صفحات مختارة

حياة المرأة السورية- وداد سكاكيني

null

حين وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، جلا الترك عن بلاد الشام، فهب السوريون يفركون أعينهم مشدوهين ويتنفسون الصعداء مستروحين، وكأنهم نهضوا من سبات، أو ردوا إلى الحياة بغتة أو بعد غيبوبة، فقد إنجاب عن بلادهم ظل العثمانيين، وكان طويلا ثقيلا، عانوا في خلاله الحرمان والهوان. وظلوا سادرين في أمانيهم، مكفوفين عن مطامحهم وحاجاتهم لا يجدون متنفسا للحرية والخلاص.

وكانت المرأة السورية تشارك الرجل في همومه، وتتمرس من وراء حجابها بالخطوب والآفات، وكان صوت واحدة أو اثنتين من الأنوفات الغضاب، يضيع في غمرات الحرب، وأنات التظلم والإجحاف وقد حجبت صلصلة الوعيد والتهديد جهود النساء، فلم تظهر في غير النجدة والإسعاف، غير أن الوعي الوطني أخذ يدب في عالم المرأة ويتسرب إلى شعورها، ويكشف عنها حجاب الخمول والإهمال.

فلما دالت الأيام، وتفتحت الأعين في سورية على عالم جديد في حياته وثقافته، ترددت الصيحات لرفع مستوى المرأة وتعليم الفتاة، وكانت الثقافة النسوية يومذاك زهيدة محدودة، والمتعلمات معدودات، يرميهن المتزمتون بالنظر الشرر، ويستصرخون الدين لخروج النساء على ما ألفوا من تقاليد وعادات. ومن كان راضيا عن وعي المرأة ويقظتها، والتماسها أسباب الثقافة والإصلاح، فإنه لم يتحيز إلى دعوتها، أو يتنكر للمتشددين المتطيرين، وإنما وقف من بعيد يرتقب ويتطلع، ويرصد الحركة الجديدة، فبقيت المرأة السورية تناشد وتجاهد، وتدعو إلى التحرر والتبصر، وتفهم التبعات وإعداد العدة للمستقبل المنشود، على أن اليقظة الاجتماعية في أرجاء البلاد السورية، كانت تردد الدعوة لرفع شأن المرأة وتعليمها فاستجاب الناس لتلك الدعوة على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، ورفدتها الحكومة، فأسست للبنات مدارس ثانوية ودوراً للمعلمات، كانت فيها الفتاة السورية أسبق من أختها اللبنانية إلى إحراز الباكلوريا الرسمية والثقافة الوطنية، كما أوفدت وزارة المعارف السورية -في بعثات علمية. بضع فتيات إلى الغرب ثم إلى مصر للدراسة الجامعية والعالية، وكانت أسبق المبعوثات هي الرياضية المرموقة السيدة بشرى قدسي مديرة دار المعلمات بدمشق وكانت الجامعة السورية تقوم في تلك الردحة بتدريس الطب والحقوق والصيدلة، فأقبلت عليها الفتيات السوريات أسوة بالفتيان، ولقين من الأساتذة عطفاً وتشجيعاً، وكان القوم بين عجب وإعجاب حين خرجت جامعة دمشق الطبيبة الأولى لوريس ماهر، ثم طبيبتين من أسرة عريقة هما السيدة منيرة العظم خياط والآنسة برلانتة العظم، كما خرجت من الحقوقيات عددا كبيرا، كان يزداد عاما بعد عام، على أن أول فتاة سورية حملت شهادة الحقوق في فاتحة هذه النهضة هي السيدة الموهوبة بوران طرزي التي مارست المحاماة ودلت على نبوغها واقتدارها في عملها وفي ثقافتها الرفيعة.

وكانت تقاسمها هذا السبق السيدة المفكرة فاطمة مراد كريمة العلامة الشيخ سعيد مراد أستاذ المجلة العدلية إبان تأسيس الجامعة السورية.

وفي طليعة الخريجات بالحقوق منذ عهد قريب فتاة نابغة رصينة، كانت أمنيتها المحببة العكوف على العلم الطبيعي وتجاريب المختبر، وكان بها ظمأ إلى كل معرفة، فقد جمعت بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية والقانونية تلك هي الآنسة جهان الموصلي، ومن زميلاتها المثقفات الحصيفات الآنسة بديعة أورفلي، وكلتا الآنستين تمرست بالتعليم والإدارة والتوجيه السديد في الحركة النسوية الراهية.

ولما أظل البلاد السورية عهد جديد تنسم فيه أهلوها الحرية والاستقلال اتسع نطاق التعليم بجميع ألوانه وفنونه، واتسعت بقعة الجامعة السورية، فتنوعت فيها الدراسة العليا والجامعية، إذ أسست فيها كليتان جديدتان إحداهما للآداب والثانية للعلوم، وإلى جانبهما معهد غال للمعلمين والمعلمات، وقد وجدت الفتاة السورية بغيتها في هذا المعهد وتينك الكليتين، كما ازداد إقبال الفتيات على كليتي الطب والحقوق، حتى جاوز في كل منهما المائة، على أن هذا الإقبال على درس الحقوق، لم يكن من أجل ممارسة المحاماة لدى أكثر الفتيات، بل كان وسيلة لغاية مادية تتعلق بالوظيفة، وقد صرح بهذا الرأي وزير المعارف الأسبق، أديب سورية ونابغة الشباب الدكتور منير العجلاني.

أما نهضة الأدب النسائي في سورية فكانت سباقة لنهضة التعليم، وكانت مقصورة على أفراد قلائل، وطالما كان أمثال هؤلاء في كل أمة يمتازون باستعداد خاص ومواهب ذاتية، قبل أن يكون في الأمة تقدير فردي أو جماعي، وفي سورية كما في غيرها من بلاد العرب سيدات وفتيات هن مثقفات ومتأدبات ولكن، بغير لغتهن ولقد ألمت بعض السوريات بآداب غربية إلى جانب ثقافتهن الغربية فتتبعن الحركة الفكرية في العالم وأقمن في ميزان الاعتدال، مستمسكات بالطابع الأصيل والعروبة المثلى كالآنسة وجيهة جزار وشقيقتها السيدة ماجدة جزار فصيح والسيدة إنعام عظم داغستاني والطبيبة منيرة عظم.

وفي الوعي الفني استجابت المرأة لفطرتها وطبيعتها، فشدت طرفاً من الفنون التي أتيحت لها، فمارستها في بيتها، غير إنها لم تظهر فيها عبقرية أو مبدعة كما ظهرت المرأة المصرية واللبنانية، ولو أننا في سورية نعني بالثقافة الموسيقية والتصويرية، لكان للموهوبات السوريات شأن أي شأن في هذا المضمار.

وقد لمعت في فاتحة النهضة النسوية كرائم الواعيات الراقيات من الأسر الرفيعة، وكانت زعيمة الحركة الأولى السيدة العظيمة نازك عابد، فقد سعت إلى الوعي النسوي الجديد وأنشأت مجلتها (نور الفيحاء) في عهد (العروس) وأسست مع صواحبها مدرسة لبنات الشهداء، شهداء العدوان التركي، وقامت في ذلك الحين بجهود باقية وطموح مرموق.

وقد يكون (النادي الأدبي النسائي) في دمشق أسبق جمعياتنا إلى الوجود فتكون الحركة الأدبية النسائية في بلاد الشام مدينة إلى نشاطه الأول وإلى جهود هيئته ورئيسة الجمعية الآنسة الفضلى سارة مشاقة.

ومنذ عشر سنوات أو تزيد أنشأت المربية الكبيرة السيدة نديمة المنقاري مجلتها (المرأة) في حماة، بلد العاصي والنواعير، ثم احتجبت مدة وعادت إلى الصدور في دمشق، فظهرت بحلة طريفة، لتكون صورة للنهضة النسوية الحديثة، غير إنها فوجئت بالتوقف، وليس هذا بمستغرب، لأن المجلات الفنية والصحف الأدبية لا تعيش طويلا في بلاد الشام.

وتهتاجني الذكرى الحموية، فأنوه بأثر الفكرة المتحررة السيدة مسرة كيلاني شهاب، إذ كانت من الرائدات السابقات اللاتي أسهمن في النهضة التعليمية والاجتماعية بسورية.

وما تذكر حماة حتى يلمع بالخاطر شعاع حمص الذي أطل على سورية وأنجب نسوة طلعن بالنور والخير والمعرفة وهن في حجاب الأمس وظلال البيوت، منهن النبيلة المثقفة (عدوية الأتاسي) وسواها من ربات الفضل المعاصرات للاتي ما يزال نشاطهن محصورا في آفاق حمص الجميلة.

كل هذا من نهضة المرأة كان يمضي على رسله، والشعب السوري في غلاب ونضال مع الأجنبي الغاصب، يصطرعان ويتنازعان، وكان عبء المناوأة والطغيان قد أرسى على كواهل الرجال، وضاقت به النساء، فهببن غاضبات متأبيات، يشددن عزم الأبطال، وقد فعلن أفاعيلهم في الثورة السورية، فكن أشبه بنساء الحرب الطروادية.

وظهرت الجمعيات النسائية في السوانح الوطنية والقومية، وكانت تضم نخبة طيبة من كرائم النسوة وفضليات الفتيات. غير أن هذه الجمعيات كانت متقاربة الخطط والغايات، وأعضاؤها من أنفسهن في جمعية أو أكثر، وقد دعين لسماع محاضرات علمية وأدبية، غير أن المحاضرين كانوا رجالا، فارتأى المجمع العلمي العربي بدمشق أن يدعو بعض المدرسات والمثقفات لإلقاء المحاضرات على النساء.

وقد استطاعت بعض هذه الجمعيات أن تمثل المرأة السورية في المؤتمرات النسائية التي عقدت بمصر ودمشق ولبنان، بيد أن هذا التمثيل لم يدرك رضا الناس، لأنه لم يمثل المرأة السورية على حقيقتها ولم يوحد كلمتها. بل كان مرتجلا أو مفروضا ولو لم يكن في هذه المؤتمرات من خير وفائدة سوى التعارف والتقابل بين الشرقيات والغربيات وتداول الرأي بين العربيات على اختلاف الديار والأمصار لكفاها فخراً.

وغير خاف على الملأ الواعي أن العاملات في الجمعيات النسوية يختلفن في الظاهر والباطن، ففيهن المخلصات في جهودهن لوجه الله والوطن، ومنهن المستغلات لكل بادرة وسانحة، والمصطنعات لكل عهد واتجاه، على أن أكثر هذه الجمعيات جهداً ومنتوجاً هي جمعية (نقطة الحليب) التي تنهض بناحية من نواحي البر والإسعاف لا ينهض بها سواها، فترعى الأطفال الفقراء لا سيما الرضّع منهم، فتمنحهم المقادير الكافية من اللبن والغذاء ويتعهدهم الأطباء في دار الجمعية بالمعانية والعلاج ورئيسة هذه الجمعية هي الزعيمة الجليلة السيدة زهراء العابد، وفي طليعة القائمات بهذه المهمة الإنسانية الآنسة الممتازة فاطمة ذياب.

* * *

وقد أسست جمعية (خريجات دور المعلمات) داراً لكفالة بنات الشهداء، شهداء العدوان الفرنسي الأخير، ترعاهن فئة مثقفة من المدرسات البارّات، لا يتركن سانحة من السوانح في بذل المجهود للعناية بهؤلاء اليتامى، وتوفير المواساة والترفيه لهن، وتقوم هذه الجمعية النسوية من حين لآخر، بمحاضرات علمية وأدبية تدعو إليها طائفة من المثقفين والمثقفات، ورئيسة الجمعية هي المربية الكبيرة المتحررة السيدة منيرة علي المحايري، من رائدات الفكر النسوي بسورية.

ولجمعية الهلال الأحمر فروع نسوية في أنحاء البلاد تقوم بجهد كبير في مكافحة كل وباء وبلاء، وقد ظهر نشاط السيدات فيها إذ كن مثالا للتضحية وتحقيق النظام والإخلاص.

وفي دمشق، تنادت منذ سنوات بعض المثقفات والمعلمات من ذوات الفكر والتقدمية، إلى تأسيس ندوة للمرأة، وضعن لها أهدافاً جديدة، لم تستهدفها بقية الجمعيات النسوية فكانت الندوة بخطاها واتجاهها مشبهة عندي (نادي سيدات القاهرة) بمصر، ولا تزال هذه الجمعيات الثقافية ساعية إلى إنشاء مكتبتها وإقامة محاضراتها واستقبال الزائرات العاليات اللاتي يفدن من الشرق أو الغرب إلى دمشق، فضلا عما تقوم به الندوة من بر بالموهوبات الفقيرات من الطالبات إذ نُعِدّ لهن في كل عام ما تيسر من الكساء وأدوات الدرس والتحصيل.

وهيئة الندوة تضم نخبة ممتازة من زهرات المجتمع السوري فيهن لسيدات إلفة عمر باشا إدلبي، وفلك دياب دسوقي، وبلقيس وريمة كرد علي ونعمة دياب، وغيرهن من الفضليات ورئيسة الندوة الآنسة جهان موصلي.

ولا تقتصر هذه النهضة على دمشق فحسب، ففي كل بلد سوري يشع الفكر النسوي الجديد، وتتنافس السيدات والفتيات في خدمة الثقافة والإنسانية، ففي حلب الشهباء تمضي بصمت وتواضع جمعية المشاريع الخيرية النسائية إلى غايتها النبيلة في خدمة المجتمع وإسعاف المرضى والمساكين والوالدات، ومن ألمع العاملات في هذه الجمعية وفي كل حركة فكرية ووطنية السيدة أنيسة حميد باشا من ذوات المروءة والأدب في حلب.

والمرأة السورية في طويل جهادها ومختلف عهودها لم تعرف من الرجال نصيرا وقف قلمه على رعايتها والذود عن حقها ونهضتها، كما اتفق للمرأة المصرية والعراقية واللبنانية، ففي بلاد العرب اليوم وبالأمس القريب والبعيد، رجال دعوا بأقلامهم وألسنتهم إلى تحرير المرأة وتقدير رسالتها وتأييد قضيتها، على أن الإنصاف يقتضي أن أنوه بفضل الكاتب المجدد الأستاذ سامي الكيالي بحلب الذي ملأ صفحات من مجلته (الحديث) بآثار المرأة، وقد لقيت منه الأديبات الشرقيات تشجيعاً وتعزيزاً، فهو حفي بمواهب المرأة العربية عامة والسورية خاصة، متتبع لجهودها ومساعيها، ويرحي من الجيل الصاعد أن يكون خير نصير للسوريات، في هذا العهد التقدمي الطامح.

كذلك كان تقدم المرأة السورية في وعيها ورقيها، ولقد ساير هذا التقدم الأيام التي مرت بها، ولبى حاجة الجيل، وصار في عداد الجمعيات النسائية عدد موفور من المثقفات والمعلمات، بعد أن كانت مقصورة على ربات الوجاهة والثراء، غير أن نشاطهن بقي محدوداً أو محصوراً في نطاق ضيق، وإن كن يشعرن شعورا عميقا بضرورة التجدد والتزود لتحقيق غاية فكرية أو اجتماعية، والتشوف إلى آفاق جديدة تطمح إليها المرأة في نهضتها. ولعل السبب في هذا التقصير أن أثرة الرجل ما تزال تأبى على المرأة أن تخرج من عزلتها، فإذا قيض لها أن تخرج مسهمة في بعض مرافق الحياة راح الرجل المتعصب أو المتزمت يصف منازعها الجديدة متهماً أو متهكماً. ولو أنه شجعها مخلصاً، وبصّرها بالخير ناصحاً، لرأي من سعيها الصامت الصادق، ما يحمله على إقرار حقها، والاعتراف باقتدارها على الخدمة العامة.

وإنها لبادرة حميدة من وزارة الاقتصاد الوطني في سورية أن تعين ثلاث فتيات من الحائزات لشهادة الحقوق في مراقبة العاملات بالمعامل والمصانع ونظام العمل الجديد، وهذه الوظائف كانت وقفا على الرجال، وليس للفتاة السورية إلا أن تثبت الكفاية والحصافة فيما يعهد به إليها، لتبرهن للرجل على إنها تستطيع القيام بالأعمال التي تدخل في خصائصها وطاقتها ولا تخرج على طبيعتها ورسالتها.

لقد شمل التقدم حياة المرأة السورية، في بيتها ومجالسها، في زيها وحديثها، ولم تبق قعيدة دارها لا تخرج منها إلا إلى قبرها، فقد صارت تغترب في سبيل الثقافة والمعرفة، وتتمازج بغيرها من نساء الشرق والغرب، فأفادت من الاغتراب والتمازج، إفادة مشوبة بالبهرج والتكلف، ولو شاءت لآثرت التقليد والتجديد فيما يبقي عليها طابعها الأصيل وشعار بلادها، على أن المحنة التي ألمت بفلسطين ألهبت شعور المرأة السورية متعلمة وأمية، فكانت غضبتها للحق تعدل غضبة الرجل، وسعيها إلى التطوع والتبرع لا يقل عما بذل الرجل من المجهود في هذه المنة، ولعل ذلك يعود إلى عروبتها وحماستها ونهضتها الحميدة، فتمضي قدماً إلى أهدافها غير مترددة ولا منحرفة، حتى تدرك المثل العليا في دهر العرب الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى