الشيخ والسلطان والمرأة- جمال الدين الأفغاني
عاش جمال الدين عزبا لم يقترن في حياته بامرأة.
وكان كلما شكى له أحد، كثرة العيال، وقلت ذات اليد، يعينه على قدر استطاعته، ويقول له قل (وأثقلت ظهري بالذي خفَّ من ظهري).
ففي يوم أرسل السلطان من أعلم جمال الدين أنه سيرسل له جارية حسناء من قصر (يلديز) ليتأهل بها، فامتنع السيد من ذلك وأبى رافضا ذلك التكليف بقول غريب (سيأتي بيانه).
فقيل له أنك إذاً تحب تأييد مذهب أبي العلاء حيث يقول:
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد
قال كلا -ولا أعتقد أن مثل هذا القول يصح أن يعزي إلى حكيم مثل أبي العلاء، لأنه ينافي الحكمة، ولا أن يتخذ حجة، أو قدوةً.
إذ كيف يصح لعاقل أن يعتبر التأهل، والازدواج جناية- وأن قيل إنها جناية معنوية، في بعض نتائجها، كيف يصح لولد صار حكيما مثل المعري (ولولا علة وجوده وهو ازدواج أبيه لما برز من العدم) أن يلصق الجناية بأبيه خلافا لكل عقل ونقل.
ومن ينكر أن بقاء النوع، واستكمال حكمة العمران، ما كان ولن يكون إلا بالتناسل، والتزاوج.
أما حكمة الزواج وشرطه فقد جاء في القرآن على أوضح وجه وأصرح بيان، إذ قيد من خاف أن لا يعدل -بالامرأة الواحدة- وترك للمستدل، ولمن يخشى أن لا يعدل حتى مع الواحدة (عدم الزواج) وهذا ما يستنتجه العقل ما دام يحمله العاقل، ويقول به الحق، والعدل.
(أما أنا فمعرفتي بما تتطلبه الحكمة الزوجية من معاني العدل، وعجزي عن القيام بأمره، دفعني أن أتقي عدم العدل ببقائي عزبا من أن أتأهل وأكون ظالماً).
فقال له طبيب موسوي كان من خاصته: فهل تفاديا من الخوف من عدم العدل يجوز أن يخالف الإنسان طبيعته؟ فتبسم السيد وقال له:
(أن الطبيعة أحكم منك فهي تدبر نفسها ومن ترك شيئا عاش بدونه).
عند ذلك قلنا لجمال الدين -تقبل من جلالة السلطان عطاءه من المال فَلِمَ لم تقبل عطاءه من الجواري الحسان؟ قال:
(أما المال الذي يعطينيه فإني أجد له على اجتهادي أكفاء يقومون بأداء الواجب نحوه.
وأما الزواج بالجارية الحسناء فما أنا بالكفؤ لها، ولست بوليها لأتحرى لها كفواً.
ثم قال للواسطة في هذا الشأن:
(إذا أصر جلالة السلطان، أو أحب أن يكرهني على هذا الأمر. فلا ظن إلا أنه يحب أن يراني في عداد الخصيان فيرتاح إذ ذاك من هذا الفصول في الإحسان -فأخبروه أني سأقطع آلة التناسل إذا هو أصر.
ولما لم يأخذ الوسيط (وهو من كبار الأغاوات) من جمال الدين غير هذا الجواب ذهب مستغرباً مدهوشا من شكل هذا الرد وصورة الرفض.
وعلى ما نظن أن جمال الدين لم يخطئ في رده ورفضه قبول الزواج الذي إنما كان من السلطان عبد الحميد لمأرب لا حفاوة، إذ كان جل قصده تقييد جمال الدين بغائلة العائلة ليس إلاَّ.
وبعد أن سكنت الضوضاء التي أحدثتها تكليف السلطان عبد الحميد لجمال الدين أن يزوجه. ورفضه على تلك الصورة التي ذكرناها -قيل للسيد: لو فرضنا أنك قبلت تكليف السلطان، واقترنت بامرأة، فما هي الخطة التي كنت ترسمها لقرينتك، وما رأيك في مساواة المرأة بالرجل؟
قال:
(إنه ليسرني إذ صار فرضكم بأمر زواجي (نفلا) -أو في حقيقة (لغواً) وتخلصت من الخطة والخطط والخطوط.
أما أمر مساواة المرأة بالرجل، والحجاب وهتكه، وحقوق المرأة الخ- فقد قرع أذاني مراراً، وقرأت في هذا الموضوع مقالات ورسائل -ولكن لا أكتمكم أنني لم أعثر في كل ذلك على مقال صريح أو تحديد لمطلب المساواة، أو على بيان الغاية من هتك الحجاب، أو الفائدة التي تترتب عليه، أو تأتي من ورائه. وعندي لا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور.
ولا أظن أن ضجيج بعض الناشئة في الشرق، والمتفرنجين منهم يقصدون بطلبهم -مساواة المرأة مع الرجل- (في التكوين) ذلك لأنه ممتنع بل مستحيل.
فإذا صح هذا الامتناع من هذه الوجهة فلا مناص من أن تبقى المرأة كما هي امرأة تكوينا والرجل رجلا.
وأما إذا قصدوا المساواة من حيث المواهب الفطرية فهذا أثر الاكتساب فيه ضعيف -فالشاعر والشاعرة إذا كان في فطرتهما حسن التصور، وسعة الخيال مع صفاء في السليقة- برعا في الشعر.
وإن لم يكونا كذلك وانصرفا إلى أوزان الخليل تعلماً واكتساباً من فاعلات فاعلات، وفاعل وفعول- فلا يخرجنا إلا وازنا ووازنة.
أما ما بقي من العلوم التي تحصل للإنسان بالتعلم على نسب مختلفة بحسب القابلية الفطرية، من طب وهندسة وفلاحة وصناعة الخ ففي انهماك المرأة، ودخولها معترك هذه الصناعات نظر.
فالمجتمع الإنساني إنما قام على دعامتين، أو يقوم بالمجتمع عاملان -المرأة والرجل-.
فلنأخذ الرجل ونبحث في تكوينه، وخلقه وتركيبه، فنرى في أعضائه ووجوده ما ليس في المرأة ولا حاجة للتفصيل، والرجوع إلى علم التشريح وكذلك في المرأة وتكوينها ما ليس في الرجل.
وفي كلا التكوينين من ناقص وزائد لا يعد بالنظر إلى الفطرة لا نقصا ولا كمالا.
لأن الطبيعة أحكمت صنعها في ذلك، وأجادت في تكوينها.
[فتبارك الله أحسن الخالقين].
يرشدنا ذلك التباين في تكوين العاملين إلى وجوب اختلاف عملهما بما لديهما من معدات وآلات التكوين، ليتم من ورائهما عمل صحيح بالنتيجة، وبناء مستجمع لوازمه.
قال: ثم إذا أخذنا ما يحترفه الإنسان من الصنائع، وما يتوخاه من ورائها، فلا نراه يخرج في كل ما يتحمله من مضض التعلم، ومزاولة العمل عن كسب القوت له ولعياله -ولا يقال عائلة إلا إذا تشكلت من رجل، وزوجة، وأولاد.
وبديهي أن أبسط أنواع القوت وهو الخبز، يحتاج ليصير خبزا عشرات العمال، منهم من يعالج الأرض بالحراثة، لتصلح لبذر القمح، وأبقار، وسائس، ومساس (ويلزم له الحداد، والحداد يلزمه أعوان) ومطحنة، وطاحن و. و. الخ حتى يصير دقيقاً، فتعجنه المرأة وتخبزه في التنور أو يخبزه الفران، فإذا شاركت المرأة الرجل في الصناعات (وهي لا تكون إلا خارج البيت) فمن يدير أو يدبر مملكة البيت؟ ومن يربي الطفل؟ ومن يخط في لوحه الصقيل، رسوم الشجاعة، والفضيلة والإقدام غير المرأة، ومن يربي أقيال الملوك في أخلاقهم، غير تلك الملكة وهي المرأة -اللهم إذا أرادت أن تبقى ملكة، لا أن تبقى ملكة وملكاً في آن واحد.
ليس من يحط من قدر المرأة، ويمتهن خلقها، ويدهورها لدركات الابتذال إلا ذلك الطائش المغرور- الذي يغريها على ترك مملكتها (بيتها)- وأن تزاحم الرجل في شقائه بجلب العيش الذي لو فرضنا إنها أفادت بعض الفائدة المادية فيه، وعاونت به- لا شك أن الخسارة تكون من وراء تركها المنزل، وتدبيره، والطفل وتربيته، أعظم بكثير من تلك المنفعة التي لا تبقى على الأخلاق، ولا تفسد إلا الأنسال والأعراق.
