعن تاريخ العرب قبله. العرب الذين يتخذهم الدارسون مثالا لضرب من “عدم الملاءمة بين الثقافة المادية [البدائية] والحضارة الفكرية والروحية [المتطورة]”.
ممتنعا على التصنيف، الكتاب أشد امتناعا بعد على التلخيص والعرض. يقرأ (مرات) والقلم باليد كما كتب هشام جعيط يوما عن كتاب سابق للعروي (قرأته شخصيا مرتين بعد اقتنائي له في مطلع الشهر الماضي). قد يمكن اعتباره ضربا من فينومينولوجيا فلسفية تاريخية للإنسان المدرك والمتذكر في عالم ما بعد “الهلستينية”، تتداخل فيه مقاربة فلسفية تحاول توضيح معنى الواقعات التاريخية، ومقاربة تاريخية تدرج الواقعات تلك في الزمان والمكان. المؤرخ يفرض الانضباط على الفيلسوف في كتاب العروي، والفيلسوف يتقصى معنى للحدث الذي يهتم به المؤرخ. الأرجح أن هذا صعب جدا، لكننا حيال مثال فريد عليه.
من إبراهيم، مبدأ الذاكرة والتمييز، إلى “الثقافة الهلستينية” (التتابع غير زمني هنا)..إلى القرآن إلى الهجرة إلى الهجرة الثانية (فتح مكة) إلى الدولة إلى الكلام والفقه إلى “السنة” (بدلالتي الكلمة اللغوية والاصطلاحية)، يتعاون المؤرخ والفيلسوف في العروي.
والمثقف. ذلك أن العروي مهموم بحال ومآل الجماعة البشرية التي يقول إنه في لحظة ما قرر “الاندماج الكلي” بها وربط مآله بمآلها. والكتاب لا يترك أي لبس في أن الجماعة المعنية هي “العرب”، وليس “المسلمين” أو غيرهم. ينشغل بعملية التسنين المستمرة (لا يستخدم التعبير، لكنه مناسب لمقاصده) التي تدأب على مصادرة الزمن والمكر بالتاريخ.
في أية نقطة من التاريخ انطلقت عملية التسنين، أي التكرار والدائرية في تاريخ الإسلام؟ “زمن الفتوحات؟ عند تكوين الامبراطورية؟” الجواب: “لا بالتأكيد”. متى إذن؟ “بدأت عملية التحجيم عندما انحصر المد العربي وتعرضت دار الإسلام إلى الانكماش والتمزق، عندما فقد العرب القيادة العسكرية ثم الزعامة السياسية ثم الإمامة الفكرية ولم يبق سوى الولاية الدينية”. يتمنى المرء لو توسع العروي هنا بعض الشيء. هذه الفكرة تشبه أفكارا ربما ينساق المرء لمثلها بدافع “قومي”، الأمر الذي نجزم أن العروي ليس مستعدا لمحاباته. في موقع آخر يتكلم المؤلف عن “تاريخ تراجع وخذلان”، عن “ضيم وهوان” أصابا “أصحاب الشرع والرسالة” (العرب). وهو مقتضب جدا حين يتكلم على “الكيفية التي يتصرف بها أي حي يتعرض لاعتداء” كتفسير لنشوء “الذهنية السنية، الاتباعية، الاحتماء بالماضي، اتخاذ موقف السلف أسوة، مرجعا، معيارا”. نحدس أن “السر” هنا، لكن مؤلفنا يلتزم بأسلوبه التلميحي، فلا يتوسع. في المحصلة يبدو أن “السنة” ولدت من رضة تاريخية مؤلمة. صار همها تجنب التاريخ، نفي الحدث، رفض “البدعة”.
هل نستطيع القول إن الفكرة الأساسية في آخر كتب العروي هي “الإسلام هو الموضوع”؟ في مقدمة أول كتبه، “الإيديولوجية العربية المعاصرة”، كان تكلم (وإن في سياق مختلف قليلا) عن “البحث عن الموضوع”. هل يمكن أن نتكون كذات مستقلة دون موضعة الإسلام بالذات؟
قد يفتقد المرء شيئا أساسيا في كتاب العروي: ما كان حال عموم المسلمين؟ ما كانوا يطلبون؟ لماذا أمكن حذف حقول تفكير واسعة (الكلام، الفلسفة، العلوم الطبيعية أو “غير الإسلامية” كالحيل والهندسة والفلك..) ودانت السيادة للفقه، وحل التسنين محل التاريخ؟ أي نوع من طلب الجمهور المسلم العام سهل هذه العملية؟ وكيف أمكن لفقهاء أو محدثين مثل ابن حنبل وابن تيمية وورثتهما أن يكونوا أبطال العامة و”الأمة”؟ ربما لا أحد مؤهل للإجابة على هذه الأسئلة أكثر من العروي، الأوسع اطلاعا على “السجل”.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى