صفحات مختارة

حكم الشريعة في تعدد الزوجات- الشيخ محمد عبدة

null


قد أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة قال تعالى: [فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة] فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل وساءت معيشة العائلة إذ العماد القويم لتدبير لمنزل هو بقاء الاتحاد والتآليف بين أفراد العائلة،
والرجل إذا خص واحدة منهن دون الباقيات ولو بشيء زهيد كأن يستقضيها حاجة في يوم الأخرى امتعضت تلك الأخرى وسئمت الرجل لتعديه على حقوقها بتزلفه إلى من لاحق لها وتبدل الاتحاد بالنفرة والمحبة بالبغض، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدون والعلماء والصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله في العدل بينهن. فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات في نوبة الأخرى إلا بأذنها.

من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطاف به وهو في حالة لمرض على بيوت زوجاته محمولا على الأكتاف حفظا للعدل، ولم يرض بالإقامة في بيت إحداهن خاصة، فلما كان عند إحدى نسائه سأل في أي بيت أكون غداً، فعلم نساؤه أنه يسأل عن نوبة عائشة، فأذن له في المقام عندها مدة المرض فقال: (هل رضيتنّ) فقلن نعم، فلم يقم في بيت عائشة حتى علم رضاهن. وهذا الواجب الذي حافظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو الذب ينطبق على نصائحه ووصاياه فقد روي في الصحيح أن آخر ما أوصى صلى الله عليه وسلم ثلاث كان يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه وخفي كلامة: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون. الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم -أي أسراء- أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وقال: (من كان له امرأتان فمال إلى أحدهما دون الأخرى -وفي رواية ولم يعدل بينهن- جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن ميله القلبي بقوله: (اللهم هذا (أي العدل في البيات والعطاء جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا املك) (يعني الميل القلبي) وكان يقرع بينهن إذا أراد سفراً.

وقد قال الفقهاء يجب على الزوج المساواة في القسم في البيتوتة بإجماع الأئمة وفيها وفي العطاء أعني النفقة عند غالبهم حتى قالوا يجب على ولي المجنون أن يطوفه على نسائه. وقالوا لا يجوز للزوج الدخول عند إحدى زوجاته في نوبة الأخرى إلا لضرورة مبيحة غايته يجوز أن يسلم عليها من خارج الباب والسؤال عن حالها بدون دخول. وصرحت كتب الفقه بأن الزوج إذا أراد الدخول عند صاحبة النوبة فأغلقت الباب دونه وجب عليه أن يبيت بحجرتها ولا يذهب إلى ضرتها إلا لمانع برد ونحوه. وقال علماء الحنفية أن ظاهر آية: [فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة] أن العدل فرض في البيتوتة وفي الملبوس والمأكول والصحبة لا في المجامعة لا فرق في ذلك بين فحل وعنين ومجبوب ومريض وصحيح. وقالوا أن العدل من حقوق الزوجية، فهو واجب على الزوج كسائر الحقوق الواجبة شرعا إذ لا تفاوت بينها، وقالوا إذا لم يعدل ورفع إلى القاضي وجب نهيه وزجره، فإن عاد عزّر بالضرب لا بالحبس وما ذلك إلا محافظة على المقصد الأصلي من الزواج وهو التعاون في المعيشة: وحسن السلوك فيها.

أفبعد الوعيد الشرعي، وذاك الإلزام الدقيق الحتمي، الذي لا يحتمل تأويلا ولا تحويلا، يجوز الجمع بين الزوجات عند توهم عدم القدرة على العدل بين النسوة فضلا عن تحققه؟ فكيف يسوغ لنا الجمع بين نسوة لا يحملنا على جمعهن إلا قضاء شهوة فانية، واستحصال لذة وقتية، غير مبالين بما ينشأ عن ذلك من المفاسد ومخالفة للشرع الشريف، فأنا نرى أنه أن بدت لإحداهن فرصة للوشاية عند الزوج في حق الأخرى صرفت جهدها ما استطاعت في تنميقها وإتقانها وتحلف بالله إنها لصادقة فيما افترت (وما هي إلا من الكاذبات) فيعتقد الرجل إنها أخلصت له النصح لفرط ميله إليها، ويوسع الأخريات ضربا مبرحا وسبا فظيعا، ويسومهن طرداً ونهراً من غير أن يتبين فيما ألقي إليه، إذ لا هداية عنده ترشده إلى تمييز صحيح القول من فاسده، ولا نور بصيرة يوقفه على الحقيقة، فتضطرم نيران الغيظ في أفئدة هاتيك النسوة وتسعى كل واحدة منهن في الانتقام من الزوج والمرأة الواشية ويكثر العراك والمشاجرة بينهن بياض النهار وسواد الليل، وفضلا عن اشتغالهن بالشقاق عما يجب عليهن من أعمال المنزل يكثرن من خيانة الرجل في ماله وأمتعته لعدم الثقة بالمقام عنده فأنهن دائما يتوقعن منه الطلاق إما من خبث أخلاقهن أو من رداءة أفكار الزوج. وأيًّا ما كان فكلاهما لا يهدأ له بال ولا يروق له عيش.

ومن شدة تمكن الغيرة والحقد في أفئدتهن تزرع كل واحدة في ضمير ولدها ما يجعله من ألد الأعداء لأخوته أولاد النسوة الأخريات فأنها دائما تمقتهم وتذكرهم بالسوء عنده وهو يسمع وتبين له امتيازهم عنه عند والدهم وتعدد له وجوه الامتياز. فكل ذلك وما شابهه أن ألقي إلى الولد حال الطفولية يفعل فعلا لا يقوى على إزالته بعد تعقله فيبقى نفورا عدوا له لا نصيرا وظهيرا له على اجتناء الفوائد ودفع المكروه كما هو شأن الأخ).

وان تطاول واحد من ولد تلك على آخر من ولد هذه وان لم يعقل ما لفظ أن كان خيرا أو شرا لكونه صغيرا انتصب سوق العراك بين والدتيهما وأوسعت كل واحدة الأخرى بما في وسعها من ألفاظ الفحش ومستهجنات السب (وان كن من المخدرات في بيوت المعتبرين) كما هو مشاهد في كثير من الجهات خصوصا الريفية وإذا دخل الزوج عليهن في هذه الحالة العسر عليه إطفاء الثورة من بينهن بحسن القول ولين الجانب إذ لا يسمعن له أمرا ولا يرهبهن منه وعيد لكثرة ما وقع بينه أو بينهن من المنازعات والمشاجرات لمثل هذه الأسباب أو غيرها التي أفضت إلى سقوط اعتباره وانتهاك واجباته عندهن أو لكونه ضعيف الرأي أحمق الطبع فتقوده تلك الأسباب إلى فض هذه المشاجرة بطلاقهن جميعا أو طلاق من هي عنده أقل منزلة في الحب ولو كان أم أكثر أولاده من المنزل سائلة الدمع حزينة الخاطر حاملة من الأطفال عديدا فتأوي بهم إلى منزل أبيها أن كان. ثم لا يمضي بضعة أشهر عنده إلا وتراه سئمها فلا تجد بدا من رد الأولاد إلى أبيهم، وان علمت زوجة الحالة تعاملهم بأسوأ مما عوملوا به من عشيرة أبيها، ولا تسل عن أم الأولاد إذ طلقت وليس لها من تأوي إليه، فأن شرح ما تعانيه ألم الفاقة وذل النفس ليس يحزن القلب بأقل من الحزن عند العلم بما تسام به صبيها من الطرد والتقريع من الجوع ويبكون من ألم المعاملة.

ولا بأقل أن ذلك غير واقع فإن الشريعة الغراء كلفت الزوج بالنفقة على مطلقته وأولاده منها حتى تحسن تربيتهم وعلى من يقوم مقامها في الحضانة أن خرجت من عدتها وتزوجت-فإن الزوج وان كلفته الشريعة بذلك، لكن لا يرضخ لأحكامها في مثل هذا الأمر الذي يكلفه نفقات كبيرة إلا مكرها مجبورا. والمرأة لا تستطيع أن تطالبه بحقها عند الحاكم الشرعي إما لبعد مركزه فلا تقدر على الذهاب إليه وتترك بنيها لا يملكون شيئا لمدة أسبوع وأسبوعين حتى يستحضر القاضي الزوج، وربما آبت إليهم حاملة صكا بالتزامه بالدفع لها كل شهر ما أوجبه القاضي عليه من النفقة من غير أن تقبض منه ما يسد الرمق، أو يذهب بالعوز، ويرجع الزوج عصرا على عدم الوفاء بما وعد لكونه متحققا من أن المرأة لا تقدر أن تخاطر بنفسها للشكاية لوهن قواها واشتغالها بما يذهب الحاجة الوقتية ، أو حياء من شكاية الزوج. فإن كثيرا من أهل الأرياف يعدون مطالبة المرأة بنفقتها عيبا فظيعا، فهي تفضل البقاء على حمل تفضل البقاء على تحمل الأتعاب الشاقة طلبا لما تقيم به بنيتها على الشكاية التي توجب لها العار، وربما لم تأت بالثمرة المقصورة. وغير خفي أن ارتكاب المرأة الأيم لهذه الأعمال الشاقة ومعاناة البلايا المتنوعة التي أقلها ابتذال ماء الوجه تؤثر في أخلاقها فسادا وفي طباعها قبحا مما يذهب بكمالها، ويؤدي إلى تحقيرها عند الراغبين في الزواج ولربما أدت بها هذه الأمور إلى أن تبقى أيما مدة شبابها تتجرع غصص الفاقة والذل، وان خطبها رجل بعد زمن طويل من يوم الطلاق، فلا يكون في الغالب إلا أقل منزلة وأصغر قدرا من بعلها السابق، أو كهلا قلت رغبة النساء فيه، ويمكث زمنا طويلا يقدم رجلا ويؤخر أخرى خشية على نفسه من عائلة زوجها السالف. فإنها تبغض أي شخص يريد زواج امرأته وتضمر له السوء أن فعل ذلك، كأن مطلقها يريد أن تبقى أيما إلى الممات رغبة في نكالها وإساءتها أن طلقها كارها لها. وأما إذا طلاقها ناشئا عن حماقة الرجل لإكثاره من الحلف به عند أدنى الأسباب، وأضعف المقتضيات كما هو كثير الوقوع الآن، اشتد وغيرته عليها، وتمنى لو استطاع سبيلا إلى فقلتها أو قتل من يريد الاقتران بها.