أما رفع الحجاب فما رأيت لمن قال بلزومه، وخطب فيه أو كتب أنه ذكر أقل نفع له، أو فائدة تأتي من ذاته أو من ورائه، والذي أراه أن الحجاب ستار إذا رفع طفرة، وفجأة، إنما يظهر على الغالب من تحته شناعات الخلاعة، و التبرج، واستهوان الفجور، وعدم المبالاة بالرقابة العامة ولو أقتصر النساء على الاكتفاء بالسفور ولم يتخذ كما قلنا مطية للفجور لما كان في الأمر ما يحتاج لأخذ ورد. ولكن إذا رأين للسفور متممات لا تتم إلا في خارج البيت فهناك الطامة وفواجع الطفرة واختلال التوازن في أعمال الشريكين.
ثم قال:-رحم الله أبا الطيب المتنبي فأنه لو وجد في زماننا ورأي ما نراه من المتبرجات-من شرقيات مقلدات للغربيات-وغربيات بائحات، وشرقيات ورائهن سائحات، وبتسفلهن عاملات، وبشططهن وإسرافهن، آمرات فاعلات، ومن أخلاق الطاهرة (أخلاق البداوة السالمة الصحيحة) عاريات مارقات-أظنه إنما كان يرى في أخلاق نسوة (نسل الانكلوسكسون) أخلاق البداوة، ومحاسنها، وصفاء عيش من يعمل بها-ولرأي في أكثر نسوة من سواهم، تلك الحضارة السافلة.
ولا أدري ماذا كان يسمح له الخيال الشعري أن يزيد على قوله:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة أوراكهن ثقيلات العراقيب
قيل لجمال الدين، أن الذين يطلبون مساواة المرأة بالرجل، ودخولها في معترك الحياة من كل وجهة، إنما يحملهم ما يقرءونه في سيرة نساء المسلمين في الصدر الأول-وان السيدة عائشة ركبت الجمل، وشجعت في الحرب، وبرزت، وخطبت الخ. كذلك نساء الصحابة كن يرافقن الجيش، ويخضن المعامع، ويخدمن الجرحى والخ.
قال:-(غريب ما يقولون وما يدعون-أن ركوب السيدة عائشة الجمل، ومرافقة نساء الأصحاب الجيش، كل ذلك حالات استثنائية لا يصح أن تتخذ قاعدة، تجري عليها النساء في كل حين.
أما ركوب السيدة عائشة الجمل، فقد تنبأ عنه المصطفى (صلعم) وذكر ذلك المركب الخشن، وأنها ستنبحها كلاب حوشب (الحديث) وليس فيه أدنى فخر لتتشبه به بقية النساء.
بقي علينا ذهاب نساء الأصحاب لساحات الحروب، وخدمتهن الجيش وهو أمر مستحسن، للتي لم يكن لها زوج مقعد، أو والد، ووالدة، وأطفال.
لأن الجهاد وهو فرض، فقد استثني منه المعيل، واشترط فيه إجازة الوالدين، وان خدمتهما، أولى من الذهاب للجهاد إذا هما لم يأذنا (كما ورد في الحديث، وسيرة الأئمة).
هذا شأن الرجل فما بالك بالامرأة.
نعم إذا لم يكن للمرأة مانع من الموانع، أو كان زوجها، أو ابنها، أو أقاربها اللح في الجيش، وذهبت للخدمة، بينة صالحة، وذيل طاهر، عد لها ذلك فضيلة وحسنة.
وبالاختصار-كما سبق القول-أن تلك حالات استثنائية، لا يصح أن يؤخذ منها، مساغا أو جوازا للمرأة أن تبارح بيتها لتتشبه بالرجل في خوض المهالك والمكاره-وفطرة الله قد أغنتها عنها وكفتها شرها.
وما أسقمه رأيا، وأبعد عن الصواب، تبرز المرأة لتقتل أو تقتل والشاعر قد قسم لها قسمها:
فقال
كتب القتل والقتال علينا وعلى الفانيات جر الذيول
كان السيد جمال الدين، هشا، بشا، طلقا، يتدفق كالسيل في كل ما كان يلقيه من محاضرات، ويخوض فيه من المواضيع المختلفة، إلا في موضوع (مساواة المرأة بالرجل)-فقد رأيناه نكدا، كارها للخوض فيه، عصبيا، نفورا منه.
ولكن لما علم أن لفيف مريديه مصممون على استطلاع رأيه، وان تجنبه لهذا البحث لا يرجعهم عن متابعة الاستطلاع، عند ذلك تربع وقال:
(ما عندكم في هذا الموضوع من الغوامض، التي تحبون استجلاءها؟
قيل:- قال الأستاذ (للهيئة الاجتماعية دعامتان، أو يقوم بالمجتمع عاملان المرأة والرجل).
المفهوم الظاهر أن هذين العاملين هما بمنزلة الشريكين في الحياة فإذا ارتقى أحدهما وجب أن يرتقي الآخر، أو على الأقل أن لا يقف الواحد في سبيل الثاني.
فالرجل تدرّج في أدوار، وارتقى من طور إلى طور حتى وصل إلى ما وصل إليه من مدنية، وحضارة، وعلوم، وفنون، -والمرأة وقفت جامدة، خاملة، يعمل في تمادي جمودها، وخمولها، وعدم نهوضها الرجل -ويقيدها- الرجل، ويقتل مواهبها- الرجل، تارة بدعوى الدين، وأخرى في عدم كفاءتها من حيث التكوين. مع أن دعوى التكوين، والمواهب من قوة جسم وصحة عقل، ما كانت على نسبة واحدة، في الرجال كافة، ليصح أن يحكم على تجرد النساء منها -فكم رجل يعد بألف،وكم ألوف تمر بلا عداد.
وما جاز وجوده في الرجال من هذا القبيل، لا يستحيل وجوده في النساء بل هو من الممكنات -خصوصا وقد أتى على المرأة حين من الدهر كانت فيه مع الرجل في مستوى واحد- وأما التكوين في أمره الرئيسي، من رأس، ودماغ، وإرادة، وتمييز- ليس فيه تباين، أو تغاير، أو تعدد، بمعنى أن الرجل ليس له رأسان، وللمرأة رأس ونصف رأس، أو نصف رأس، أو في الأول أربعة آذان وفي الثاني أقل من ذلك- والذي نراه من التفاوت، أن هو إلا من حيث التربية وشكلها، وإطلاق السراح للرجل وتقييد المرأة في عدم البراح من الخدر، وحصر مواهبها في ذلك المضيق. ثم انقطع الكلام وساد السكوت، فقال جمال الدين:
هل لكم ما تقولون غير هذا؟ قلنا لا -غير إلفات نظر الأستاذ إلى حالة المرأة في الغرب خصوصا في الأمة (السكسونية) التي يعجب السيد بتربيتها، ويمتدح أدب المرأة فيها وحشمتها.
قال: (دخلتم في هذا الموضوع على السفسطة من باب وسع، والتوى عليكم القصد، بل عكستم القضية (ربما من حيث لا تريدون) ذلك لأنكم تطلبون للمرأة أمراً من المساواة بالرجل، ولا تفقهون لفائدتها معنى، ولا للمقصود حصراً، ونتيجة- وإليكم البيان:
قلتم أن الرجل، تدرج، وتطور، وارتقى حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم -وأن الرجل والمرأة كانا في زمن من الأزمان في مستوى واحد- وأنه ليس في تكوينهما ما يمتاز به الواحد عن الآخر.
فإن سلمنا لكم في هذا وجب أن ننظر إلى عوامل ارتقاء الرجل، والمؤثر فيه. -فإن قلتم أن الرجل قام بنفسه بدون مساعدة آخر- ولا تأثير للتربية عليه- سألتكم ما الذي منع المرأة أن تجري مع الرجل حيثما جرى، وتأخذ من التدرج، والتطور، والارتقاء، ما أخذ به الرجل، وكلاهما في مستوى واحد، وتكوين واحد؟ -والقوة التي تزعمونها في الرجل، وأنه قيد المرأة بها، لم توجد فيه دفعة واحدة، بل أتت بالطبع على سبيل التدريج وسننه. ثم رأيت غيركم من المطالبين بحقوق المرأة المهضومة على وهمهم، والآخذين بناصرها لتتساوى مع الرجل – يهيمون في مجاهيل التاريخ، ويبحثون عن المرأة في زمن الرومان، ومن قبلهم، أو بعدهم، ويعيدون ذكرى عصر (شيوع المرأة) – وأن الولد ما كان ليعرف أباه، بل كان يرجع إلى أمه في نسبة قهراً، وضرورة، بالنسبة إلى ذلك الشيوع -القبيح-.
أقول (قبيحاً) ولعل المتحمسين للمرأة يرون ذلك الشيوع (حسنا) ويرومونه، ويسعون من طرق خفية للعودة إليه، ولكنهم لا يستطيعون به جهرا، أو يخجلهم الحق الذي لا يجدون له ستراً، ولا لنوره إطفاءً.
نعم يذكرون عصر الشيوع، وكأني بهم يريدون أن يستنتجوا منه -أن المرأة كان لها منه مقاما، ولكنه (غير ريم) إذ كان الولد يرجع بنسبه لأمه، والمسيطر عليه وعليها خاله (بئس ما يستنتجون، وساء ما يقولون).
أرشدنا العقل، أن الإنسان في تطوره، إنما كان يترك ما يضره، ويقبل ما ينفعه، ويأخذ بالأنسب، والأصلح -صناعة، وأخلاقاً، واجتماعاً.
انتقل الإنسان من العصر (الظرري) -العصر الصواني- إلى العصر الحديدي، لمنفعة رآه فيه.
فهل يعقل اليوم أن يترك الإنسان الحديد، ويرجع القهقرى إلى الصوان يتخذ منه سلاحا، وآلات على ضعف أثره، ومحدودية نفعه؟ -كلا-.
على هذا يصح القياس والقول، بعدم نفع الرجوع إلى حالات تلك الأعصر، التي ما تركها الإنسان إلا لأنه رأى خيرا منها -ومن ذلك- شيوع النساء، وعدم طهارة الزواج، ولوث الزناء، والسفاح، وما يجره من ويلات العلل والأمراض الجسدية والروحية. يخطئ ويضل الصراط السوي، من قال أو يقول -أن الرجل قام، أو يقوم بنفسه، لا في عصر الهمجية، ولا في عصر الحضارة والمدنية، بل أن الذي ساعده، في كل أدوار الحياة، ويساعده، ويخط في لوحه الصقيل، منذ طفولته، خطوط الفضيلة، أو الرزيلة -أن هي إلا (المرأة).
فالرجل في آثاره، وجراثيم غذلئه، وبالخطوط الأولى التي ترسم فيه، هو صنع الأم (المرأة) مدين للأم (المرأة) تلميذ الأم (المرأة) صالحا نشأ أم طالحاً.
فإذا علمنا أن للمرأة ذلك التأثير، وأن عليها القيام بذلك الواجب، وتحمل أثقال ذلك العبء -الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها- كيف يصح أن يسلب منها ذلك الحق، أو أن تدعى لتركه أو أن تساق إلى ما لا يعنيها ويضر بالهيئة الاجتماعية، ويقلبها رأسا على عقب.
أني لا أرى في الذين يقولون بمساواة المرأة في الرجل وأشغالها بما خلق له، هو، ولم تتكلف به الأم (المرأة) – إلا أنهم يحاولون نقض حكمة الوجود، الذي إنما، صار وجوداً، وكوناً، وهيئة – بوجود العاملين (المرأة والرجل).
يريدون أن يرجعوا، ويدغموا الاثنين بواحد، – وبصريح القول- ينتهون بنتيجة ما يطلبون، إلى أن لا يكون في الكون إلا رجلا، أو امرأة -هذا إذا حصلت المساواة بين الاثنين، وتجاريا في العمل- يعني أن يصير كل منهما طبيباً، صيدلياً، مهندسا، فلاحا، خياطا، نجارا، حاكما مبعوثا، قائدا، الخ.
ومتى وصل المجتمع الإنساني إلى هذا الحد، فمن أين نأتي بالأم (المرأة) مربية الرجال، ومرضعة الفضيلة لهم، وهي في ذلك الشغل الذي يستغرق كل وقت الرجال، ولم يجدوا في أقل صنعة يحترفونها متسعا لهم، أكثر من جلب القوت، وسوقه للبيت لتعالجه المرأة، فتغذي به رجلها، وطفلها-.
أما عمل المرأة، وواجباتها في بيتها، ونحو زوجها وأولادها، فأهم بكثير من صناعات الرجل مهما دقت، وعظمت، وجلَّ نفعها. وأن أكبر فاضلة من النساء، إذا هي قامت ببعض واجبات المنزل، وتدبيره، وحسن تربية الطفل، تكون قد رجحت على أكبر الرجال علما وعملا.
لأنه كما سبق القول (ليس غير المرأة من يهيئ للمجتمع رجالا) وهذه المرتبة السامية للمرأة لم يكن ليهيئها الرجل للمرأة، لأنها أسمى منه – بل هيئتها لها الطبيعة، وحرمت الرجال من أن تنالها.
تلك المرتبة هي أسمى من كل ما تتوهمها المرأة في الرجل من المهن والصنائع، ولا تنحط المرأة إلا إذا هي تساوت مع الرجل بها.
ومختصر القول (أن قوة المرأة في ضعفها، وفضل الرجل في قوته وأن يكون تجاه المرأة ضعيفا – وفي مذهبي أن تبادل النوعين بالمزيتين خروج عن حكمة الفطرة، ومغالبة للطبيعة) ا. هـ.