صفحات مختارة

النص الكامل لكتاب فلينزع الحجاب – شاهدورت جافان

null



تَحَجَّبْتُ طَوال عشر سنوات. كان الأمر الحجاب أو الموت. لهذا فأنا أعرف عَمَّا أتحدث. بعد الكارثة التاريخية التي شهدها العام 1979، احتَلَّ الإسلام وفروعه مكاناً بارزاً في أنظومة إيران التربوية، التي أصبحت إسلامية جذرياً، منذ المدرسة الابتدائية حتى الجامعة أياً كان نوع الدراسة،
بمواضيعها الإلزامية التي لا تنضب: سور القرآن وتفاسيرها، والأحاديث، والشريعة، والمذاهب الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والمجتمع الإسلامي، والنظرة الإسلامية إلى العالم. وكان الشعار الذي يقرع الأسماع على مدار السنة: «ما الفائدة من العلم إن لم يكن في خدمة الإسلام»؟
كنت تلميذة مجتهدة. مَرَّ عليّ زمن كان باستطاعتي أن أصبح إماماً أو آية الله، لو وجد مكان للنساء في هذه الأمور.
قُمِعتُ منذ الثالثة عشرة إلى الثالثة والعشرين من عمري، محكومة بكوني مسلمة، خاضعة ومسجونة تحت سواد الحجاب. من الثالثة عشرة إلى الثالثة والعشرين. ولن أسمح لأيٍ كان أن يقول إنها كانت أجمل سنوات حياتي.
ليس بوسع من يعيشون في البلدان الديمقراطية أن يعرفوا كيف تغدو الحقوق، الطبيعية جداً في نظرهم، أمراً لا يمكن تصوره في الأنظمة الدينية الإسلامية. كنت أستحق، كما كل كائن بشري، أن أولد في بلد ديمقراطي، فلم أحظ بهذا النصيب، لذلك وُلدتُ ثائرة ناقمة.
ولكن ما هو هذا الحجاب، وماذا تعني سُكنَى جسدٍ مُحَجَّبٍ؟ وأن أكون محكومة بالحبس في جسد مُحَجَّب لأنه مؤنث؟ من له الحق بالكلام في هذا الشأن؟
كنت في الثالثة عشرة عندما فُرض القانون الإسلامي على إيران تحت سيطرة الخميني العائد من فرنسا مع بركات كثيرين من المفكرين الفرنسيين، الذين قَرَّروا، مَرَّةً إضافية، كيف ينبغي أن تكون حرية غيرهم ومستقبلهم. وأفاضوا، أيضاً وأيضاً، بإلقاء المواعظ الأخلاقية وبإعطاء الدروس السياسية. وفشلوا مرة أخرى في رؤية ما هو قادم، ولم يفهموا شيئاً. كما أنهم نسوا، مرة أخرى، كل شيء، وتهيأوا ـ تعضدهم أخطاؤهم السالفة ـ لكي يرصدوا المحنَ التي تنزل بالآخرين دون أن يخشوا عقاباً ولا عاقبة، ولكي يتألموا بالوكالة، مع احتمال القيام ببعض المراجعات المؤلمة، في اللحظة المناسبة: مراجعات لا تمس راحة ضمائرهم ولا كبرياءهم وغطرستهم. يتكلم بعض المفكرين الفرنسيين نيابة عن الآخرين بكل طيبة خاطر. وها هم اليوم يتكلمون مكان اللواتي لا نستمع إليهن ـ هذا المكان الذي ينبغي لأي كائن سواهن أن يكون له القدر الكافي من اللياقة كيلا يحاول احتلاله. إن هؤلاء المثقفين يواصلون على الطريق نفسه ويُوقّعون ويُقدّمون العرائض. يتكلمون عن المدرسة، حيث لم يضعوا أقدامهم منذ مدة طويلة، وعن الضواحي التي ما سكنوها قط، وعن الحجاب الذي لم يقيموا تحته أبداً. ويضعون الخطط ويدبّرون وينظّمون، ناسين أن من يتكلمون عنهن موجودات، يعشنَ في فرنسا، بلد القانون، وأنهن لسن موضوع مبحث أو معالجة مسهبة، ولا نتاج حصيلة جمعية توضع في متن مؤلف من ثلاثة أقسام. فهل سيمتنعون نهائياً عن تبليط جحيم الآخرين بحسن نواياهم، جاهزين لفعل أي شيء ليشاهدوا اسمهم في ذيل مقال في صحيفة؟
أيستطيع هؤلاء المفكرون إعطائي جواباً؟
لماذا تُحَجَّبُ البنات، والبنات فقط، المراهقات ذوات الستة عشر عاماً، والأربعة عشر، والصغيرات ذوات الإثني عشر عاماً، والعشرة والتسعة والسبعة أعوام؟
لماذا نُغَطّي جَسَدَهُنّ وشَعرَهن؟ ماذا يعني فعلاً حجاب البنات؟ وما الذي يحاولون ترسيخه فيهن وطبعه ببطء في أذهانهن؟ ذلك أنهن في البدء لم يَخْتَرن الحجاب. بل حُجِّبْن. وكيف يَعِشْنَ، ويَسْكُنَّ جسدَ مراهقة محجبة؟ وعلى كل حال، لماذا لا يُحَجَّب الصبيان المسلمون؟ ألا يمكن أن تثير أجسامهم وشعورهم رغبة البنات؟ إلا أن البنات لم يُصنََعْنَ ليملكن الرغبة الجنسية، إنهن في الإسلام أداة لشهوة الرجال فحسب.
ألا نُخفي ما نَخجلُ منه؟ عيوبَنا، ونقائصَنا، وتقصيراتِنا، وضعفنا، وحرماناتنا، وشذوذنا، وتشوهاتنا، وعَجْزنا، ودناءاتنا، وخَوَرنا، وأخطاءنا، ودونيّتنا، وخمولنا، وهشاشتنا، وأخطاءنا، وخِداعَنا، وجرائرنا، وآثامنا، وسرقاتنا، واغتصاباتنا، وخطايانا، وجرائمنا؟
منذ ولادة البنت عند المسلمين، تعتبر عاراً ينبغي ستره، لأنها ليست ولداً ذكراً، وهي تُمثّل في ذاتها النَقْصَ والعَجْز والدونية… وتُعتَبر أداة كامنة للجنوح. وإلى خطيئتِها تعود كل محاولة لممارسة الفعل الجنسي يقوم بها الرجل قبل الزواج. وهي أداة الاغتصاب المُحتَملة وأداة الخطيئة وزنا المحارم، بل والسرقة، لأن الرجال يستطيعون سرقة حيائها بنظرة مجردة. وباختصار، هي الإثم مُشَخّصاً، لأنها تخلق الرغبة الجنسية، وهذه الرغبة نفسها آثمة عند الرجل. تشكل البنت تهديداً دائماً للمبادئ والأخلاق الإسلامية. إنها أداة الجريمة المُحْتَملَة، مذبوحة بيد الأب أو الإخوة من أجل غَسْل الشرف المُلَطَّخ. ذلك أن شرف الرجال المسلمين يغسل بدم البنات.
إن الذي لم يسمع صراخ اليأس تطلقه نساء في غرف التوليد بعد أن وضعن بنتاً ولم يَضَعن الصبي المرغوب؛ ومن لم يسمع بعض النساء يتضرعن ويطلبن الموت للبنت التي وضعنها أو يطلبنه لأنفسهن؛ ومن لم يشاهد استغاثة أم وضعت لتوها مثيلتَها، هذه التي ستلقي في وجهها آلامها وعذاباتها الذاتية؛ ومن لم يسمع أمهات يَقُلْن: «أرموها في صندوق القمامة، اخنقوها إذا كانت بنتاً» من خوفهن من الضرب أو التطليق، لا يستطيع أن يفهم ذل أن تكون امرأة في البلاد الإسلامية. أود هنا أن أحييّ فيلم جعفر باناهي ـ الدائرة ـ الذي يقدم إلينا لعنة ولادة بنت في بلاد الإسلام.
لنصغِ إلى آلة فصاحة بعض المثقفين الفرنسيين وهي تعمل. إنها مروضة ومُزيّتة جيداً وهذا ما يَسُرُّ. مُحَرّكها ذو ثلاثة أزمنة. الأول: نحن لسنا من أنصار الحجاب (من دواعي الارتياح معرفة ذلك). الثاني: نحن ضد الاستبعاد من المدرسة (يعني: ضميرنا مرتاح بشكل مضاعف). الثالث: لنترك للزمن وللتربية أن يفعلا فعلهما (لنفهم جيداً: دعوا الآخرين يتصرفون، مرةً أخرى). البنات المحجبات يعشنَ محجبات، والمعلمون يتدبرون أمورهم. لقد تكلم «بيلاطيسيو» الفكر. وبوسعهم العودة إلى شؤونهم الصغيرة، ليتفلسفوا وليعالجوا الأمور بإسهاب بانتظار العريضة القادمة. التاريخ يمر، «وكلاب الحراسة تنبح».
الحجاب. لا أعني الحجاب في المدرسة، ولكن الحجاب بذاته. هل ينبغي للمرء أن يكون أعمى، وأن يرفض النظر إلى الواقع وجهاً لوجه، لكي لا يرى أن مسألة الحجاب هي مسألة بذاتها، سابقة لكل جدلٍ حول المدرسة أو العلمانية! ليس الحجاب علامة دينية بسيطة أبداً، كالصليب الذي بوسع الفتيات والشباب حمله في أعناقهم.
الحجاب ليس مجرد منديل على الرأس، بل يجب أن يخفي الجسم كلياً. وهو يلغي قبل كل شيء اختلاط المكان ويجسد مادياً الفصل الجذري الجائر والتعسفي للفضاء المؤنث عن الفضاء المذكر، أو بتعبير أكثر دقة، إنه يُحدد ويحدّ الفضاء المؤنث. الحجاب هو المبدأ الإسلامي الأكثر همجية المدون على الجسد الأنثوي والمستولي عليه.
يكشف فصلُ الرجال عن النساء في المساجد، حيث يسود قانون الملالي، ماهية ارتداء الحجاب: يجب على المرأة البقاء في ملجأ يحميها من أنظار الرجال. ومن أجل تفعيل القواعد الإسلامية تفعيلاً تاماً في إيران حاولوا تطبيق قانون المساجد على سائر أنحاء البلاد، ونقل فضاء المساجد إلى الفضاء العام: مداخل منفصلة للرجال وللنساء، قاعات طعام ومكتبات وقاعات عمل منفصلة… ومسابح منفصلة. ولما كان البحر لا يستسلم بسهولة لمثل هذا النوع من التقاسم، مُنعت النساء من السباحة في البحر. وفي الجامعة، مُنعت الفتيات من الانتساب إلى الفروع التي تتطلب تنقلات جماعية، مثل علم النبات وعلم الآثار والجيولوجيا.
