العلاقات السورية – التركية: التجاهل المتعمّـد للقضــــايــــا المصـيرية
غازي دحمان
ما من شك في أن تركيا قد شهدت منذ عقد ويزيد، حزمة من المتغيرات الجيوسياسية المهمة، كان لها دور مهم في التحولات التي طرأت على سياستها الداخلية والخارجية. وقد تضافرت جملة من العوامل في إحداث هذا النوع من التحولات، سواء ما تعلق منها بالمتغيرات الاستراتيجية الدولية ووضع تركيا في ظل المعطيات الجديدة، أو ما ارتبط بشكل مباشر بالحراك السياسي والاجتماعي الذي تجلى بأفول أحزاب كبرى وصعود نخب وفئات جديدة على مسرح السياسة التركية.
وقد انعكست هذه المتغيرات على علاقات تركيا الخارجية، وخصوصاً جوارها الإقليمي. فبعد عقود طويلة من سياسة “الإنسلاخ” التي اتبعتها تركيا تجاه الجوار العربي والإسلامي “سياسة وثقافة” واتجاهها غرباً أملاً في الإندماج في البيئة والثقافة الأوروبيتين، وما نتج عن ذلك من خيبات كان لها أثر كبير على المجتمع والهوية في تركيا، ما دفع النخب السياسية الطالعة إلى صوغ مقاربة جديدة في السياسة الخارجية تقوم على مبدأ “تعدد البعد” في العلاقات الخارجية، وفي إطاره جرى “تصفير” المشاكل مع دول الجوار، أي تحويلها إلى صفر وخاصة مع سوريا التي طالما شهدت العلاقات معها توترات كبيرة.
وفي إطار هذا التغير شهدت العلاقات السورية – التركية تطوراً مهماً، وخاصة على الصعد الأمنية والاقتصادية، فعدا عن العلاقات النامية في هذين المجالين، فقد شهدا ايضاً نوعاً من التنظيم والمأسسة بإنشاء لجان مشتركة وتطوير آليات محددة.
كذلك شهد المجال السياسي تطوراً مهماً بين البلدين تجلى في التنسيق المشترك تجاه الوضع العراقي، والتوافق على مقاربات مشتركة في ما يخص مستقبل العراق ووحدته، وكذلك التنسيق السياسي بين البلدين في إطار عملية السلام العربي – الإسرائيلي.
إلا أن هذا التطور لا ينفي حقيقة أن العلاقات السورية – التركية رغم كل ما سبق، لا تزال تدور في المربع الأمني الذي أطّره اتفاق “أضنه” الأمني بين البلدين عام 1998، والذي جاء على أثر تهديد تركيا باجتياح الأراضي السورية نتيجة إتهام أنقرة دمشق بإيواء عبد الله أوجلان زعيم (حزب العمال الكردستاني) وقد صيغ هذا الاتفاق، وبرأي الكثير من الإستراتيجيين، بما يتوافق والمصالح الأمنية التركية ولم يعطِ أية أهمية لمصالح سوريا في هذا المجال.
وما يدلل على هذه الحقيقة، أنه بالرغم من مرور أكثر من عقد على الانفتاح الكبير في العلاقات بين البلدين، فإن التقدم الوحيد الذي تم إحرازه هو ما تعلق بملف حزب العمال الكردستاني والتعاون الأمني بين البلدين في إطاره، في حين بقيت القضايا الكبرى (لواء الاسكندرون والمياه) على حالها، مع أنها هي ذاتها القضايا التي عكرت صفو العلاقات بين البلدين منذ عقود طويلة. فبالنسبة للواء الاسكندرون أو “اقليم هاتاي” بالتسمية التركية، فإن انقرة ترفض أي نقاش حوله وتعتبره أرضاً تركية خالصة وجزءاً مهماً من الجيوبوليتيكا التركية لا يمكن بأي حال التنازل عنه. أما المياه فتصر تركيا على اعتبارها موضوعاً سيادياً انطلاقاً من اعتبارها نهري دجلة والفرات نهرين وطنيين لا دوليين، وبالتالي لا تنطبق عليهما أحكام القانون الدولي.
وفي الواقع فإن الإصرار التركي على ضبط مسارات التقارب مع سوريا وإبقائها ضمن أقنية محددة، وعدم التواضع على مقاربة سياسية تفضي إلى مصالحة تاريخية مع الجار السوري، يتم بمقتضاها حلحلة كافة العقد وعلى جميع المسارات، تقف وراءه قوى مهمة في المجتمع السياسي التركي كالعسكر والقوى العلمانية وذلك لأسباب عدة:
أولاً: لا تزال هذه القوى تنظر إلى الشرق، وبالتحديد العربي منه، إنطلاقاً من الرؤية الكمالية صاحبة نظرية “الإنسلاخ” عن الشرق، وهي إن رضخت لظروف استراتيجية دفعتها إلى تشذيب هذه الرؤية، فإنها لا تزال تصر على إبقاء العلاقات مع سوريا ضمن أطر وظيفية بحتة، بحيث تؤدي سوريا دوراً وظيفياً في إطار المنظومة الأمنية التركية، ولا يتم تجاوزه إلى مجالات أخرى.
ثانياً: تعطي هذه القوى الأولوية في علاقات تركيا الخارجية للعلاقة مع إسرائيل وأميركا باعتبارهما المصدر الاساسي للسلاح التركي، ولأن العلاقات معهما تتفق والرؤية الكمالية الداعية إلى دمج تركيا بالغرب. وإنطلاقاً من هذا التوجه فإن المؤسسة العسكرية التركية ومن خلفها القوى العلمانية، تضغط من أجل عدم تحويل العلاقة مع سوريا إلى علاقة استراتيجية وإبقائها ضمن هوامش محددة.
ثالثاً: لا شك في أن هذه التوجهات تلقي بظلالها على سلوك السياسة الخارجية لحزب “العدالة والتنمية” المعروف ببراغماتيته الشديدة. فهو برغم طرحه لنظرية “تعدد البعد” و”تصفير المشكلات” مع دول الجوار لا يبدو مستعداً للمواجهة مع القوى الأخرى في ما خص العلاقات مع سوريا. وقد كان واضحاً مدى التجاهل الذي أبداه “العدالة والتنمية” تجاه الغارة على سوريا بالرغم من وجود إثباتات على تورط الجيش التركي، وكذلك مسايرة الحزب للجيش في الموضوع الكردي.
ولكن ثمة أسئلة تبقى مشرعة للبحث في إطار العلاقة السورية – التركية من قبيل، لماذا تصر سوريا على تثمير المسارات الخاطئة في علاقاتها مع تركيا؟ أم أن سوريا اختارت الأقل سوءاً والمتاح في هذه العلاقة؟ وهل يعتبر صانعو السياسة الخارجية السورية أن هذه مرحلة لتقليل الخسائر في ظل وضع دولي وأقليمي غير مناسب، ومقدمة لمرحلة أفضل في العلاقات؟ وأخيراً إلى متى يتم تجاهل القضايا الأساسية في العلاقات بين سوريا وتركيا، ترى ألا يؤدي ذلك إلى تثبيت وقائع سياسية تصبح بحكم التعاطي وقائع نهائية وثابتة!
– دمشق
النهار