يهمسون السحر في الآذان
محمد اللاذقاني
سأصير يوماً شاعراً
والماءُ رهنُ بصيرتي
لُغتي مجازٌ للمجاز
فلا أقولُ ولا أُشيرُ إلى مكان
فالمكان خطيئتي وذريعتي
أنا من هناك
هنايَ يقفزُ من خطاي إلى مخيّلتي
أنا من كنتُ أو سأكون
يصنعُني ويصرعُني الفضاءُ اللانهائيُ المديد
سأصير يوماً ما أريد
هكذا همس أحدهم في أذني.. هكذا في حديقة صغيرة من حدائق دمشق تواجدوا فجأة وبدون سابق انذار، كانوا عشرة، أو ينوف، ملئوا الأخضر بسواد لباسهم، ولوهلة تحسب الحياة تسير ببطء، جعلوا الحياة في تلك الحديقة الصغيرة بطيئة عمّا سواها من ازدحام وازدحام وازدحام خارج أسوارها الصغيرة.
قالت إحداهنّ لنجلاء:
ماذا يحدث
عندما يتطابق شعاعُ القلب مع صورتِه؟
ماذا يحدث
عندما يتمزّق الزمانْ
وأتبعثر على حواف الجسد؟
ماذا يحدث
عندما أرفع القمرَ عن سطحِ الماء؟
ماذا يحدث
عندما أعود إلى إطاري
فأتعثر بصورتي؟
ماذا يحدث
عندما يلتقي طرفا الزمن؟
ماذا يحدث
عندما
يتداخل بديلي بموتي؟
ضاعت منّي متعة مراقبتهم عن كثب، حين مشيت بين الناس، استمعت إلى تعليقاتهم _وقد أحاطوا بهم_ التي تراوحت بين مديح وإعجاب، إلى استهجانٍ وذمّ!
قيل عنهم، ملائكة يجوبون شوارع العالم، ينشرون فيها السكينة والسلام، بحلتهم السوداء الموحدّة، وبمشيتهم المتقنة الهدوء، حتى تشعر بأنهم يمشون بالكاد.. يقتربون منك، ولا تشعر بهم من حولك، يضعون مقدّمة “أنابيبهم” البلاستيكية الطويلة قرب أذنك، ومن بعيد.. يبدءون بنشر ما تيسّر لهم من مقاطع نثرية، تدرك من لهجة روايتها، بأنهم وضعوا الكثير من الوقت في التدرب عليها، حتى تلقى عليك أنت، بلغتك التي تفهم.. فتنتهي بك مصادفتهم في إحدى زوايا مدينة ما، أقول تنتهي بك إلى إجازةٍ من روتينك وضغط حياتك، لمدةٍ أقصاها دقيقة واحدة، تحتاج بعدها إلى ساعتين، حتى تستعيد “ريتم” الحياة المزدحمة وإيقاعها السريع.
مما قيل أيضا، بأنّهم جماعة من “المثقفين”، يضربون البلدان بهدف نشر ثقافتهم، والثقافة بشكل عام، ويبحر البعض أبعد من هذا، بأنّ اختيار المواضيع المهموسة كان مدروساً للغاية بما يخدم أهدافهم (والحقيقة بأنّ اختيار المواضيع المهموسة كان مدروساً للغاية بما يخدم أهدافهم!)، يقولون بأنّهم يذكّرونَ من يصادفون بضرورة العودة إلى الأدب، وبأهميّته في توازن الحياة، ويأخذ آخرون بالتفلسف، فيقرؤون الرّسالة على أنّها دعوة للقليل من الهدوء، والخروج عن المألوف بالتأمّل في صفاء الحياة، بعيداً عن وقعها الأخاذ للعمل وللمزيد من العمل..
فأنت مثلاً، عزيزي القارئ، في درب عودتك من العمل، من دفع فاتورة الكهرباء، للتّو.. انتهيت من الاستماع إلى نشرة الأخبار المحلية.. يقابلك/تقابلك أحد أعضاء “الكوماندوس” في إحدى زوايا الطريق التي سلكتها بحكم الروتين كل يوم، لا تستطيع إلا أن تتقبل مفاجئته/ها، ممسكاً بمظّلته التي يقدّمها لك (كأنّما يقول لك، هاك المظّلة، احملها من أجلي، حتى لا يكون همسي لك مجّانياً.. اصنع شيئاً من أجلي في المقابل!!)، فتؤخذ، ويقترب “الأنبوب” من أذنك حتّى يكاد يلامسها، ثم تأخذ التراتيل بالانسياب نحوك، وتصاب بشيء من الذهول، مفاجأة!
مما ذكِرَ أيضاً، بأنّهم كفرة! يحاولون إخراج الإنسان المتّزن عن دينه وعن ثقافته، وبأنّهم يهمسون السحر في الآذان.. سمعتُ أحدهم يقول، بأنّهم يبثّون رسائل على شكل شيفرات لغويّة، تصل مباشرة إلى زوايا متخصصة في الدماغ البشري، فتبعثر معلومات الخلايا الدماغية المسكينة!! (مثلما تفعل ماركات الألبسة والمطاعم الشهيرة، بشعاراتها وبألوان جدرانها كرسائل موجّهة للدّماغ مباشرةً)، وإنّ البعض راح أبعد فعزا فكرة استخدام الهمس إلى أصل ديني، حيث أن بعض الشعائر الإسلامية، تقوم على مداعبة الأذن، مثلما تقرأ الشهادة في أذن المولود الصغير، أو في أذن المقبل على موت.. ثم هنالك الأذان كرسالة أذنيّة يومية، و الأكثر من هذا، الهمس الذي يحدثه رجل الدين فوق قبر المدفون توّاً!!؟
البعض، وجّه لهم عبارات السخرية، والذّم أحيانا.
(ماذا تفعلون هنا؟)
(لا تسمح لهم، لا تنصت إليهم!)
(ارحلوا عنّا، هذا ما كان ينقصنا!)
(لم أفهم شيئاً، المجانين!)
(من أين يموّلون رحلاتهم هذي؟)
وعلى كل حال، أليست هذه السخرية والاستهزاء جزأً مقبولاً، بحكم كونه متوقّعاً؟! بلا، بل لعلّه أن يكون جزء مهماً، أو لنقل جزءاً من العمل على أقلّ تقدير!
أذكرُ أيضاً، حالتين طريفتين، الأولى، عندما حملَ أحد المارّة، وهو رجلٌ في الستينات من العمر، المهمة على عاتقه، فأخذ الأنبوب المجوّف من أحد الهامسين، وراح هو يهمسُ ويهمسُ في أذنهِ، حتى ترى ابتسامةَ رضاً تجلّت فوق وجهي الرجلين، بل حتى فوق وجوه كل من حضر الحادثة، فتعرفُ بأن صديقنا العجوز، لعب الدور بمهارة، وانتقل من متلقّ إلى مرسلٍ بنجاح يُلحظ..
والثانية، حين تجمع أعضاء الفريق في مركز الحديقة، وراحوا يتبادلون الهمسات فيما بينهم، وكأنما بعملهم هذا، ينقلون هذه المرة رسالةً بصرية لا سمعية، كلها راحة وطمأنينة، أثارت إعجاب كل ّ من حولهم، ولا أبالغ إذ أقول، بأنّي لما أرَ الحديقة خضراء حيّة مثلما رأيتُها تلك الساعة.
إجمالاً، وباحتراف، استطاع فريق الـ (Les Souffleurs) أن يدخل السكينة في الزاوية التي اختارها، واستمرت حالة السكون في الحديقة الصغيرة أياماً، وراحت الأقاويل والتفاسير والتحاليل تتناقل بين الشوارع والأحياء والبيوت والمقاهي، وسواء أن هذه المجموعة حققت ما كانت تصبوا إليه من صنيعها ذاك أو لا، فإنها وبحق كسرت روتين الحياة في تلك الزاوية.. حتّى أنّ أبو عمّار، أبو عمار المجنون كما يدعى هناك، لازال حتّى اليوم يروي قصّة اقتحامهم لحديقته، ولعلك، عزيزي، ألا تمّيز بين رضاه أو سخطه، لكنّه، لم يروي رواية قطّ بهذي الحماسة!
تييري لاروايين، أكسَل بيترسون، كريم عبد العزيز، نيقولا بيلدر، أوليفيه كونت، إستيل بورداسار، جان مارك هيروَن، هيلين لانسكوت، جوديث سيرناغورا.. بعد دمشق، سمعتُ بأن محطّهم سيكون طوكيو؟!
لمحمود درويش، لأدونيس، لمحمد الماغوط ولعائشة أرناؤوط همسوا..
في حديقة السبكي بدمشق، للطّفل همسوا، لعجوزٍ حملت طعامها معها، لموظف البلدية، لأبو عمار ، وهمسوا في أذني، وفي أذن نجلاء..
اليوم، بعد قرابة شهرٍ عن رحيلهم، همست لي الشام، وهي مهجورةٌ عن كل عملٍ من قبيل عمل الكوماندوس، بأن اشكرهم نيابةً عنّي، قالت لي _لا بأنبوبها البلاستيكي المجوّف، بل بأزقّتها العتيقة الحلوة_ سيرجعون مرّة؟
ربّما! قلتُ لبائعِ البنّ في القيمرية، والذي أبدى نظرة استهجان من ينظر إلى شخص يكلّم نفسه، قبل أن أستأنف: ربّما نكثرُ من الهال؟
محمد اللاذقاني
(5 سبتمبر 2008)