نحن في فرنسا، بلد القانون، حيث تمنح بعض العائلات لنفسها سلطة إجبار بناتها القاصرات على ارتداء الحجاب. ماذا يعني هذا الأمر: إلباس البنات الحجاب؟ هذا يعني جعلهن أدوات جنسية: أدوات أولاً لأن الحجاب مفروض عليهن ويشكل وجوده المادي من الآن جزءاً من كيانهن منذ الآن، ومن مظهرهن ومن وجودهن الاجتماعي. وجنسية ثانياً: لا لأن الشعر المُخَبَّأ هو رمز جنسي فحسب، ولا لأن هذا الرمز يحمل معنيين (ما نُخفيه نَعرضُه، والممنوع هو الوجه الآخر للرغبة)، ولكن لأن ارتداء الحجاب يضع الطفلة أو المراهقة الشابة في سوق الجنس والزواج، ويُحَدَّدها ويُعَرِّفُها جوهرياً بنظرة الرجال ومن أجل نظرتهم هذه، بالجنس والزواج ومن أجلهما.
غير أن أداة الشهوة الذكورية هذه تُعبّر عن ممنوع آخر وعن ازدواجية أخرى.
البنت ليست شيئاً، الصبي هو كل شيء. ليس للبنت أي حق، وللصبي الحقوق كلها. يجب على البنت البقاء في الداخل، في مكانها، ولا تستطيع التجول في الهواء الطلق. وليس بوسع أي كان أن يجهل كون الرجال، والرجال وحدهم، يتجمعون في الساحات العامة في البلدان الإسلامية. ألا نراهم، هنا في فرنسا، يشغلون مقدمة المشهد؟
لماذا يريد الرجال المسلمون إلى يومنا هذا حجب النساء؟ لماذا يعنيهم هم حجاب النساء؟ لماذا ولأي سبب يتعلقون إلى هذه الدرجة بالحجاب النسائي؟ وإذا كانوا يعبدون الحجاب إلى هذا الحد، فلماذا لا يرتدونه هم أنفسهم؟. والحق أنه لو تحقق حدث من هذا القبيل لصار هناك معنى للمناداة «بهوية جديدة» عن طريق الحجاب. تصوروا الرجال المسلمين محجبين! سيكون هذا فعلاً اختراع القرن الحادي والعشرين! لأن حجب النساء أمر مبتذل منذ العهد القديم.
لكن الحجاب الإسلامي لا معنى له إلا لأنه يُخفي ويستر أو يحمي. ماذا يخبئ الحجاب؟ وما الذي يُغطّيه؟ وماذا يحمي؟
تستند عمارة الهوية المؤنثة والمذكّرة في الإسلام إلى مفهوم الستر والحياء عند المرأة، وإلى مفهوم الناموس والغيرة عند الرجل. تنقل هاتان الكلمتان المشحونتان بالمعنى أوزاناً تراثية ثقيلة، وصفات خاصة بكل جنس تتناقلها الأجيال عبر القرون. لا يوجد لهذه الكلمات معادل دقيق بالفرنسية، ولكن يمكن ترجمتها بصورة تقريبية إلى: حشمة وحياء عند المرأة، وإلى الشرف عند الرجل.
«الناموس» هو الشرف الجنسي للرجل. وهو مُحرَّم محظور، ومكبوت في أعمق أعماق الرجل المسلم. وبصفته خاصاً بكل رجل مسلم، فإنه ينبغي أن يبقى محمياً من أنظار الرجال الآخرين، أي الأنظار غير المشروعة. ناموس الرجل (أو عرضه) يجب أن يُحمى ويُستَر. وهو يرمز إلى ما في الداخل، ولا يمكن أن يكون في الخارج. له كفيل ضامن في الأم والأخت والزوجة والابنة والجسد المؤنث. والحجاب هو ملجأ لناموس الرجل المسلم وشرفه، ويَخلق عنده تبعيةً نفسية. ذلك أن جوهر هوية الرجل المسلم يتجذر تحت حجاب الأنثى. وترمز الغيرة إلى فحولة الرجل المسلم وإلى مقدرته على حفظ عِرضه: أي شرفه الجنسي، وأداته: أي الجسد المؤنث. هذا الضامن لشرف الرجل الجنسي، هذا المُحرّم غير المعترف به، لا يمكن أن يكون في الخارج حراً، تحت الأنظار غير المشروعة للرجال الغرباء. لأنه مرتبط بهوية الرجل المسلم، وبشرفه من حيث كونه رجلاً، والمرأة غير المحجبة بوسعها زعزعة عمارة الهوية الذكورية في الإسلام. لقد قَدَّم لنا الأدب والسينما الهَدَّامان ـ أحياناً ـ رجالاً مسلمين انهاروا نهائياً لأن واحدة من بناتهم أو زوجاتهم أو أخواتهم أو أمهاتهم انتهكت مبادئ الحياء الكلية القداسة.
إن حياء المرأة وخجلها هما الضامنان المُفصِحان عن غيرة الرجل المسلم. وكلما كانت المرأة حَييّةً خجولة، كلما ازداد الشرف والغيرة عند أبيها وأشقائها وزوجها. وبتعبير آخر، تخضع عمارة الهوية الذكورية عند المسلمين لحياء المرأة وخجلها. أما شرف الرجل وغيرته، وهو بدونهما لاشيء، فهما بمتناول حجاب المرأة. وكل تماس، وكل محاولة تقارب بين الجنسين تلوث شرف الرجل المسلم. ليست العلاقة الجنسية هي المحرّم المحظور، بل الجنس الآخر، الجسد الأنثوي، هو المحرّم المحظور بذاته.
يحكم الحجابُ على الجسد الأنثوي بالحبس لأن هذا الجسد هو المَحَلّ الذي يُدَوَّن عليه شرف الرجل المسلم، وهو بهذه الصفة يستوجب الحماية. ألا يُتَرجِم الحجاب قبل كل شيء عن الاستلاب النفسي للرجل المسلم الذي يبني كينونته وهويتّه بالخشية المستمرة من الانتهاك الأنثوي، أو من تجاوز مقلق لخصلة شعر أو طرف بشرة تعرضتا للأنظار؟.
الابنة هي ضامنة شرف أبيها وأشقائها. وإذا زُوّجتْ، بِيعَتْ، خرجت من وصاية الأب، لتصبح ضامنة لشرف زوجها. وفي حال الطلاق، تعود إلى الوصاية الأبوية، ويرتبط حياؤها بهذه الوصاية من جديد. والمرأة المُطلَّقة تحت السقف الأبوي هي مصدر قلق للأب وللأشقاء، كالبضاعة المُرْتَجَعة.
يقول بعض المفكرين المسلمين، المدافعين عن الحجاب: زوجتي، ابنتي لا ترتديان الحجاب، توكيداً منهم بأن موقفهم ليس ذاتياً. وماذا عن أمهاتهم، ألم يكُنّ مُحَجَّبات؟
الأم بالحجاب. الحجاب المضَمَّخ برائحة الأم. الأم المُحرَّمَة. الحجاب الذي ترتديه الأم دائماً. هذا الذي لن تتركه أبداً لطفلها، لابنها. الحجاب الذي يحمل رائحة الإثم، رائحة الأم المُحَرَّمة. الأم موضوع الشهوة المذنبة، التي تقمعها وتكبتها قوانين الأسلاف. يرمز الحجاب، في نظر الرجل المسلم، إلى صورة الأم المحبوبة، والمشتهاة. كما لو أن هذا الحجاب الذي غطىَّ شَعر الأم قد اختلَسَها من ابنها في الوقت نفسه. لهذا السبب تنجذب أنظار الرجال المسلمين ـ انجذاباً أكبر ـ إلى النساء المحجبات. القوة الباطنية العميقة للصلة بين الأم وابنها، هذه الصلة التي كان حجاب الأم ترجمانها في الطفولة الأولى والتي تلقي بظلّها (ظل المحَرّم، وزنا المحارم والشهوة) على المرأة المرغوبة. إن الرجل المسلم يكره الحجاب الذي يخفي المرأة ويرغبه في آن. يُذَكّر الحجاب بحب الأم، ولكنه يُذكّر أيضاً بالجرح الأول، بالحجاب الذي خطف الأم.
ألا تُقَوّي ضغوط المحرّمات غريزيةَ النظرة؟ ذلك أن الحجاب يُذَكّر بواحدة من المحُرَمَّات البارزة في الإسلام: الجسد الأنثوي. وما نخفيه عن الأنظار يزيدها اضطراماً. يُثَبّتُ الحجابُ انتباه الرجال وطاقاتهم النفسية على مشهد ينبغي أن يَتَكَشَّف عن كونه ذا فائدة كبرى، بحكم منطق الأشياء.
من المستحيل تجاهل النظرات المُلِحَّة والمتشبثة التي ترسلها عيون الرجال في البلدان المسلمة. النظرة البشعة، النظرة غير المشروعة، النظرة المترَصّدة، النظرة التي تَخترقُ الحجاب. ثم تتلقى الفتيات التوبيخ والتأنيب، لأنهن رغم الحجاب، ورغم أجسادهن المخفية، جذبن النظرات المحرّمة.
تُرَسّخُ الأمهاتُ في بناتهن الخشية من النظرة ومن المخاطر التي تنقلها. ومنذ نعومة أظافرهن، تستبطن البُنَيَّاتُ الفكرة القائمة على أن وجودهن يشكل تهديداً للصبي وللرجل، وأن ـ هذين الأخيرين ـ قد يفقدان كل سيطرة على نفسيهما إن شاهدا خصلة من شعرهن أو جزءاً صغيراً من جسدهن. وتُواصل الأمهاتُ، في البيئات التقليدية، إنتاج المبادئ نفسها المنقولة من جيل إلى آخر. إنهن وَجِلات، يرعبهن قطع الصلة بالنيّر الديني، ويخشَيْن كسر حلقة الهوية، ولا يجرُؤن على مجابهة حكم الأمهات الأُخريات في جماعتهن. ولكن رغم حجاب النساء يفتك الاغتصاب والدعارة بالبلاد الإسلامية، وينتشر الميلُ إلى الصبيان. ولئن كانت العلاقة الجنسية بين راشدين، خارج إطار الزوجية، رغم رضى الاثنين ـ المرأة والرجل ـ تعاقبها القوانين الإسلامية بشدة، إلا أنه لا وجود لقانون يحمي الأولاد. ويوجد ما يكفي من الأولاد المهمَلين الذين يتدبرون أمورهم بأنفسهم، لتحمل أعباء الحاجات الجنسية العاجلة لرجال تلك البلدان.
من له الحق بالكلام عن عار سُكْنَى جسدٍ مُخْجلٍ، جسدٍ محجَّب، وعن ألأسى الناجم عن جسد مذنب… كل ذنبه أنه موجود؟ وعن هذا الشعور بالذنب وهذا العار الفطريين؟ ربما يحق الكلام للَّواتي عشن قبل مراهقتهن بمدة طويلة وتحَمَّلْنَ عواقب العقائد الإسلامية التي آذت أنفسهن. إلا أن اللواتي يشعرن بوطأة نظرات الرجال من عائلاتهن، ونظرات الرجال الآخرين وغيرهم من الذين يعتبروهن بلا إرادة ولا مزايا، هن بالفعل من لا يمتلكن الحق بالكلام ولا القوة اللازمة لذلك. لقد عشن معاناة ذل عدم ولادتهن ذكوراً، وذل ارتداء الحجاب، هذا السجن المتنقل، كأنه وصمة، كالنجمة الصفراء معلقة على الشرط الأنثوي (1).
تدور أجساد النساء كالظلال حول الرجال، ذليلة، مذنبة، تجلب القلق، مُهَدِّدَةً، قذرة، نجسة، مصدر ضيق وخطيئة؛ هذه الأدوات الموبوءة، المطموع بها، المشتهاة والمحَرَّمة، المخفية والمعروضة، المحبوسة، المغصوبة والمكْرَهَة. إن الجسد المؤنث أداة جنسية مخبأة، ومذمومة ومعابة، كأنها بعض اللوازم التي لا بد منها لممارسة الجنس والتي نخجل في الوقت نفسه من استعمالها.
تشعر الفتيات المحجبات بالذنب، منذ الطفولة، كأنهن ضحايا اغتصاب، ويُشبه العنفُ الذي تعرضن له وعانين منه، الاغتصاب، في الواقع: إنه الاغتصاب فعلاً.
اغتصاب قديم سالف، تحمل الأمهات المسلمات علامته، ويَطبَعْنَها بدورهن على أجساد بناتهن. اغتصاب سالف تتحمل الأمهات جزءاً كبيراً من المسؤولية عنه. ذلك أن العقائد الإسلامية، التي تبثها الأمهات المسلمات وتستبطنها بناتهن، تكتسب سمةً ذاتية أصلية، كأنها نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج.
أسوق هنا بعض الملاحظات، لتلافي الاعتراضات والأمثلة المضادة.
إن الدين، أي دين كان، يوجد تاريخياً؛ فهو يصير ما نفعل به، ولكنه هو أيضاً ما فَعَلَهُ. الدين هو الدين كما تواجد في المجتمعات عبر القرون. وليس بمقدرونا اختصار الدين إلى الأفكار التي يُحَضّرُها بشأنه بعض المثقفين أو المُدَّعين، أو بعض ذوي الضمائر المرتاحة.
ومن ثم ينبغي، لفهم دين ما فهماً فعلياً ومعرفة آلية نقله نفسياً واجتماعياً من جيل إلى آخر، أن نحياه ذاتياً، وننخرط فيه إيجابياً أو سلبياً. ولا تتمكن الملاحظات الخارجية أبداً، مهما بَدَتْ وثيقة الصلة به، من النفوذ إلى داخل المؤمن واختراق ما يشعر به. يجب العيش داخل عقيدة أو إيمان ما، وتلقي تربية دينية وتعليم ديني، لكي نتوصل إلى فهم ماذا يعني أن نؤمن بالإسلام، أو بالكاثوليكية أو باليهودية، أو ألا نؤمن.
لقد عشتُ التوتاليتارية الإسلامية والهمجيات الدينية بمظاهرها كلها. ولما وصلتُ إلى فرنسا، تكوّن لديّ انطباع بعدم الوجود على الكوكب نفسه. وأحسستُ بمثل ما يحس به من قد يأتي إلى دنيانا بعد أن تحمَّل عذاب محاكم التفتيش المسيحية في العصر الوسيط. أنا لا أشعر بأي تسامح نحو الدين. وفي ما يتصل بالإيمان، فأنا ـ والشكر للّه ـ لست حتى ملحدة. ببساطة، أنا واعية وجودي، مدركة للظلم المخيم على هذه الأرض، وللجحيم الموجود فيها. والله، إذا كان موجوداً، فهذا شأنه.
لا يشك المسلمون إطلاقاً بحدود الخير والشر. وعندهم أن كل ما لا يضمه القرآن ويحويه فهو الشر المطلق. كل شيء موجود في القرآن: فقد فكًّر بكل شيء، بالكائن البشري في كُلّيته، وبالبشر من كل الفئات وتحت كل الظروف. ولا يُفلتُ من النص الديني أي أمر متعلق بالإنسانية. والشك بهذه الأمور إثم بذاته وانتهاك للحرمات. تقوم شرعية الأديان التوحيدية الثلاثة على واقعة كونها إلهية، وبالتالي فهي إطلاقية وخارج أي نقاش. ولما كان الله في التوراة والإنجيل والقرآن [الله ـ ديو
Dieu ـ يهوه] نادرين، يجب على المؤمنين إطاعة ممثليهم على الأرض.
إن انخفاض قيمة المرأة في الإسلام، قانونياً واجتماعياً، ووضعها تحت الوصاية الذكورية، يسير جنباً إلى جنب مع حالها كأداة جنسية، ولوضعها هذا مصدره في القرآن.
تحتاج المرأة في البلاد الإسلامية، انطلاقاً من قوانين الإسلام، إلى موافقة ولي أمرها إذا أرادت السفر خارج البلاد (زوجها أو والدها أو شقيقها). وتذهب الشريعة إلى أبعد من هذا: ليس للمرأة مغادرة بيت الزوجية دون موافقة زوجها وولي أمرها. وهي ليست مُعتَبرة شخصاً تاماً أبداً. وفي إيران، لا يجوز للنساء الانتقال من مدينة إلى أخرى وحيدات، وهذا الإجراء اتُخذ في العام 1998. وأنا أتكلم عن النساء، لا عن المراهقات القاصرات.
تُفرِد الشريعة صفحات طويلة لأسفل بطن الرجل، ولمتعته الجنسية وواجبِ النساء في إشباع شهوات أزواجهن. وهي تتحدث أيضاً عن متعَ الرجال في الفردوس، وتخبئ للمسلمين الصالحين ولشهداء الإسلام حوريات أبديات الجمال، أبديات الشباب، يرجعن عذراوات دائماً بعد كل وصال. يمثل هذا الأمر لدى الرجال تحقيق استيهام النشوة التي لا تنتهي ولا تكل ولا تمل، ونهاية وسواس القذف المبكر والسابق لأوانه. أتصور كيف سيكون الرجال فحولاً متميزين، ذوي عضو جنسي من الفولاذ، لا يتعب. لا شيء إلا المتعة، والغبطة والسعادة. وأتساءل بيني وبين نفسي عن فضل هذه الوعود المقدًّسة، وعن دورها في جعل المتدينين يؤمنون بكلية قداسةِ نصوص الشريعة: أي رجل لا يحلم بمثلها؟ يكفي أن نؤمن بها. بالتأكيد، يقول القرآن: «الجنة تحت أقدام الأمهات» (2) ولكنه لا يشير ـ في ما يتعلق بهن ـ إلى أية متعة مضاهية لتلك التي يخص بها الرجال. لما كان الفردوس غير مفتوح إلا للأمهات، لا للعاقرات سيئات الحظ، ولما كان من غير المسموح ممارسة الزنا بأم أي رجل (فقد تؤدي الشتيمة الجنسية بحق الأم في البلاد الإسلامية إلى إراقة الدم) فلربما تكتفي الأمهات، وهن في الفردوس، بمشاهدة الرجال يضاجعون الحوريات.
ألمح الآن استنكارَ بعض المحجبات المستَحدثات لما أقول، واللواتي يرفعن أصواتهن بقوة مطالبات بحريتهن وبهويتهن، ولكنهن لا يقبلن المزاح بشأن القرآن. وقد نشاهدهن في الشارع أو في وسائط النقل، متباهيات، معلنات تصميمهن، ونشعر باستعدادهن للرد بعنف على الأسئلة التي لا يطرحها عليهن أحد، ولكن تستدعيها تلقائياً نظراتهن، وما يضعن على رؤوسهن، وثِقتُهن بأنفسهن التي تستفز الآخرين. وسيأتي يوم ـ بلا شك ـ سيقترح علينا فيه من يوحون إليهن بهذا السلوك قراءة جديدة للقرآن. فالأديان الموِّحدة تعيد قراءةَ نفسها دائماً، لكي يُقنعونا بالوصفة القديمة، وبأن المسألة هي في معرفة تفسير النص، وفك رموز ما ليس مكتوباً فيه إذا دعت الحاجة. غير أننا لمًّا نصل بعد تماماً إلى هذه النقطة مع الإسلام. بل مازلنا مع العلامات الخارجية لغنى الهوية ومع القراءات الأصولية للنص. الحجاب هو ثقافتي. والحجاب هو حريتي. إنها حكاية «إبريق الزيت» والنغمة المستعادَة من أيام إزالة الاستعمار، عندما كان يُقال: الحرية شيء، لكن الحرية الثقافية هي شيء آخر. كانوا يُميّزون ويُفَرّقون بين حقوق الإنسان (الفردية) وبين حقوق الثقافات (الجَمعية) قبل أن يصلوا إلى مواجهة هذه بتلك. وهكذا تم العثور على المسوّغ الفكري لسائر اللاديمقراطيات ما بعد الكولونيالية.
أن ترتدي شابات راشدات الحجاب، فهذا شأنهن، غير أننا نجد في موقف بعضهن ضرباً من انحراف جنسي مزدوج. ذلك أن ارتداءه في فرنسا لا يُشْكّل وسيلةَ الانصهار في الجمهور الغفل، بل على النقيض، لأنه يجذب الأنظار، ويشكل نوعاً من حب الظهور ويعبر عن نزعة إلى الاستعراضية والاستفزاز: أنا امرأة أداة، وفخورة بكوني كذلك، امرأة أداة جنسية، على وجه أكثر دقة. حتى هذا النوع من الانحراف، فهو شأنهن أيضاً. ولكن الموضوع يخرج عن كونه كذلك ـ وأتوسل إليكم إعارته الاهتمام ـ عندما تواكبه رسالة تبشيرية موجهة إلى من هن أصغر سناً، رسالةُ مُحَجَبةٌ هي الأخرى لأنها تخفي طبيعتها الحقيقية تحت غطاء كلمات «الحرية» و«الهوية» و«الثقافة». إن فرض الحجاب على قاصر، يعني تماماً إغواءها ـ إن لم نقل هتك عفتها ـ والتصرف بجسدها، وبيان صفتها كأداة جنسية مهيأة للرجال.
والقانون الفرنسي، الذي لا يمنع شيئاً عن الراشدين ـ الموافقين بإرادتهم على ما يفعلون ـ يحمي القاصرين من هذا النوع من الإغواء. وكل شكلٍ من الضغوط المباشرة أو غير المباشرة الهادفة إلى فرض الحجاب على القاصرات يضفي عليهن ـ بهذه الممارسة نفسها ـ صفة الأداة الجنسية المماثلة لصفة الدعارة. لذلك ينبغي منعها بقوة القانون. ذلك أن التشوهات النفسية والمعنوية هي تشوهات جنسية، كما أن التشوهات الجنسية هي أيضاً تشوهات نفسية ومعنوية. ولقد وُجِد علماء سلالات دافعوا عن الختان باسم الاختلاف الثقافي، لكنهم كانوا أقلية لحسن الحظ. إنها خطيئة ضد العقل وضد المجتمع بالتأكيد. فلنحاذر من ارتكاب الخطأ نفسه في ما يتصل بالحجاب الإسلامي. ولا ينبغي ـ باسم العلمانية ـ منع القاصرات من ارتداء الحجاب في المدرسة أو في غيرها من الأمكنة، بل باسم حقوق الإنسان وباسم حماية القاصرات.