وكأني بمن يقولون أن هذه المعاملة وتلك المعاشرة لا تصدر إلا من سفلة الناس وأدنيائهم. وأما ذوو المقامات وأهل اليسار فلا نشاهد منهم شيئا من ذلك فإنهم ينفقون مالا لبدا على مطلقاتهم وأولادهم منها، وعلى نسوتهم العديدات في بيوت، فلا ضمير عليهم في الإكثار من الزواج إلى الحد الجائز والطلاق إذا أرادوا، بل هو الأجمل والأليق بهم اتباعا لما ورد صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تناسلوا فأني مباه بكم الأمم يوم القيامة) وأما يقع من سلفة الناس فلا يصح أن يجعل قاعدة للنهي عما كان عليه عمل النبي والسلف الصالح من الأمة خصوصا وآية (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع). لم تنسخ بالإجماع. فإذا يلزم العمل بمدلولها مادام الكتاب.

نقول في الجواب عن هذا: كيف يصح هذا المقال وقد رأينا الكثير من الأغنياء وذوي اليسار يطردون نساءهم مع أولادهن فتربي أولادهم عند أقوام غير عشيرتهم لا يعتنون بشأنهم ولا يلتفتون إليهم، وكثيرا ما رأينا الآباء يطردون أبنائهم وهم كبار مرضاة لنسائهم الجديدات، يسيئون إلى النساء بما لا يستطاع إنه ربما لا يحمل الرجل منهم على تزوج ثانية إلا إرادة الأضرار بالأولى وهذا شائع كثير. وعلى فرض تسليم أن ذوي اليسار قائمون بما يلزم من النفقات لا يمكننا إلا أن نقول كما هو الواقع أن إنفاقهم على النسوة وتوفية حقوق الزوجية من القسم في المبيت ليس على نسبة عادلة كما هو الواجب شرعا على الرجل لزوجاته. فهذه النفقة تستوي مع عدمها من حيث القيام بحقوة الزوجات الواجبة الرعاية كما أمرنا به (الشرع الشريف) فإذا لا تمايز بينهم وبين الفقراء في أن كلا قد ارتكب ما حرمته الشرائع ونهت عنه نهياً شديداً، خصوصاً وإن مضرات اجتماع الزوجات عند الأغنياء أكثر منها عن الفقراء كما هو الغالب فإن المرأة قد تبقى في بيت الغني سنة أو سنتين، بل ثلاثا، بل خمسا، بل عشراً لا يقريها الزوج خشية أن تغضب عليه (من يميل إليها ميلا شديداً) وهي مع ذلك لا تستطيع أن تطلب منه أن يطلقها لخوفها على نفسها من بأسه، فتضطر إلى فعل ما لا يليق. وبقية المفاسد التي ذكرناها من تربية الأبناء على عداوة أخوتهم، بل وأبيهم أيضاً موجودة عند الأغنياء أكثر منها عند الفقراء، ولا تصح المكابرة في إنكار هذا الأمر بعد مشاهدة آثاره في غالب الجهات والنواحي، وتطاير شرره في أكثر البقاع من بلادنا وغيرها من الأقطار المشرقية.

فهذه معاملة غالب الناس عندنا من أغنياء وفقراء في حالة التزوج لمتعددات كأنهم لم يفهموا حكمة الله في مشروعيته، بل اتخذوه طريقا لصرف الشهوة واستحصال اللذة لا غير، وغفلوا عن المقصد الحقيقي منه. وهذا لا تجيزه الشريعة ولا يقبله العقل. فاللازم عليهم حينئذ إما الاقتصار على واحدة إذا لم يقدروا على العدل كما هو مشاهد عملا بالواجب عليهم بنص قوله تعالى: [فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة] وأما آية: [فأنكحوا ما طاب لكم من النساء] فهي مقيدة بآية “فإن خفتم” وإما أن تبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل التي تؤدي بهن إلى الأعمال غير اللائقة. ولا يحملونهن على الإضرار بهم وبأولادهم، ولا يطلقونهن إلا لداع ومقتض شرعي شأن الرجال الذين يخافون الله ويوقرون شريعة العدل، ويحافظون على حرمات النساء وحقوقهن، ويعاشرونهن بالمعروف ويفارقونهن عند الحاجة. فهؤلاء الأفاضل الأتقياء لا لوم عليهم في الجمع بين النسوة إلى الحد المباح شرعاً. وهم وإن كانوا عددا قليلا في كل بلد وإقليم، ولكن أعمالهم واضحة الظهور تستوجب لهم الثناء العميم، والشكر الجزيل وتقربهم من الله العادل العزيز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى