ارتياحٌ كبيرٌ وحسرةٌ أكبر! وخوفٌ أن يضرسون من حصرم الأسد….
د. فاضل الخطيب
التقاء تحليل وتفسير أولئك الذين يدافعون عن النظام السوري ـ أو بالأحرى يدافعون عن مصالحهم ومنافعهم مع أولئك الذين يتمنون سقوط النظام, التقاءٌ واحدٌ في المحصلة, متابعة كلّ فريقٍ لطريقه..!
المدافعون يريدون أن يقتنعوا بأن النظام كسر عزلته وهو ثابت في مكانه لا خوف من سقوطه, ويسوّقون أمثلة كثيرة منها مؤتمر القمة العربية وزيارات الأسد لفرنسا وتركيا وإيران وروسيا ولقاءاته الثنائية هنا وهناك, ثم مؤتمر القمة الرباعية في دمشق وزيارة ساركوزي وتوقيع اتفاقيات اقتصادية عديدة لابد أن تكون سنداً خارجياً للنظام, كما يقولون أن النظام بدأ يسلك سلوكاً براغماتياً تجاه السلام مع إسرائيل وسبل التوصل لاتفاق معها, وهذا هو الضمان الأكبر لاستمرار النظام الحالي, ويقولون أن العالم غيّر سلوكه تجاه النظام.
كما إنهم يسوّقون ـ وبحق ـ أن ضعف المعارضة وصراعها واختراقاتها وعصملية تفكير بعض قياداتها وأفكارها ما هي إلاّ عوامل دعم ومبرر وجود النظام وأنه لا بديل عنه..
الطرف الآخر المتمني سقوط النظام كان يضع حججه أيضاً والتي يمكن فهمها وتعطي مبررات لتفكيره ـ كان يعتقد أن محكمة قتلة الرئيس الحريري ستكون بأسرع مما تسير, ولا بدّ أن تكون هي البداية السريعة أو المباشرة لسقوط النظام, كما أنهم عوّلوا على الغرب لتقديم مساعدة ما أو الضغط أكثر على النظام بغية سقوطه, وربما عوّل البعض على تحركٍ داخلي يخلط الأوراق داخل مراكز صنع القرار في النظام ـ أي انقلاب في القصر قد يكون بداية لتغيير لاحق وشامل.
خطأ الموقفين كان من عدم تقدير دقيق لسياسة الغرب ومصالحه, وكان يعتقد البعض أن حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية التي يعيش عليها وفيها الغرب هي قواعد يتعامل فيها مع العالم كما يتعامل فيها مع مواطنيه, رغم أنه هناك أمثلة عديدة تؤكد دحض هذا الرأي من مجزرة حماة وحتى رواندا وليس آخرها دارفور..
كما أخطأ البعض في تقديره قوة المعارضة والتي كانت وما زالت تصارع بعضها البعض سواء داخل التنظيم الواحد أو بين التنظيمات والتجمعات مع بعضها,
ورغم أنه مرت فترات كان وجود النظام قاب قوسين وكانت عوامل سقوطه كبيرة, لكن الظروف الإقليمية ودفاع الأصدقاء المستميت عنه سواء في لبنان أو إيران أو إسرائيل كانت قد أجهضت عوامل نجاح سقوطه ـ لاحظ آخر مشهد لها وهو عملية تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل والتي كانت هدية كبيرة ونصرٌ لحزب الله قدمته إسرائيل بعد أن نزلت شعبية حزب الله في المجتمعات العربية كثيراً بعد غزوة بيروت في أيار/مايو الماضي.
والمتتبع لأحداث المنطقة يرى أن إسرائيل مثلها ـ مثل سوريا وإيران لا تريد تجريد حزب الله من سلاحه وتريده أن يبقى “البلطجي” الذي يعوّل عليه عند الحاجة.. كما تريد أن تبقى إمارة حماس في غزة.. وقد لا يكون مستغرباً كثيراً إن ظهر يوماً أن إسرائيل تربطها علاقات مصالح مشتركة مع إيران ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ أكثر مما نتوقع..
وإذا أضفنا الهدف الرئيسي للسياسة الفرنسية في المنطقة منذ وصول الرئيس ساركوزي وهو الدفاع عن أمن ومصالح إسرائيل والحصول على مكاسب ومنافع اقتصادية ـ إذا أضفنا ذلك قد يكون أكثر وضوحاً قراءة لوحة الـ”بازل” الذي يرتب أجزاءها أصحاب المصالح الإقليمية والأوروبية.. وحول استمرارية بقاء النظام وتمديد حياته فصلاً آخر لا يوجد ما يدعو للدهشة و”النرفزة”, وكنت أنا بين المعارضين الذين عبرّوا عن تصوراتهم قبل أكثر من سنتين وطرحتها في مؤتمر جبهة الخلاص الوطني قبل عام في موضوع عنوانه “دمشق تنتقل إلى برلين” وأن نضالنا ضد النظام قد يستمر سنوات ليست قليلة.. وأعتقد أنه يجب تمديد هذا التصور لسنوات أخرى.. رغم أنني توقعت في أوقات أخرى أن سقوط النظام قد يكون أسرع مما تصورت, لكن ذلك مع الأسف لم يكن صحيحاً.
وأعتقد أن الفضل الأكبر لكسر العزلة عن سوريا يعود إلى مجموعة من الفريق الاقتصادي داخل النظام ـ وقسمٌ منهم من الرفاق شيوعيي الجبهة الوطنية التقدمية ـ والذين اعتمدوا في تحليلهم على معرفتهم الماركسية في محاولتهم الناجحة هذه. ـ كان لي صديقٌ ورفيقٌ رحمه الله يقول: إذا الشيوعي بيصير وسخ يستخدم الديالكتيك ومعرفته الفلسفية لتعميق وساخته ـ, وكان الانفتاح العلني على إسرائيل هو العنصر الأول رغم أن مباحثات ولقاءات مباشرة وغير مباشرة لم تتوقف خلال أكثر من ثلاثة عقود بين النظام السوري وإسرائيل, ونجح الرفاق بتقديم عروض وإغراءات لشركات اقتصادية أوروبية وخاصة فرنسية, واستغلال سفارات النظام خلال السنوات الماضية لشراء بعض الصحافيين ودعواتهم لسوريا وتقديم خدمات هنا ورشاوات هناك, كما ساعد ذلك السياسة الغير ذكية وغير صادقة للولايات المتحدة في المنطقة, وساهم أيضاً في كسر عزلة النظام دعمه مباشرة أو غير مباشرة لتنظيمات الإرهاب الإسلامي المتطرف من الجزائر ومصر مروراً بغزة والأردن ولبنان والعراق ومحاولة إظهار نفسه أنه يقوم بدورٍ فعّال في مكافحة الإرهاب الديني الأصولي, وكان يفتعل الأحداث ليس فقط في لبنان بل حتى في سوريا نفسها ليخبر الغرب وخاصة أوروبا القريبة أنه لا بدائل عنه سوى الدمار وتهديد مصالح أوروبا وأمنها..
وأعتقد أن محاولات “اقتصاديي الجبهة التقدمية” في فك العزلة السياسية حقق شيء من النجاح لكنه ليس بالتأكيد أنه يحمل ضمان استمراريته, وقام الرفاق بإعادة تقديم “الجزرة السياسية” التي كان يقدمها الغرب للنظام وبعد تذوقها ـ قاموا بمحاولة ردها وتذويقها كـ”جزرة إقتصادية منفعية” وهو ما يعطي الثقة للتحرك السياسي..
الذي كان له شيء من الاهتمام في الفلسفة الماركسية يدرك ويعرف أن قانون التحولات الكمية لا بدّ أن يؤدي إلى تغيرات نوعية. لكن قانون التغيرات(التحولات) الاجتماعية والذي يحصل بناءً على عوامل داخلية وخارجية ويعطي العلاقات الداخلية الأهمية الأولى والأكبر والمقررة لنجاح التغيير ـ أعتقد أنه في هذا العصر من المفيد إعادة النظر فيه, وإن العوامل الخارجية صارت أكثر أهمية وليس مبالغة إن قلنا أنها مقررّة لأي تغيير يحدث في الداخل..
وعلى كل حال من المبكّر القطع التام باستمرارية هذا الرقص والغزل وهذا العهر المبتذل, وحتى تتضح الأمور أكثر نسافر سوية مع إحدى رموز النظام السوري لباريس خلال زيارة الأسد في تموز/يوليو الماضي, وبعد أن يودّع زوج المستورة حبيبته في المطار تسأله:
ـ شو بجيب لك من باريس يا حبيبي؟
+ جيبي لي شي بنت فرنسية شقراء!
وبعد انتهاء الزيارة وعودة الغالية يسأل الزوج:
ـ كيف باريس؟ انشاء الله انبسطتي؟
+ باريس جنة رائعة..
ـ وشو اخبار الهدية؟
+ أية هدية؟
ـ الصبية الشقراء الفرنسية!
+ آه .. أني سوّيت كل شيء اللي بقدر عليه, وبعدين منشوف يا حبيبي, بنت ولا صبي بعد 9 شهور..!
ولم يمضي بعد 9 شهور على نقلة إعلان دمشق النوعية في مؤتمره المشهور حتى نقرأ تعابير وصيغٍ تدعو للتساؤل في بيان صادر في تاريخ 5 / 9 / 2008 ومما ورد في الإعلان أنه “ليس من أهدافه تعزيز عزلة النظام ومحاصرته”!!
وكانت جبهة الخلاص الوطني قد طرحت شعاراً يدعو العالم لرفع الغطاء السياسي عن النظام وهو أقلّ ما يمكن طلبه من العالم للتضامن مع مأساة شعبنا.. والسؤال الذي يطرح نفسه وبدون تجامل هو: هل ينتصر الاتجاه الذي يدفع إعلان دمشق في طريقٍ ليكون معارضة تشبه معارضة الجبهة الوطنية التقدمية؟.. ويبدأ بخطة خمسية جديدة للمناشدة والمطالبة الجريئة بالإصلاحات وتذكير القيادة بقانون الطوارئ وبالمعتقلين والمهجرين(المغتربين) والتأكيد على مطامع الإمبريالية والصهيونية…
النظام السوري منتشي وسكران بعد “كسر العزلة” وتكون ناجحة إذا استقبلته امريكا, وهو على استعداد أن يأخذ وصفة القذافي ويزيد عليها ما يطلبونه منه وسيقوم بالتوقيع والبصم على أي شيء لقاء ضمانة بقاء عرشه..
وربما سيضطر التخلي عن لبنان مقابل منافع سياحية واستثمارات في الجولان “المحرر”, الجولان الذي يقترح الإسرائيليون أن يجعلوه “حديقة سلام” سيكون بقرة حلوب للعائلة تعوّض ما فقده عن حليب لبنان, وقد يقوم النظام بإجراء بعض الإصلاحات الشكلية, لكن جوهر سلوكه في الداخل لن يتغير ولن يستطيع تغييره لأنه سيكون انتحاره..
المتتبع لكتابات بعض المهتمين بالشأن السوري والمنحدرين من أصول علوية وحتى بعض الذين يفضحون فساد واستبداد الأسرة ويقولون في النظام أفظع التعابير, يشعر المرء أحياناً وبين السطور والأفكار شيء من “التعاطف أو القلق” خوفاً من البديل..
إن الحذر الذي يشوب الشجعان القلائل والذين يعبرون عن آرائهم وهم ينحدرون من أصول علوية لا مبرر له ولا بديل يحمي الجميع بلا استثناء إلاّ تغيير هذا النظام, وأعيد تأكيد رأيي هذا والذي عبّرت عنه قبل عدة سنوات وفي موضوع بعنوان “أصوات صامتة” استناداً لمحبتي الصادقة لكل “أقلية” ـ وإعطاء المثقفين العلويين المثل واتخاذ موقفاً واضحاً وجريئاً من النظام الآن يلغي أية مبررات واعتذارات لاحقة بعد سقوط النظام والذي لا محالة آت..
ومن خدم في الجيش يعرف شخصياً أن نقيبٌ “علوي” يفرض رأيه وقراره على عقيد, وحدّثني شخصٌ أثق بكلامه وأحترمه وكان يعرف جيداً رئيس الوزراء “المنتحر” الزعبي, أنه كان في يوم من الأيام رئيس الوزراء السيد الزعبي في البرلمان وجاءه ضابطٌ برتبة نقيب وطلب منه شيءٌ كان على الزعبي أن يوقع عليه مباشرةً, وبعد انصراف الضابط الصغير نظر رئيس وزراء سوريا إلى الشخص الذي كان معه وقال “أتمنى أن تكون عندي صلاحيات نصف ما عند هذا النقيب”!!
وذكر البرلمان السوري يذكّر بما هو مكتوبٌ على أحد أبواب تواليت(مرحاض) البرلمان من الداخل “في هذه اللحظة أنت الوحيد في هذا البرلمان الذي يعرف ما يعمل!”
وعند الحديث عن أن والد حافظ الأسد كان بين الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي ووقعوا عريضة تطالب الفرنسيين بالبقاء وتقسيم البلاد..إلخ. يشبه هذا الأسد أسماء أمثاله عند كل الطوائف وفي كل المحافظات ـ لأنه دائماً وجد من يتعامل مع الأعداء ـ ومازال يردد كبار السن أسماء أولئك المتعاونون المنتفعون الانتهازيون رغم مرور أكثر من ستين عاماً على ذلك, كما سيذكر الكثيرين يوماً أسماء المتعاونين مع أجهزة قمع نظام ابناء خادم الاستعمار الفرنسي..
والحديث عن الحالة الطائفية “العلوية” لا يعني موقفاً طائفياً وتحريضاً طائفياً, لكنني على قناعة أنه لكي نتمكن تجاوز هذه “الإشكالية” التي خلقها الأسد الأب ويكرّسها الإبن الوريث, لابدَ من طرحها بصراحة وتسمية الأشياء بأسمائها, ولا يجب التهرب منها لأنها لا تنحل من تلقاء نفسها, وحلّها لن يكون إلاّ بمساعدة المثقفين المنحدرين من أصول علوية..
أما بعض الأخوة الأكراد والذين يكتبون بحرارة في الرؤوس ورشاقة في التعابير “كردستان الغربية”, “غرب كردستان” وما شابه من العبارات التي تخلق حساسية عند الغالبية العربية ودون أن تجلب منفعة لأحد سوى للنظام, من المفيد التروّي والبحث عن شعارات يمكن تطبيقها وتكون عوامل تجميع لكل مكونات المجتمع السوري بدل التخندق والبحث عن أساليب للثأر والغبن التاريخي ـ قدرنا أن نعيش سوية على هذه الأرض ـ وقد صدق أحد قادة جبهة الخلاص الوطني حين قال أن القضية الكردية قضية نبيلة لكن المحامين المدافعين عنها ضعفاء في مرافعاتهم..
أسئلة كثيرة لابد من طرحها, قبل إعادة النظر باستراتيجية التغيير من أجل بناء النظام المدني الديمقراطي التوافقي في سورية.. وأوّلها هو:
لماذا لم تفتح أبواب الدبلوماسية الأوربية والأمريكية في وجه ممثلي المعارضة الوطنية؟ يا ترى العيب فقط فيهم؟ وهل يمكن ذلك دون تطوير لغتنا وخطابات فقهائنا وسلوك ديننا السياسي, ليكون مفهوماً ومهضوماً بلغات العالم المتمدن؟ وأسئلة أكثر وأكثر لن يلغيها تجاهلنا لها..!!
البديل للنظام لن يُسمح فيه من العالم(الغرب وأمريكا) إلاّ إذا كان متوافق مع علاقات العالم المتمدن ـ المتحضر لغةً وخطاباً وقيماً وسلوكاً وممارسةً ..!!
لا الارتياح الكبير, ولا الحسرة الأكبر, ولا حموضة حصرم العنب تبقى إلاّ في الذاكرة…
وقبل أن يبدأ”كتبجية” الممانعة والصمود وبجانب أحد التماثيل القيصرية وتحت علم فلسطين(علم البعث) ـ قبل إعادة النظر بما كتبوه خلال 38 عاماً أو قبل بضعة أشهر أو ما صرّحوا فيه بالأمس عن الممانعة ـ قبل ذلك ـ أبعث لهم هذه الطرفة, خصوصاً بعد تغيير سلوك إسرائيل وأمريكا وقبل توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع إدارة”حديقة السلام”:
في شارع باتجاه واحد, يشاهد شرطي السير سيارة مسرعة بالاتجاه المخالف, ينطلق نحوها مسرعاً وغاضباً ويجهّز نفسه لمعاقبة السائق المخالف وتغريمه, وعندما يقترب يجد أن رئيس الشرطة يسوق سيارته, ورغم ذلك يبقى غاضباً مزمجراً ويتجه ليقول لرئيسه “سيدي! شايف مرة ثانية كمان بيحطوا إشارات المرور بالغلط”..!
بودابست, 9 / 9 / 2008,
خاص – صفحات سورية –