ماذا يريدون إسماعنا غير ذلك؟ ما الذي تُغَنيه لنا مسموعات الكلمة اللواتي «تحررن» بالحجاب؟ من أي شيء تَحرَّرْن على وجه الدقة؟ إنهن يؤكدن هويتهن، كما يقلن. أية هوية؟ تتحدث بعض الفتيات من ذوات العاطفة الساذجة كما لو أنهن بعبقريتهن اخترعن الحجاب أو اكتشفن فضائله. إنهن يتبنَّينه، بعد أن مررن مروراً عابراً بمقاعد الكلية، كأنه رمز جديد، وكما لو كان الحجاب من اختراع القرن الحادي والعشرين. إن هذا الحجاب يرقى إلى غياهب الأزمنة، ويشكل رمزاً للعتيق الآخذ بالاندثار في أقاصي الأرياف المتخلفة من أوروبا الهرمة، وهاهو يريد صنع شباب جديد لنفسه، وأن يُحسب على غير ما هو.
ذلك أننا نعرفه جيداً. فما هو بالرمز المغري لهوية جديدة، بل تعبير عن الاستلاب، وفي غالب الأحايين يُعبّر عن الانكفاء أمام قسوة البلدان التي تستقبل المهاجرين.. إن النساء المحجبات في فرنسا أو في الدول الديمقراطية يجذبن الأنظارَ، ويُضْرِمْنها ويرقين إلى مقام الصورة، تماماً كالنساء اللواتي نشاهد صورهن على أغلفة المجلات الذكورية. كون المرأة محجبة، وعرض نفسها على أنها كذلك، يعني أن تكون باستمرار وقبل كل شيء المرأة الأداة الجنسية. هذه المحجبة هي أداة تحمل لافتةً غير مرئية تقول: «الرؤية محظورة. للاستيهام فقط». وهكذا تصبح المرأة أداة تستدعي بوجودها استيهامات الرجال الدائمة. فلنجرؤ على الاعتراف بهذه الاستيهامات.
وبما أن الحجاب موضة، فالمرأة تنهض بعبئه، وتختاره، وتفخر به. والنساء اللواتي لم يكن يلفتن نظر أي كان، صرن أخيراً به يسترعين الانتباه. ويُخفين ما لن ينظر إليه أحد ـ ربما ـ لو لم يُخفينه. وكما تخفي بنات الهوى أجسادهن، في ظلام الليالي لخداع الزبائن، تخفي النساء المحجبات أجسادهن لكي يختارهن زوج بعينين مغلقتين في نهاية المطاف.
الحجاب هو في الوقت نفسه ملجأ لإخفاء التهميش الاجتماعي في الوقت نفسه. فالمهاجرات من البلدان الشرقية، العاطلات عن العمل غالباً، أو المستخدمات في أعمال ثانوية، يتوجب عليهن التنافس والتخبط في سوق العمل الذي تتزايد مصاعبه ويُهيمن عليه التمييز، من أجل الحصول على الحد الأدنى للأجور الذي تقرره الدولة. ويأتين بعد الرجال، وبعد النساء غير الشرقيات، كأدوات لتهميش اجتماعي واقتصادي بلا رحمة. تَستَبعِدُهن جماعتهن المسلمة عندما يناضلن من أجل انعتاقهن (هذا الانعتاق الذي لن يجلب إليهن أكثر من الحد الأدنى للدخل الضروري للاندماج). ويستَبْعدهن المجتمع الفرنسي، وسوق العمل، ليدفعن ثمناً فادحاً لاستقلالهن. والحق أن المجتمع الفرنسي لم يقم بما يكفي من أجل استيعابهن ودمجهن. فكيف نستغرب لجوء بعضهن إلى الاختفاء تحت الحجاب محاولات العثور على زوج يقوم بأوَدِهِن لقاء عُذريتهن؟
إنهن لن يتشردن في الشوارع، على الأقل، كالنساء اللواتي نراهن يستجدين في محطات قطارات الأنفاق، بأعداد متزايدة، ولن يعرفن معاناة المشردات بلا مأوى ثابت. لا تنجو هاته النساء من التهميش إلا بالاستلاب.
لقد آن الأوان، ربما، للمفكرين الفرنسيين، للاهتمام بالبؤس الصارخ للمهمشين والمهمشات في هذا البلد الذي نعيش فيه والذي تسوء حاله يوماً بعد يوم. فهم ركزوا اهتمامهم على أفغانستان، وعلى مسعود، وعلى العراق، وعلى البرنامج المتلفز
Loft story… وعلى الحجاب. وعليهم الآن الاهتمام بالرجال والنساء الفرنسيين أو المهاجرين، أي بتلك الأشباح التي يصنعها الاستبعاد من سوق العمل والتي يجعلنا وجودُها قربنا، نشعر بالعار، سواء صمتوا أو رفعوا الصوت احتجاجاً.
أخاطب العدد الذي لا يكاد يذكر من النساء المسلمات، اللواتي وجدن عملاً لائقاً، واخترن ارتداء الحجاب، لأقول لهن: رغبة الشذوذ والانحراف موجودة (هناك بنات هوى يبعن أجسادهن ـ كما يقال ـ دون أن يكنّ بحاجة مادية، بل من أجل المتعة). إنهن راشدات. ويستطعن إخفاء أجسامهن في غطاء من الصوف في جو شديد الحرارة. وإذا كن يستمتعن بهذا، فهو شأنهن. ولكن، ما أن يتعلق الأمر بالبنات الصغيرات، البنات اللاتي يعشن في فرنسا، واللاتي نتولى توجيههن وتربيتهن على الاستلاب بفرض العلامة الجنسية التي تعني تبعية أجسادهن، هنا أقول لا، إنه انتهاك لحقوق الإنسان. وأخشى ما أخشاه هو أن يكون نسيان حقوق الإنسان هذه هو ما ألهم بعض علماء الاجتماع المسلمين تحليلات تبعث على الذهول حقاً.
يتحمل المثقفون المسلمون مسؤولية ثقيلة في هذا الشأن. عندما نتحدث عن مثقفين كاثوليكيين في فرنسا، فذلك من أجل تمييزهم عن الذين ينتمون إلى تيار ديني آخر، كما من أجل تمييزهم عن الذين لا ينتمون إلى أي تيار من هذا النوع ويعلنون ـ عَرَضاً ـ لا أدريتهم أو إلحادهم. إذن، لا تنطبق تسمية «مثقف كاثوليكي» إلا على قسم من المفكرين. ليس الحال على هذا المنوال عند المثقفين المسلمين، لأنهم جزء من كُلٍّ كبير هو: «الإسلام». وهم يتمايزون عن الآخرين بكونهم مثقفين، لا كمسلمين. أين هم إذن المثقفون غير المتدينين [الملحدين] في العالم الإسلامي؟. في إيران، وفي مصر، وفي الجزائر، وفي العربية السعودية؟ عبر تحريف غريب للكلام، تحريف يسمح بالمماثلة بين الدين والثقافة وبالعكس، نجد أنفسنا معتادين على اعتبار مجموعات بشرية كاملة، وآداب وفلسفات، «مسلمة» ببساطة. المبدأ: كلمة «إسلام». ومن ثم نُقَرّر [وجود] الفن الإسلامي، والمنمنمات الإسلامية والعمارة الإسلامية، والشعر الإسلامي، وأرض الإسلام. حتى أن ورد أصفهان اعتُبر رائحة الإسلام. ولا يبقى بعدئذ إلا ذكر الأنماط المختلفة: الإسلام الأصولي، الإسلام السلفي، الإسلام المعتدل، وآخر ما حُرِّر: الإسلام العلماني. هل نحيا في قرن الهذيان؟
لا يوجد دين علماني. فالعلمانية على وجه الدقة هي الفصل ما بين الدولة، ذات المجال العام، وبين الدين، وهو شأن شخصي خاص. ليس بوسعنا من الناحية الدلالية إلصاق صفة «العلمانية» باسم أي دين. ولا يوجد من يتحدث عن كاثوليكية علمانية أو عن بروتستانتية علمانية. هنا ـ في فرنسا ـ يَقبَل أكثرُ الكاثوليكيين والبروتستانتيين اليوم مبدأَ العلمانية؛ بهذا المعنى هم علمانيون، كما يمكن أن يكون الملحدون علمانيين؛ إنهم كاثوليكيون وعلمانيون، بروتستانتيون وعلمانيون. وهم لا ينتمون إلى أشكال (علمانية) من الكاثوليكية أو البروتستانتية تعارض أشكالاً أخرى منهما. لم يحدث هذا كله بين عشية وضحاها. لكنه نتيجة تاريخ طويل وصراعات شديدة. بالبداهة ليست العلمانية من جوهر التوحيد المسيحي (والتمييز الإنجيلي بين ما يعود إلى الله وما يعود إلى قيصر لا علاقة له البتة بالعلمانية). فهي قد فرضت عليها فرضاً.
إن إطلاق تعبير «إسلام علماني» يرجع إلى زلة اللسان أو الهفوة الكاشفة أكثر من كونه إيجازاً فكرياً واختصاراً. هفوة كاشفة، لأن القصد الانطلاق من كلٍ لا يُناقَش، أي الإسلام، لوصف واحد من الأنماط. وهذا يعني، الانطلاق من مسعى مضاد للمسعى العلماني الذي يُميّز منذ البداية بين الدائرة العامة وبين الدائرة الخاصة.
أخشى ألا يكون أكثر المفكرين المسلمين قد فهموا حقاً، بل أخشى ألا يكونوا أرادوا أن يفهموا معنى كلمة علمانية ومستتبعاتها الضمنية. وهذا أمر لا يدعو إلى الدهشة لأنه لا مكان لكلمة علمانية لا في فكر العالم الإسلامي ولا في كلامه، حيث يجب أن تُلَقِنّ مبادئ الإسلام وتُعَلّم من منظور الإسلام أدقَ تفاصيل الحياة اليومية لكل فرد. كما أن كلمة علمانية ليس لها ما يكافئها لا في العربية ولا في الفارسية (3). لأنها لم يُفَكرُ بها في هاتين اللغتين. غير أن هذا لا يعني أبداً عجز هاتين اللغتين عن تشكيل مفهوم العلمانية، بل يعني عجز مفكّريهما. انطلاقاً من هذه النقطة يكون بالمستطاع إضافة مفهوم (العلمانية) في كل الطبخات، واللعب بلا مخاطر بمفهوم فارغ أو بحَدْس أعمى، كما في لغة كانط [الفيلسوف]. إن هؤلاء المثقفين المسلمين، أو على الأصح هؤلاء المسلمين المثقفين، يريدون حشر الإسلام في كل مكان، وإلصاقه على كل شيء، حتى على الفصل بين الدولة وبين الدين. إنهم باختصار لا يريدون أن يكون التعليم علمانياً، بل أن يكون «مؤَسْلماً» بطريقة علمانية.
لما أعلن الخميني قراره القاضي بتصدير الإسلام إلى العالم كله، ظننتُه مجنوناً، لكن جنونه على ما يبدو جماعياً ومُعْدياً. وهو آخذ بالانتشار.
إنني لا أضع مثقفي العالم الإسلامي جميعاً في سلة واحدة بلا تمييز. فلقد دان بعضُهم الاستبداد الإسلامي وقمْعه الموجه إلى النساء. غير أن الواقع يفرض علينا الاعتراف بخفوت أصوات هؤلاء المثقفين النقديين، فليسوا هم الذين نسمعهم. لا يعلن المثقفون الذين يقال عنهم «إسلاميون» سخطهم إلا على من يطعن أو يهين شرف الإسلام ومحمد. ولا ينهضون لتحمل المشَقَّة إلا من أجل الدفاع عن قداسة الإسلام والقرآن. نحن لم نشاهدهم يثورون ضد الاعتقالات والقمع والاغتيالات والعنف والمخدرات والفقر والانجذاب الجنسي للراشدين نحو الأولاد، وغياب حقوق النساء والأولاد في البلدان الإسلامية. نحن لم نسمعهم يحتجون على الأهل الذين يجبرون بناتهم على ارتداء الحجاب، ولا ضد الزيجات بالإكراه المفروضة على المراهقات هنا في فرنسا (ينبغي مشاهدة فيلم كولين سِيُّرو «
chaos» بهذا الخصوص). هل انتزعتْ منهم صرخةَ استنكار مشاهد عمليات قتل النساء المتَّهمات بالزنا رجماً؟ إنهم يُبدون اندفاعا في الدفاع عن أسباب التزمت والتشدد وعن فضائلهما أكثر بكثير من اندفاعهم إلى استنكار الهمجية. وهم بهذا يشبهون ليوتي (4) [ماريشال فرنسي أنشأ نظام الحماية على المغرب من [1912 ـ 1925]، إذ يعيدون اكتشاف الدور الخَيِّر الذي يقوم به الإسلام في المحافظة على النظام، ويبدون مستعدّين لجعل ضواحي المدن الفرنسية ذات الجاليات المهاجرة من بلدان مسلمة تستفيد من هذه الخاصية. ويؤكدون أمام البورجوازيين المذعورين أن الشباب المتدينين الورعين سيكونون في كل الأحوال أكثر انضباطاً من الزعران الذين لا مبدأ لهم.
دعوا الإسلام يعمل. يخاطبون المدنيين بإطناب، وقد لاحت على سماتهم علائم الدهشة والسرور بالدور الذي يلعبونه مع اعتراف الآخرين بهم، ويبدون مؤهلين ـ في الظاهر ـ من أجل توفير شروط الصعود الاجتماعي للمرأة المسلمة، ومن أجل إعادة الهدوء أيضاً إلى الأحياء التي يطلقون عليها باستحياء صفة المحرومة أو الصعبة. فمتى يُطَبق نظام الحماية على الضواحي؟.
لم يعد سراً يخفى على أحد واقع دعم الحكومات الغربية للأنظمة الديكتاتورية والتيوقراطية، وتسابقها إلى عقد اتفاقات في كل مجال معها باسم المنافسة الاقتصادية العالمية. وأيا كانت درجة إدانة هذه السياسة الدولية التي تُمارَس باسم المصالح الوطنية، إلا أنها لا تجد أية معارضة جدية لها في أي بلد ديمقراطي. فهل ستؤثر نسبوية السياسة الخارجية، على المدى البعيد، على السياسة الداخلية؟ وأية سياسة تتصورها الحكومة الفرنسية من أجل حل المسائل ذات الأهمية المتفاقمة في الضواحي المأهولة بمهاجري العالم الثالث؟ هل سيختار سياسيونا أسلوب السلطات المحلية، أو أسلوب «الديكتاتوريات المعتدلة» من أجل حفظ الأمن ومنع التجاوزات؟ تبقى الديمقراطية الغربية أفضل الأنظومات الموجودة رغم نواقصها. وأظن أنها مهددة بأخطار فعلية نتيجة صعود الليبرالية المتوحشة واليمين المتطرف والأديان و«الطوائفيات العرقية».
لو أن الإسلام كان لمرة واحدة عامل انعتاق للنساء، أو ترياقاً يقي من العنف، لكنا علمناه! ألا يهيمن العنف الوحشي على أكثر البلدان الإسلامية؟ ألا يُستهان فيها يومياً بحقوق الإنسان، بخاصة حقوق النساء والأولاد؟ نتساءل أحياناً ما هي القضية التي يدافع عنها المثقفون المسلمون على وجه الدقة؟
ألا يخطر ببال النساء المسلمات اللواتي تخلصن بفضل قوانين التربية الجمهورية والعلمانية في فرنسا، واللواتي يتبنيّن الحجاب اليوم، أن يفكرن بغيرهن من النساء المدفونات تحت الحجاب، والمحرومات من كل حق في بلادهن؟
أتساءل عمّ إذا كن يُقَدّرن موقف النساء المحرومات من أدنى مستويات التعليم، ممن لا تملك أكثرهن فقراً حتى وثيقة ميلاد، هاته النساء المسحوقات، هاته النساء الكثيرات المقيمات في أكثر المناطق جفافاً وانعزالاً في البلدان المسلمة؟ ربما تحصل هؤلاء المدّعيات من النساء «اللواتي حَرَّرهن الحجاب» على أكبر فائدة من إقامة أيامٍ في بلد مثل أفغانستان! ربما يتمكنّ من تقاسم حريتهن مع النساء الأفغانيات!
بعد الثورة الإسلامية في إيران، اصطنع بعض علماء الاجتماع الإيرانيين المقيمين في فرنسا نظرية «الحجاب كوسيلة للانعتاق». أما النساء المجرورات من شعورهن، والمرميات أرضاً، والمضروبات في شوارع طهران لأنهن رفضن ارتداء الحجاب، فإن علماء الاجتماع لم يروهن. وهم مازالوا إلى اليوم لا يرون حراسَ الإسلام يعتقلون النساء اللواتي يتركن بعض خصلات متمردة من شعرهن تبدو خارج الحجاب.
إنه نسيان غريب أصاب هؤلاء المتخصصين بالمجتمع الإيراني. لقد نسوا التنويه بأن ارتداء الحجاب قد فُرض على النساء جميعاً في أنحاء البلاد كلها: الحجاب أو الموت. كما أنهم نسوا أيضاً مسألة فرض ارتداء الحجاب في سائر المدارس الإيرانية، بما فيها المدارس الابتدائية، على البنات القاصرات تبعاً للقوانين القرآنية، ذوات السنوات الست أو السبع (فسن الرشد للبنات في الإسلام هو سن التاسعة). ففي المدارس حيث لا يعمل أي رجل، وفي صفوف البنات حيث المعلمة نفسها محجبة بالطبع، ليس للفتيات اللواتي بلغن السابعة الحق في خلع حجابهن. إنه يشكل جزءاً من هويتهن، بالفعل، وعليهن أن يتعلَّمْن العيش معه. لقد أثبتت نظريةُ الانعتاق والتحرر بارتداء الحجاب قيمتها وإمكاناتها بالتأكيد. لكن الأمر الخَطِر وقليل المردود في الجامعة هو التوقف على مشهد اللواتي فُرض عليهن الصمت منذ الطفولة، معميات ومخنوقات تحت أقنعةِ وأحجِبة كنا لا نزال نجرؤ على تسميتها بـ(الظلامية) في ما مضى.
وبالفعل، إن القصد هو تأمين الصعود المهني والاجتماعي، وبالتالي البقاء في الوجود من أجل ذلك. هل تتصورون مفكراً مسلماً يفكك آليات الاستلاب الديني؟ كلا، بالتأكيد. يوجد هويلبك (5) للقيام بذلك [كاتب فرنسي كتب رواية هاجم فيها الإسلام والمسلمين والمسيحيين أيضاً]. هويلبك الذي ما كان يعرف عن الإسلام ما يستحق الذكر، ليس لديه بالتالي ما يفككه وما يُقَشره.
أما المثقفون المسلمون فليسوا ذوي ميول تدعوهم لكي يكونوا مثل جيوردانو برونو (6) أو مثل فولتير، كلا. الأفضل للمثقف المسلم أن يبقى مسلما، فهذا أكثر حصافة وأكثر ذكاء أو مكراً. وهو يستطيع ـ بالفعل ـ أن يشرح للآخرين أن الإسلام ليس ما يظنون، ويصبح هذا الأمر سمة تخصصية له ـ إنه أسلوب قديم أثبت قيمتَه ومازال صالحاً دائماً: اتخاذ مواقف معارضة للكليشيهات المكرورة، وتطوير المقترحات الناجمة عن هذا الانقلاب بأسلوب معرفي متحذلق. ليس المطلوب التساؤل عما إذا كانت تلك الأقوال المكرورة تتوافق مع أي شيء كان. المطلوب إثبات الوجود باقتراح مفارقات تظهر، للناظرين من الخارج، كأنها ثمار التجربة والحكمة والاعتدال: «أنا القادم منه [من الإسلام]، أنا المسلم، بوسعي التأكيد لكم بأنه ليس كما تظنون».
تعطي هذه العملية أولا مردودا غير عادي. تعطيكم مكانة بادئ ذي بدء، وتُبرز خِبرَتَكم المُفترضة. وبالنظر إلى ذلك يمكن القيام بالعملية نفسها باسم أقلية عرقية، أو باسم حزب سياسي، أو طائفة ما، ولكن المرجعية إلى الإسلام، ذات أهمية أكبر.
تضعكم هذه العملية ـ في المقام الثاني ـ تلقائياً في موقف الوسيط، الوسيط بين من هم في الإسلام ومن ليسوا كذلك. وبالتالي تصبحون معدودين من «المعتدلين». لأن صفتكم كمثقفين تجعلكم تفهمون وجهات النظر كلها، وتبددون سائر أنواع سوء التفاهم. فأنتم تعرفون ما يعرفه «من هم فيه»، ولكنكم تدركون أسئلة الذين «ليسوا فيه». ولما كنتم تفهمون لغتهم، تردون عليهم ببذل جهد ضئيل في الترجمة: نعم، حرية المعتقد، والحق بالاختلاف، والمساواة بين الجنسين، والديمقراطية، نحن عندنا كل هذه الأمور، في حالة وجود بالكمون على أية حال. «ينبغي أن نعرف كيف نتفاهم» يضيف الذين هم فيه، إلماحاً منهم إلى «التراث الحقيقي»، إلى «الإسلام الحقيقي». ثم يقدمون تنازلاً طفيفاً باتهامهم حفنة من المتطرفين. وتنطلي الحيلة وتصبح ناجزة. يأتي دور من هم ليسوا فيه، ولكن ممن هم من ذوي الإرادة الطيبة وممن تعتمل فيهم الرغبة في التنكر والارتداد على أفكارهم المسبقة، وعلى قصر نظرهم، وعلى تمركزهم الغربي على ذاتهم. وتبقى بعد ذلك خطوة واحدة إذا تمت انقلبَتْ القِيَم: تُتَّهمُ العلمانية بكونها ديناً جديداً، ويدور الكلام عن طغيان حقوق الإنسان ـ فهي فكرة، كما هو معروف عند الجميع، متمركزة عرقياً على الذات بشكل رهيب ـ ويُنادى بإعادة النظر بالمفاهيم المتحجرة الجامدة. يمكن أن تتيح هذه «الوضعية» الفكرية، أخيراً، الحصول على وظيفة عمل مرموقة في الولايات المتحدة، نظراً لفرط ولوعهم بها، أو حتى في فرنسا، حيث يسبب مفهوم الخبرة من الفتك والتلف بمقدار ما يسببه مفهوم الثقافة. هكذا يتمكن الخبير بالثقافة الإسلامية ـ إذا كان متمكناً قليلاً من مفردات الفكر اللائق سياسيا ـ الذي يتخذ هنا شكل الإسلام «المعتدل» ـ من جعل الآمال تُعقَد عليه.
لنعقد هدنة مع السخرية. لئن لم يمتلك المثقفون المسلمون جرأةَ القرن الثامن عشر، فهذا أمر يمكننا فهمه. فالإسلام، من جهته، متأخر بعدة قرون عن المسيحية، وبوسعنا توقع تطوره خلال القرون القادمة (إنها مسألة قدرة على الصبر). ثم أن النكسات مُتَوَقَّعة دائماً في مثل هذه الأمور. ونحن نرى اليوم تحت اسم (مسيحية) تعايشَ فلسفات ذات منحى إنساني، وأصوليات شرسة. غير أن ما يفاجئنا من المثقفين المسلمين نسيانُهم أن العالم الإسلامي عرف قرنَه الثامن عشر منذ القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر للميلاد، حيث اتخذ الشعراء العظام الإيرانيون مواقف هرطوقية تجاه مبادئ الإسلام، مثل الفردوسي، في القرن الحادي عشر [مؤلف الشاهنامة 932 ـ 1020]، وعمر الخيام في القرن الحادي عشر، ونظامي في القرن الثاني عشر، وسعدي والرومي [جلال الدين] في الثالث عشر وحافظ في القرن الرابع عشر. أضف إلى ذلك الحلاّج في القرن التاسع، صاحب المقولة الرمزية «أنا الحق»، والسَّهْروردي في القرن الثاني عشر، وهما فيلسوفان إيرانيان حُكم عليهما بالموت لأفكارهما الهرطوقية.
عندما لا ينسى المثقفون المسلمون أولئك الشعراء والفلاسفة، ينسون الإشارة إلى أنهم كانوا هراطقة، ويقدمونهم بصفتهم كانوا من مفكري الإسلام وشعرائه. وعمر الخيام، الذي تتضمن رباعياته أفكارا لا دينية، تقدّمه الكتب المدرسية الإيرانية بصفته واحداً من علماء الرياضيات الإسلاميين. لقد كان فعلاً رياضياً عظيماً وفلكياً وشاعراً، ولكنه كان بخاصة صاحب فكر متحرر وذواقة محب للحياة واللذات. إن المثقفين المسلمين الذين أحكي عنهم موجودون. وتأثيرهم ملموس، لا في فرنسا فحسب منذ نحو عشرين سنة، ولكن في بلادهم الأصلية أيضاً. وفي إيران، لا يكف الملالي عن التنويه بالاهتمام الذي لدى العالم كله بالقرآن ويقولون: يعكف العلماء الأكثر اطلاعاً وثقافة في أكثر الجامعات الغربية شهرة على القرآن ليكتشفوا فيه مفتاح ألغاز الكون: ذلك أن كل ما لا يدركه العلم موجود في القرآن. وتجعل سلطة التكرار وقوة الإعادة من الصعب عدم تصديقهم. فعندما وصلت إلى فرنسا كنت أتصور أن الاهتمام الرئيسي في الجامعات الفرنسية ينصب على الإسلام والقرآن. إن منبع هذا التلاعب بعقولنا نجده في تصرفات بعض علماء الإسلاميات والاجتماعيات المسلمين المتباهين بشهرتهم الغربية في بلادهم الأصلية. لا أجد صعوبة في تصور الأصداء والانعكاسات التي سَيُحدِثها ـ أو أحدثها وانتهى الأمر ـ في بلدان المسلمين الجدلُ الدائر في فرنسا حول الحجاب. سيهتف الملالي إعجاباً: «عودة الغرب إلى الحجاب»! وسوف يضيفون: «حتى النساء الغربيات، وهن رمز التهتك والحياة المنحلة، بدأن يفهمن فضائل الحجاب الإسلامي».
يُقدّمُ الجدلُ حول الحجاب، بسبب التجاوزات الإيديولوجية التي يتيحها، والتأويلات غير الموضوعية التي ستتخذه موضوعاً لها في البلدان ذات الحكومات التيوقراطية، يُقَدّم ضمانةً لظلامية تلك الحكومات وطغيانها. ينبغي على المثقفين الفرنسيين، المجاهرين بعدائهم لمدرسةٍ علمانية لا تتسامح مع القاصرات المحجبات، أن يدركوا كيف أن التزامهم بهذا الموقف سيكون داعماً للديكتاتوريات الإسلامية. أما تغنجات الساذجات المحجبات في فرنسا، فإنها تشكل تشجيعاً على قمع سائر النساء اللواتي يحاولن في البلدان المسلمة التخلص من سلطان الحجاب التوتاليتاري، مخاطرات بحياتهن. عندما يعلن بعض المدافعين عن الحجاب: «أن زوجتي وابنتي لا ترتديان الحجاب» ننتشي ونُفْتَتن، لا بل نلاحظ بالمناسبة ـ مع رسم ابتسامة خلابة ـ أنهم تناولوا كأساً من النبيذ أو رووا حكاية خليعة قليلاً. لكن غالباً ما يكون هؤلاء هم أنفسهم الذين نشروا بذورَ الشعارات المنادية بالحجاب «بكونه مطالبة بهوية جديدة». ومنذ نحو عشرين سنة، يدافع هؤلاء عن (حق) مُدَّعى للفتيات المسلمات في فرنسا بالمطالبة بارتداء الحجاب.
لقد أسهموا بكلماتهم المغشوشة، من دون أن نشعر، بإشاعة جو غريب ووبيل تنمو فيه وتتفتح أكثر الأوضاع تناقضاً. فالحرية تصبح حرية استلاب ذاتنا. والهوية تصير إلى الهوية الدينية (يطلقون عليها اسم «ثقافة» لجعلها تساير زمنها) ويحاولون، تحت ستار الحديث بلهجة الاعتدال (دعوا الفوارق تعبر عن نفسها)، إضفاء ألوان جذابة وطبيعية وعصرية على الأشكال العتيقة للاستلاب والتهميش.
تحوم فوق الفكر الفرنسي، منذ بعض الوقت، رائحة غريبة من المسكونية (7) أرى فيها ـ بين عوامل أخرى ـ تأثيرَ المواعظ التي يجترها المثقفون المسلمون. لقد أفلحوا في فرض بعض التصورات، ونجحوا بجعل بعض التوكيدات خارج متناول أي مُساءلة أو استجواب.
كنت أستمع ذات يوم ـ من الإذاعة ـ إلى ممثل رابطة حقوق الإنسان وهو يصرح بما خلاصته أن العلمانية لم تفرض على ألبسة التلامذة أية قيود، وأنها لم تمنعهم أيضاً من عرض رموز انتماءاتهم الدينية؛ وخلص إلى القول بأنه لا يمكننا منع فتاة مسلمة من توكيد خيارها الديني بارتداء منديل إسلامي.
لنتوقف قليلاً ولنفتح معترضتين: فاستعمال كلمات مثل «منديل» أو «وشاح» إسلامي، يستهدف وضع الحجاب في الدروج المُطَمْئِنَة لخزانات الملابس الأكثر تقليدية، وهذا الاستعمال ينم عن جبن دِلالي، وعن خدعة بلاغية بائسة، تفصح كثيراً عن حال الخراب الذي وصل إليه الفكر النقدي الراهن. ولكن لنأت إلى ما هو مهم: ليس هنا ما يُحرِج ممثلَ رابطة حقوق الإنسان. فواقع أن يكون رمز انتماء ديني هو أيضاً رمز للتمييز الجنسي، وواقع أن تعلن فتاة مسلمة إيمانَها عبر الحجاب لا يثير، لدى ممثل الرابطة، أيَّ إشكال. فهل يظن، ببساطة، أن الحجاب من اختيارها، كما يقولون في التلفزيون؟ من أين جاءت هذه «الحرية» وهذا «الخيار»؟ وهل إن التمييز الجنسي والحط من شأن الجسد منذ الطفولة هو شكل من أشكال التوضيب والتحضير أقل خطورة من التصنيف بواسطة الشّيَع والطوائف؟ وهل سيكون علينا ـ قريباً ـ إعلان رأينا والتصويت على سن الرشد الديني للبنات، لكون المسألة أقل استعجالاً بالنسبة للصبيان؟ أيكون بوسعنا قريباً أن نقرر في أي عمر يكون بوسع البنات «اختيار» ارتداء الحجاب؟ ثلاثة عشر عاماً أو تسعة أو سبعة أعوام؟.
هل المثقفون الإسلاميون هم الأكثر أهلية لإعطاء دروس في التسامح والعلمانية، حتى يقدموا اليوم على الادعاء بتعريف مبادئ التسامح والعلمانية، عبر تجديدها؟ لديهم هذا الادعاء على أي حال، ومهارتهم بذلك كادّعائهم. وهم يعرفون اللعب على وتر الشعور بالذنب وتأنيب الضمير المهني لدى عدد من المثقفين الفرنسيين، ويريدون إعطاء الشباب المسلمين الرغبة بقلب معنى الرموز والإشارات. «الحجاب لأنني أستحقه تماماً». هذا هو المضمون الإعلاني للرسالة التي يمررونها. لكن المسألة ليست مسألة مستحضرات تجميل. وهؤلاء المثقفون المسلمون هم أدوات تحرر مزيف، أدوات تحرر في الخيال. ويقدم إلينا التاريخ نماذجَ كثيرة من هذا القبيل. إن المطالبة بما فرضَه سلفاً علينا الجهلُ والعنصرية والأحكامُ المسبقة أو احتقارُ الآخرين، هي الحل الذي يلجأ إليه المُهَمَّشُون المستعدون للانخراط في أعمال عنيفة وميئوس منها في هذه الدنيا. أما من يوحون إليهم بمثل هذه الأفكار فهم إما مهلسون وأصحاب رؤى وإما خبثاء، ولكنهم أيضاً، وفي بعض الأحيان، إما محرِّضون أو مداورون أو مفسدون.
يجب علينا أن نتذكر، لكي نحتفظ بهدوئنا، أن المناقشات حول الحجاب في المدرسة تتعلق بحدَث أقَلّوي على وجه الإطلاق. وقضية الحجاب ليست مطروحة في الأكثرية الساحقة من المدارس والصفوف. ويجب التذكير، أيضاً، بأن أكثرية المهاجرين الكبرى أو المواطنين من ذوي الأصول المسلمة يقولون بأنهم غير معنيين بالمسألة الدينية. ومع ذلك، أتكون المطالبة بالحجاب ظاهرة يمكن التفكير باختفائها تلقائياً عبر السنوات والأجيال؟ كلا بالتأكيد. والمثقفون المعارضون لطرد الفتيات المحجبات من المدرسة بذريعة أن هذا الطرد سيفاقم من أوضاعهن، بينما يتعلمن في المدرسة كيف يتحررن، هؤلاء يخطئون بأمرين: بالهدف الذي يسددون صوبه، وبالعصر الذي يعيشون فيه، في آن معاً. لأن الموافقة على ارتداء الحجاب في المدرسة سيكون تشجيعاً على ارتدائه هنا في فرنسا. وسيعيد المراهقات المقيمات الأحياء المقفلة وفي الضواحي إلى نير العادات الإسلامية ويجعل تطلعاتهن المشروعة إلى المساواة أكثر صعوبة. ولقد رأينا ـ سلفاً ـ كيف تعرضت بعض من رفضن ارتداء الحجاب للاعتداء عليهن بعنف ولنعتهن بالعاهرات. فهل سنسمع قريباً في الضواحي من يقول مدافعاً عن رجل متهم بالاغتصاب: «البنت هي التي تسببت في ما جرى لها. ولو أنها لم ترغب بأن تُغتَصَب، لارتدت الحجاب»… إذن الاغتصاب أو الحجاب.
لأن لغة الحزم لم تُستَعْمَل ـ على وجه التحديد ـ منذ عشر سنوات أو عشرين، استطاع تيار فكري إسلامي ومناهض للعلمانية أن ينمو ويَتَجَسَّد. كان ينبغي القول منذ زمن بعيد، إن الوسم «الثقافي» والتمييزي لأجساد البنات القاصرات من قبيل الختان والحجاب هو أمر ممنوع بتاتاً.
هذا المنع يجب أن يسبق كل جدل حول العلمانية: يجب أن يُحمَى الأولاد خارج المدرسة. وإذا فُقدت هذه الحماية، فإن أولاد المهاجرين وأحفادهم سيكونون فرائس موصوفة للتبشير الإسلامي، نتيجةً للظروف القاسية التي يواجهها آباؤهم، ولكآبة بيئة حياتهم اليومية. وبدلاً عن مناقشة حفنة من الإسلاميين حول الحجاب في المدرسة، يجب على المسؤولين الاهتمام بأوضاع المراهقات القاصرات، ضحايا التجاوزات الجنسية، وتولي شؤونهن ومتابعتهن بواسطة المساعِدات الاجتماعيات. لأن إجبار القاصرات على ارتداء الحجاب، يعني التصرف بأجسادهن، وإغواءهن جنسياً وإفسادهن، وهذا ما أعود إلى تأكيده أيضاً وأيضاً، كما يعني وضعهن في سوق الجنس بأكثر الوسائل فجاجة، وإخضاعهن لسوء معاملة نفسية جنسية، وإحداث صدمة لديهن تترك سِمتها على أجساد نساء المستقبل وعلى عقولهن ونفوسهن.
كيف لنا أن ندهش من انتشار الحجاب ـ حتى غدا دُرْجَة ـ ونحن نعيش في دنيا وفي عصر حقائقهما كلها «مُحَجَّبة»؟
إن مسألةُ الحجاب تحجب مسائل جوهرية ليست دون صلة بها مع ذلك.
لا يأتي المهاجرون كلهم من بلاد تنتشر فيها اللغة الفرنسية، والذين يأتون من بلاد يتحدث أهلها الفرنسية.لم يتعلموا كلهم في مدارس فرنسية. ولا يتحدث كثيرون من المهاجرين في فرنسا منذ سنوات بعيدة اللغة الفرنسية، أو أنهم يعرفونها بشكل سيء.
يستحضر المسؤولون الفرنسيون بمناسبة ومن دون مناسبة الفرانكفونية، لكن سياسة الدفاع عن اللغة الفرنسية خارج فرنسا لا نجد لها تطبيقاً عملياً داخلها. إنه من واجب فرنسا أن تضع بتصرف المهاجرين مؤسسات جمهورية ومجانية لتعليم الفرنسية. ليس هذا فحسب. بل أن تجعل تعلمها إلزامياً لكل المهاجرين الراشدين الذين لا يعرفون اللغة. أيكون بالمستطاع العيش في بلد ما بكرامة دون المقدرة على التعبير بشكل صحيح؟.
بالإضافة إلى ما سبق، يجب أن يشمل تعليم الفرنسية للمهاجرين الراشدين أهدافاً تتجاوز الناحية اللغوية المباشرة، بحيث يمكن جعله مناسبة لفهم المؤسسات الجمهورية، والقيم الجوهرية للديمقراطية ولتاريخ فرنسا منذ الثورة. سيساهم تعليم المهاجرين الراشدين ـ بشكل غير مباشر ـ بدمج الجيل الثاني عن طريق الردم التدريجي للهّوة الفاصلة بين الآباء والأبناء. إن هذه الهوة، التي تعزز تهميش الآباء والأبناء، تشكل عاملاً من عوامل الجمود ومصدراً للعنف. وبالفعل يتخذ العنف الناجم عن الحرمان عدة أشكال بالفعل: النكوص، والانطواء على الهوّيات، والتشنج الديني، وغيرها من أشكال العنف والجنوح. وأول ضحاياها صغار الشباب، والفتيات بخاصة.
هل ما سبق قوله تمنيات طيبة لا يمكن تحقيقها، وتكلفتها مرتفعة؟ كلا بالتأكيد. يخضع المهاجرون لقوانين الضرائب كالمواطنين الآخرين. أفلا يمكن أن نعتبر أن هذا الأمر يعطيهم أيضاً حقاً بتعلم اللغة وبدراسة تقدمها لهم الجمهورية؟ إن فرنسا تُعلّم أبناءها؛ فلماذا لا ينطبق هذا الحق على الجيل الأول، وعلى المهاجرين الراشدين، المحرومين من تربية ديمقراطية فعلية، وهم الذين عانوا طوال سنوات في بلدانٍ تُنتَهكُ فيها الحقوق الإنسانية كلها؟
هنالك من لا يكفُّون عن استنكار فقدان الأمان والعنف الناجمين عن ممارسات الشباب والمراهقين ذوي الأصول المغاربية والإفريقية في الغالب. ولكن نادراً ما يقولون لنا شيئاً عن العنف الذي لا حدود له الذي يمارسه المجتمع على هؤلاء المهاجرين منذ نعومة أظفارهم. أيوجد ما هو أكثر إثارة للغضب في نفس أي طفل من رؤية أبويه مُهانَيْن أو مُهَمشَّيْن في مجتمع توقعا منه استقبالهما وتحريرهما، بعد أن قاسيا العذاب وبذلا جهوداً كبيرة ليتمكنا من مغادرة بلدهما الأصلي؟.
يبدو لي أن تحسين شروط استقبال المهاجرين، وتعليمهم، واندماجهم، يشكل أولوية عاجلة جداً. ويوجد ما يكفي من الفرنسيين المستعدين للعمل والبذل، من معلمين وأساتذة متقاعدين قادرين على المشاركة في مشروع ينبغي أن يتجاوز كثيراً من ناحية اتساعه بعض دروس محو الأمية الموجودة حالياً. نلاحظ وجود مؤسسات من النوع الذي نقترحه في بعض الولايات الأميركية. وإذا عَمّمت فرنسا إقامة مثل هذه المؤسسات يكون بوسعها القيام بدور طليعي، مبرهنةً بذلك عن وفائها لصورتها كدولة للثقافة والمساواة. لقد استمعنا مؤخراً إلى رئيس الجمهورية وإلى محافظ باريس يذكّران بضرورة بذل مثل هذا الجهد: أيكون بوسع الأفعال أن تتبع الأقوال؟ فقد تتمكن سياسةً متمركزةٌ على مسألة تعليم المهاجرين تعليماً عاماً وعلمانياً، من التوصل إلى إدخال المبادئ الديمقراطية إلى قلب العائلات، والإيحاء إلى أولاد الهجرة باحترام آبائهم والأنظومة السياسية التي استقبلتهم، مزيلةً بذلك واحداً من أكبر أسباب العنف.
ينبغي أن يكون تعلّم اللغة مواكباً أيضاً لتعلم الديمقراطية واكتساب الوعي الديمقراطي. هنالك ثلاثة مبادئ جوهرية من أجل حسن اشتغال الديمقراطية يجب على كل فرد أن يستبطنها: وهي العلمانية والتسامح والاحترام. ولكن أية علمانية؟ والتسامح إلى أي مدى؟ واحترام ماذا؟.
لا تأتي الديمقراطية من تلقاء نفسها: بل هي تُكْتَسَب وتدافع عن نفسها، وهي في الغرب ثمرة قرنين من النضال. وهي تُقَدَّم اليوم [كهدية] إلى المهاجرين الذين غادروا، في سن الرشد، بلداناً أنظمتها متفاوتة في مستوى ديكتاتوريتها.
يجب أن تُنال الديمقراطية عن جدارة، ويتطلب استبطان قيمتها وقتاً وتفكيراً وشجاعة.
لا يوجد أثر للعلمانية، كقيمة جمهورية، لا في عقلية أكثرية المهاجرين الساحقة، ولا في ممارساتهم العملية، ولا في كلامهم. أن تكون علمانياً، يعني الاعتراف بأن المواطنين جميعاً، بصرف النظر عن معتقداتهم، وعن أصولهم، وعن ظَرفهم الاجتماعي، وعن جنسهم، متساوون في نظر القوانين الجمهورية! والقبول، على وجه الخصوص، بوجود أماكن ومؤسسات لا مكان فيها للانتماء الديني ولا لطقوس ممارسة هذا الانتماء. إنه من المفيد بقاء الإله خارج باب المدرسة. أن ترغب نساء راشدات بارتداء حجاب في الشارع، فهو أمر يخصهن. لكن يجب وجود أماكن تطبق فيها قوانين الجمهورية على الجميع وأن تكون فوق القوانين الدينية، حيث لا ينبغي لمبادئ الإسلام ولا لسواه من الأديان أن تكون ظاهرة.
التسامح والاحترام كلمتان تستعملان في غير موضعهما. لطول ما نسمع ما يتردد باستمرار عن ضرورة احترام كل شيء ونقيضه، صار الأمر إلى عدم احترام أي شيء وأيا كان. وكيف نمارس التسامح دون الوقوع في النسبوية؟ أن نكون متسامحين، كما يبدو لي، يعني قبولنا بأن الآخر يمكن أن يخطئ، وأن له الحق بذلك. أعود إلى الموضوع الأكثر التهاباً، موضوع الدين. في ما يخصني، لم يهبط أي كتاب مقدس، ولا أي دين من السماء، ولا يوجد أي كلام مقدس، ويجب على سائر محاميّ الإله (من ملالي وحاخامين وخوارنة ممن أعلنوا أنفسهم بأنفسهم مفسرين للقول الإلهي) أن تكون لديهم اهتمامات أكثر دنيوية. ولكنني أقبل بإمكان أن يخطئ ممثلو الأديان وأولئك الذين يتبعونهم، وأن يفكروا على نقيض ما أفكر به. أنا لا أطالبهم إلا بنظير موقفي، أو المعاملة بالمثل: أي أن يحترموا حقي بألا أفكر مثلهم، أن أفكر بشكل باطل، وأن أخطئ قياساً على معاييرهم. ما أحترمُه ليس عقيدةَ الآخر، عقيدة لا أنتمي إليها، ولكن أحترم حقه في أن يؤمن بها، حقه بالحرية. ما يجب على كل منا احترامه هو حق الكائن البشري بصفته فرداً حراً في أن يفكر وأن يحيا حياته على طريقته، دونما أي قسر أو إكراه.
أجد من بواعث القلق، من وجهة النظر هذه، ميل اللغة السياسية إلى حبس المهاجرين في طوائفية ذات أساس ديني وعرقي، وذلك تحت تأثير علم اجتماع رخو.
يقال دائماً، على سبيل المثال، هنالك أربعة ملايين مسلم في فرنسا.
ولكن أكثرية هؤلاء «المسلمين» ـ أكرر ـ يعلنون أنهم غير مهتمين بكونهم متدينين، وقد غادر كثيرون منهم بلدانهم هرباً من الإسلام. هم محكومون بالموت في بلادهم، فهل سوف يرون أنفسهم وقد كُتب عليهم الأسر في الطوائفية الدينية والتزام الصمت في البلدان الديمقراطية؟
ينبغي ألا تصبح الضجة المثارة حول الحجاب وسيلة للتملص من بحث المسائل الحقيقية وهي اللامساواة الاقتصادية، والسكن، والاستبعاد والتعليم. وينبغي على المسؤولين السياسيين ألا يتقاعسوا عن ممارسة مسؤولياتهم، وألا يهملوا المهاجرين، وألا يتركوهم لمصائرهم في أحياء المعازل، ليبتعدوا كل يوم أكثر فأكثر عن المجتمع الفرنسي! وألا يُتيحوا قيام عوالم ثالثة مصغرة في أماكن محددة كما هي الحال في بريطانيا والولايات المتحدة.
ما أطلبه هو زيادة الاهتمام بالمشاكل التي تواجه المهاجرين، وهو اهتمام تتعاظم ضرورته، لأن أوروبا ـ كما يبدو ـ ستكون بحاجة من اليوم وخلال عدة سنوات قادمة إلى يد عاملة أجنبية جديدة. وإذا انعدم هذا الاهتمام، فسوف يستفحل العنف واللاأمان، رغم الترتيبات المقرر اتخاذها من عدم إفلات من القصاص، ومن زيادة قوة الشرطة وتعزيزها، وبناء سجون أكثر اتساعاً. لم تردع أيةُ أنظومة قامعة قط الجانحين، ولا أتاحت فعلاً خفض مستوى العنف. نرى هذا بوضوح في بلاد العالم الثالث، حيث يعاقب أي انحراف أو أية مخالفة يرتكبها المراهقون والأولاد بشدة، ومع ذلك يشكل العنف وفقدان الأمان جزءاً مقوِّماً من المجتمع.
في غياب مثل هذا الاهتمام بأسباب العنف الحقيقية، سوف نشهد نموّ الخطاب الإسلامي وخطاب اليمين المتطرف، متشاركين بحذق، متواطئين موضوعياً، واحدهما يغذي الآخر بالتبادل.
الخلاصة، لا أستطيع إلا أن أتوجه إلى الحس السليم وإلى الشعور بالمسؤولية. هذا النداء موجه إلى الفرنسيين جميعاً والمهاجرين القادمين من البلدان المسلمة، سواء أكانوا لاأدريين أم ملحدين أم مؤمنين، ولا يشعرون بكونهم معنيين، لا من قريب ولا من بعيد، بجدالات كنا نتمنى أن تكون قد ماتت، مثل مكان النساء في المجتمع؛ وهو موجه إلى الذين لا يجدون أنفسهم أيضاً في المرجعيات المشوشة لهوية مشتركة مزعومة، لا يشكل الحجاب إلا واحداً من رموزها؛ والذين لا يريدون أن يظهروا كمتضامنين مع من يمارسون قسراً همجياً يفرضون بواسطته على أجساد البنات القاصرات وعلى نفوسهن علامات لا تمحى تصيبهن بصدمات عميقة.
ينبغي على هؤلاء جميعاً خرق جدار الصمت، هذا الصمت الذي يمكن أن يُعتَبر برهاناً على تواطئهم أو على عدم اهتمامهم.
يتوجه هذا النداء أيضاً إلى المثقفين الفرنسيين وإلى الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة. ليكن باستطاعة اللواتي والذين هم اليوم ممثلو اللغة والفكر الفرنسيين إدراك خطورة وسرعة التقهقر الذي ينم عنه وجود جدل حول «الحجاب في المدرسة». ليكن بمقدورهم التخلي عن الحذر، والجبن، أو الشكوك التي أثارتها لدى كثيرين منهم تجارب التاريخ المريرة، أو إدراك إخفاقاتهم أو أخطائهم. ليكن بوسعهم العودة إلى مثالية عصر التنوير دون أن تعميهم أنواره، والعثور على آثار التقدم هناك حيث توجد، دون أن يغرقوا في نسبوية تدعو إلى الاستقالة والتخلّي. فليكن باستطاعتهم ـ أخيراً ـ أن يرفعوا الرأس والنظر، وليسترجعوا حاسة التوجه الصحيح وليطالبوا بأفضل جزء من أجزاء ميراثهم، لكي لا تغدو أوروبا نسخة رديئة من الولايات المتحدة.
يتوجه هذا الخطاب ـ في آخر المطاف ـ بشكل خاص إلى النساء، إلى النساء جميعاً مسلمات وغير مسلمات، وإلى الأمهات. لقد انتهى زمان الإذلال والاستلاب. إن طلب الوسائل والطرق المؤدية إلى تحرير النساء، من الذكور المؤتَمنين على العقائد الدينية، يشكل قِمّةَ الإذلال والاستلاب. ويقع على عاتق النساء، وبخاصة النساء القادمات من بلاد مسلمة، توكيد عدم حاجتهن إلى المساومة حول شروط وجودهن. إنهن كائنات ذوات حقوق كاملة! ومن هذا المنطلق لا يستطعن تحمل وجود بنات صغيرات ـ لا في فرنسا ولا في غيرها ـ يُرَبَّيْن في ظل الحجاب، وفي إطار روح السلبية والدونية، كما لا يستطعن تحمل جعل الثقافة ذريعة وبديلا عن الدين، ولا أن يكون الدين ذريعة للتمييز الجنسي.
ولكن هذا النداء موجه أيضاً إلى الآباء المسلمين الذين لا يتمنون مستقبلاً لبناتهم تحت الحجاب.
أطلب أن نُصِرَّ جميعاً، نساءً ورجالاً، فرنسيين ومهاجرين، على حكومة الجمهورية أن تُشَرّع لكي تمنع القاصرات من ارتداء الحجاب في المدرسة وخارج المدرسة، وأن تدرس الحلول اللازمة لكي تأخذ على عاتقها المراهقات من ضحايا التبشير الإسلامي.
عندما أستعيد ذكرى البنات الصغيرات المحجبات وصورهن في المدارس الإيرانية، وعندما أفكر باللواتي يُستَعْمَلْنَ في فرنسا رغماً عنهن، أو بطوعهن، من جراء وقوعهن تحت تأثير تلاعبٍ إسلاموي رهيب ليصبحن معه رموزاً وشعارات للدعائيين المنادين بـ«الهوية الحجاب»، يتنازعني الحزنُ والغضبُ.
هل سنصحو أخيراً؟

الهوامش:
(1) تشير الكاتبة هنا إلى النجمة الصفراء التي كانت تدل على اليهود. (م)
(2) الواقع أن هذه ليست آية قرآنية، بل حديث نبوي. (المعربة)
(3) تشير الكاتبة هنا إلى أن كلمة laïcité تترجم في المغرب العربي بـ«لائكية». ولكن يبدو أنها لا تعرف أن المقابل المشرقي لـ« laïcité» هو بالضبط «العلمانية». (المعربة)
(4) ماريشال فرنسي أنشأ نظام الحماية على المغرب من [1912 ـ 1925]. (م).
(5) كاتب فرنسي كتب رواية هاجم فيها الإسلام والمسلمين والمسيحيين أيضاً. (م)
(6) جيوردانو فيلسوف إيطالي 1548 ـ 1600. أول المدافعين عن أطروحات كوبرنيك. وكان يدعو إلى إنسانية حلولية تؤمن بوحدة الوجود ـ الله والطبيعة شيء واحد والإنسان مظهر للذات الإلهية ـ اتَهمته محاكم التفتيش بالهرطقة وأُحرق حياً. (م)
(7) نزعة إلى توحيد الكنائس، مقصود بها هنا الأديان. (م)

العنوان الأصلي
BAS LES VOILES !
CHAHDORTT DJAVANN

GALLIMARD
2003

شاهدورت جافان
فَليُنزَع الحجاب
ترجمة: فاطمة بالحسن
مراجعة: إلهام سعد الله
الناشر:
دار بترا للنشر والتوزيع

-فلينزع الحجاب
-تأليف: شاهدوت جافان
– ترجمة: فاطمة بالحسن
– الطبعة الأولى 2005. موافقة وزارة الإعلام /79602/
– الناشر: بترا للنشر والتوزيع
سوريا ـ دمشق. 5128483
-التوزيع: دار بترا
-التوزيع على الانترنت: www.darpetra.com

*جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو استعماله بأي شكل، إلكتروني أو ميكانيكي، بما في ذلك النسخ، التسجيل، أو عبر أي أداة تخزين أخرى، من دون إذن خطي من الناشر.

نشر هذا الكتاب برعاية وإشراف رابطة العقلانيين العرب
رابطة العقلانيين العرب تسعى إلى نشر الفكر العقلاني النقدي الجذري، وهي ترحب بأن تنشر كل ما لا يجد طريقه إلى النشر بسبب جرأته الفكرية.

من منشوراتها:
23 عاما ـ دراسة في السيرة النبوية المحمدية.
تأليف: علي الدشتي. ترجمة: ثائر ديب. الناشر: دار بترا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى