صفحات سورية

المعارضة السورية.. والأزمة.. مرة أخرى، ومرات متتالية..

null
جلال عقاب يحيى
قرأت هذه الفترة عدداً من المقالات المنشورة على المواقع السورية حول أزمة المعارضة، خاصة لكل من الأستاذين: ياسين الحاج صالح، والدكتور نصر حسن.. واستوقفني كمّ النقد المعجون باليأس، وجلد الذات، والآخر، والكل في الكل، بما في ذلك الأحكام القاسية، والتوصيفات العنيفة (خاصة لدى الدكتور حسن)، وكأنني به يعلن (التوبة) من حالة راهن عليها، وانخرط بها، فاكتشف (بعد زمن قصير) فحواها، و’بعدها عمّا كان يأمل، أو عن المتوقع، فانفجر محزون الغضب، المعجون بالمرارة، ووقع الاغتراب.. وكانت النتيجة: أحكاماً قوية، سمتها: القسوة، والتعميم، وخلط الأوضاع، والحالات، والمفردات.. وكأن (الجميع كأسنان المشط).. القريب والبعيد، من في الداخل ومن يعيش أشكالاً مختلفة من الاغتراب، من ضحّى، واعتقل، وعانى وقع الاستبداد، وكوابيس الاغتيال، ومن وضعته الظروف خارج تلك المعاناة.. من دفع عمره، ومن التحق اليوم، أو بالأمس، ثم عنعن، وتردد، وقد أمسك ورقة حساب الربح والخسارة وراح يجمع ويطرح، وينظر ويعد، وينقد، ووبين يديه، وأمامه، ومن خلفه كاميرا تصوير، وبذلات أنيقة.. من قام بالمطلوب، أو بالحد الأدنى من النقد الذاتي، والمراجعة.. ومن لم يتجرا، أو لم يحاول الاقتراب (من القدسي، والمقدّس)، وأمور كثيرة يمكن الاستنجاد بها مما جاء من توصيفات أشبه بمن يغرف من بحيرة آسنة.
لقد سبق لي وكتبت مرارا، وتباعاً حول أزمة المعارضة، وموقعها من التغيير. وحول الظروف والملابسات، والاختلاف وعوامله الظاهرة والخفية.. وكنت، مع معظم الذين يتناولون هذا الشأن، أعتقد أن الأمر يستحق المحاولة، والتكرار.. بهدف: البحث عن المخرج، أو فتيل، أو بصيص أمل وسط الخراب، والظلمة.. وأن الواجب يقتضي أن نبدأ بالنفس أولاً، ومنطلقاً (أفراداً، أم أحزاباً، أم نويات.. ناهيك عن حالات البرعمة، والظواهر الفطرية الخارجية)، لأن ذلك يشكل البداية الحقيقية لوضع العقل والوعي، والإيمان، والتجسيد، على مفاعلات الأزمة، أو الأزمات المتتابعة، كمقدمة لبناء البدائل.
بالطبع، وأمام الوضع المعروف للمعارضة، والذي يمكن أن يكون وصف العجز كافياً، وخلاصة للدلالة، فإن الشهية مفتوحة، على آخرها لكل النعوت، والأوصاف، وحتى الاتهامات.. لكن:
ـ هل هذا التعميم صحيحاً، ودقيقاً، وعادلاً؟؟
ـ هل يحل مشكلة المعارضة، فيضيف شيئاً مطلوباً؟. أم يزيد في إدامة حالة اليأس التي تنتشر بسرعة الإخفاقات، وخلبّية الآمال والوعود، وانعكاسها على فعل التذرية، وتحميل الآخر(أي آخر) المسؤولية، وكفانا البحث في ذواتنا، ودورنا الخاص؟؟..وفي المحيط، والمياه التي ترفد، وتغذّي؟؟..
ثمة قضية مركزية تستحق الوقوف الطويل، والبحث المتواصل، ألا وهي: الوضع الشعبي ومدى قابلياته للعمل السياسي..والذي يمثل بيت القصيد..
نعم المعارضة السورية مأزومة، وأزماتها مزمنة، متجددة، ولسان الحال يعبّر بشكل صارخ عنها. وبالتالي: فكثير التشققات، والذاتويات، وما جاء في الشروحات عن مظاهر الأزمة.. صحيح، ويمكن إضافة المزيد مما تجود به اللغة العربية، فنحن في حالة انحسار، كالنهر الذي تجفّ ينابيعه، ويشحّ المطر عن تغذيته فلا تظهر فيه سوى الرواسب والمخلفات، أو كالفقر: مجلبة النقارات والتنغيص، و(التفشش)” كمن يقاتل ذباب وجهه”..لكن:
ـ هل المعضلة: الداء والدواء في المعارضة، وفقط؟؟..
لنقل، وقد عشنا تجارب طويلة في الداخل، وكانت أعيننا مفتوحة على الأزمة، ومفاعلات الضعف، وعدم القدرة على استغلال بعض الفرص التي أتيحت، والتي وضعناها، مراراً، على مشرحة التفصيص، والتحليل، ومحاولات التركيب.. أن معضلة (الحالة السورية) مركّبة، وتركيبها شديد التعقيد، وقد يكون الوضع الشعبي قاعدتها، ومحورها، وبدون حدوث (وإحداث) انعطافات فيها سنبقى ندور في مياه الأزمة، وستبقى الفقاقيع هي الطافية على السطح، ومعها كل ألوان الطيف من الخلافات، والمظاهر المرضية، والتورّمات، وقذف الوعود، والبيات الذي ينتظر هبّة توقظه.. حتى إذا ما استفاق (ملهوجاً) “كان الذي صرب ضرب، والذي هرب هرب”، لنقعد على الرصيف ندباً، وتوزيع اتهامات، وتصنيفات، في متوالية تكدّس السنوات كما العقود، و”دار لقمان الاستبداد على حالها”، بل تدخل عنق الزجاجة وتخرج منها.. ونسمع وعوداً يبني البعض عليها آمالاً.. ثم تتلاشى. ويفرح طارئ بلقاء على رصيف البيت الأبيض، أو الكونغرس، أو البرلمان الأوربي، أو مسؤول ما غربي، وتصريح هنا، وفلتة لسان هناك.. وتبدأ التحليلات والتوقعات.. وكأن الزمن لم يعلمنا حقيقة المواقف، واختلافها عن التكتيك، وحقيقة الموقف الصهيوني، وطبيعة المشروع التفتيتي الذي قطع مراحل هامة، وموقع النظام من ذلك كله..
لنضع هذه المعارضة (بقضها وقضيضها) جانباً، أو رميّها في البحر، أو وضعها في المستودع. ولنفرض أن لجنة من عيار خيالي، قادرة، فاهمة، منسجمة.. فكّرت، وناقشت الوضع المأزوم للحالة السورية، وخرجت بنتائج (لا يأتيها الباطل).. ترى هل تحل المشكلة؟
ـ أذكر أننا مذ وعينا، وعند كل أزمة، أو هبّة ريح لها (وما أكثرها).. كنا نتجه (بلهفة) إلى أطروحة ترددت كثيراً: (المراجعة، وإعادة النظر والتقويم، واستخلاص الدروس)، حتى صارت خير مهرب إلى الأمام، أو كل الاتجاهات. وأذكر أنني في مراسلة لرفيق، جواباً للقناعة بحيوية (المراجعة الشاملة)، وضرورة الشروع فيها فوراً، قبل عقدين تقريباّ، وكانت علائم سقوط الاتحاد السوفييتي تلوح في الأفق، وقبيلها: غزو العراق، ونتائجه الفاجعة، قلت له (اختصاراً): أننا مذ وعينا ونحن نعيد النظر، ونحاول التقويم، ويبدو لي، على أهمية هذه العملية، أن المشكلة ليست هنا، وإنما في وعي مبررات وماهية التقويم والمراجعة، والأهم أيضاً: الإيمان بالحصائل التي تسفر عنها، وثالثاً وهو أهم المهم: قدرتها على التجسيد كي لا يأكلها غبار الأرشفة، فتضاف إلى سابقاتها.
ـ لقد قرأت مقابلة الأستاذ عبد الرزاق عيد، وهو يقذف من حممه الداخلية، مستخدماً تعابير طفح الكيل، والتقيؤ قرفاً، وبؤساً لما نعيشه، ولحالة المثقف، والمرتزق، وكاتب التقارير، ولابس البسطار (البوط، أو الجزمة)، و(الديوث، أو الدواوييث)، فحزنت، وتألمت، وإن كان ما عبّر عنه جزءاً من حقيقة ندركها جميعاً، حقيقة تجرحنا، وتفضحنا كلنا لما وصلت إليه بلادنا.. وتساءلت معه، والحال هكذا: ما جدوى العمل إذاً؟؟ وتلك التضحيات المتتالية؟، والاغتراب، والمراهنات.. ومواقع الانترنيت، والفضائيات والأرضيات..؟؟ إذا كنا لا نقدر (على تحريك برغشة)؟..وهل الندب هو المخرج؟..أم أننا نحتاج المزيد من الصبر، والعزيمة، والإصرار.. لكن على قاعدة الوعي المستخلص، المتطور، القابل للحياة والملتقي معها، وليس النائم في قبورها؟؟..
لنعد إلى القصة من أولها: لقد حدث تحول نوعي في تكوين، واهتمام، ووعي الشعب السوري، عمره الآن أزيد من نصف قرن، وهو يشكل عقدة العقد، والأرض الكبرى لحصاد يبدو هشيميا، ولتعاقب الأزمة، وديمومة النظام.
وعلى سبيل المثال، يقول لي صديق كان قد ترك البلد قرابة الثلث قرن، أنه، وقد عاد في زيارة مؤقتة، وما زال فيه بعض الاعتياد على مناقشة الوضع السوري، أنه عندما كان يلتقي مع بعض الشباب، ويحاول التطرّق إلى الوضع السياسي العام، كان يسمع جواباً موحداً تقريباً: “خلينا من السياسة، فقد قرفناها”.. هذا في منطقة مسكونة بالعمل السياسي، والمعارضة..
ـ وقال لنا بعض أطراف المعارضة، أثناء حضورهم أعمال المؤتمر القومي (قبل بضع سنوات).. أنهم يعانون أكثر شيء من عدم إقبال المواطن على التعاطي بالشأن العام، وأن السبب ليس الخوف، وإنما الملل، والقرف، واليأس، والانشغال بأمور أخرى يؤمنون بأنها أكثر فائدة وجدوى…إلى درجة أنه لا يقبل أخذ منشور عادي، وإن أخذه لا يقرأه، على الأغلب..
ـ من السهل، طبعاً، إرجاع السبب إلى حالة المعارضة، وفقدان ثقة وأمل المواطن بها، (وهذا صحيح في جانب من الجوانب)، لكن هناك ما هو أصح: الحالة الشعبية وقابلياتها..
ـ سورية التي عرفناها في الخمسينات، ومطلع الستينات، والتي تباهينا كثيراً بحيويتها، وقوة الحركة الشعبية، والسياسية، والحياة الديمقراطية فيها.. قد صارت شيئاً من الماضي بفعل عمل تراكمي منظم، متعاقب، جامح.. نجح في تعميم الخوف واليأس، وأمراض الزمن القديم والمستورد من آخر منتجات العولمة، وعصر الخدمات، والاستهلاك، والسمسرة، وزرع بدائل أخرى لانشغال المواطن واهتماماته.. فبتنا أمام واقع لا يكفي اليوم أن نحمّل مسؤولياته لقوى المعارضة وحسب.. (رغم أن الحديث فيه صحيح بواحد من وجوهه، ويفتح الشهية، كما ذكرت)، لأننا نكون بذلك حوّلاً لا نرى كافة جوانب اللوحة.
ـ وأسأل هنا سؤالاً طالما عنّ على الذهن عند الكثير: إذا كانت المعارضة بمثل هذا الوضع.. فلماذا لم يستطع الشعب توليد بدائل تعبّر عنه، وتقود حركة طموحه نحو التغيير، أو الأفضل؟؟..
*******
لقد فعلت عقود الأحادية، وما احتوته من فيض الأفكار والممارسات المنهجة، فعلها القوي حين أزاحت الشعب، بالقوة، والغش، والتحايل، والزيف الحمول على يافطات الوطن، والقومية، وفلسطين.. عن فعل التأثير، والمشاركة، ووضعته في الركن الذي صنعته، فدخله مرغماً، ثم بفعل المعهود، وجلس هناك، وما يزال رافضاً الخروج منه.. إلا ضمن شروط لم تتوفر حتى الآن.
ولأن الموضوع جدير بالبحث المعمق، ومفتوح على النقاش، سأركز على بعض المفاصل المختصرة:
1 ـ إن قرابة الخمسة عقود من حكم أحادي، شمولي، يرفض التعددية والاعتراف بالآخر، ويعمل على تهميش، وتقزيم، وتشويه، ومحاربة وتفتيت كل من لا يصفق له، ويسبّح بحمده.. (رغم بعض التفاوتات في المراحل) نجحت في تعليب الشعب، بعد ترويعه، وتوزيعه على أكثر من أساس: جهوي، وعشائري، ومناطقي، ومذهبي، ومصلحي، وريعي.. الخ.
والحق أنه منذ توقف المسار الديمقراطي بقيام الوحدة، وعودته المبتورة القصيرة عهد الانفصال، ثم إلغائه، إلى إشعار آخر، منذ وصول البعث للحكم، وما عرفه من تطورات، خاصة بعد الانقلاب الأسدي (النوعي، التأبيدي)، والحركة السياسية، والمجتمعية تتهاوى أمام المطارق العنيفة، وتنزاح، وتتقولب وفقاً للسائد من شروط. (المظاهر كثيرة عن ألوان الانتهازية، والعشبقة، والوصولية، والنفاق، والانصياع، والتجند، والتطوع كمخبرين، ومخابرات، وتقريب وتفريغ)..
وضمن هذه السياسة كان تدجين القوى السياسية هدفاً رئيساً، وإن رفض البعض فالتقسيم، وتصنيع البدائل جاهزين..فعانت القوى السياسية (الضعيفة أصلاً) ويلات الضربات المتعاقبة، والتكييف الفرضي الذي أنبت نوعيات عجائبية من الانتهازيين، ومن القزامة، والرخص، والتزلف، والانبطاح.. وإلا الانشقاقات التي طالت جميع الأحزاب التي انضوت في “الجبهة الوطنية التقدمية”، والتي بدورها عرفت التذرية، والضمور، وعسر الولادة، والعقم.
ـ وإذا ما جئنا لأحزاب البعث المعارضة، فقد عانت ازدواجية رافقتها معظم سنوات تواجدها:
آ ـ الصراع المضني على الإرث الذي لم تستطع الانفكاك منه، أو حله، وكأنها تضع ذلك في أساس مبرر وجودها، ونضالها، وكأن هدفها (تسجيل النقاط) على الآخر، والنكش عمّا تعتبره نصرها، وإثبات أحقيتها.
وإذا كان (الشباطيون، المتحولون إلى حزب البعث الديمقراطي العربي الاشتراكي) أكثر من حاول التملص، والتخلص من ذلك الثقل عبر محاولات تطوير أدواتهم، وفكرهم، ووعيهم، وطروحاتهم، بما في ذلك نقد العديد من جوانب تجربتهم، ومحاولة تجسيد البدائل.. والذين عانوا مفاعيل ذاتية ـ موضوعية متناوبة.. شتتت مشروعهم، وغيبّتهم عن صيغة العمل الإطاري الموحد، خاصة وأن حملات الاعتقالات المتتالية، ونتائجها..تركت تأثيرها البليغ عليهم.
فإن سباق (الحزب القومي)، المستند إلى جدار النظام العراقي، ودعمه.. يبدو محموماً على تلك الأرضية، ومنفعلاً لتسجيل النقاط، عوض البحث في فكره، وخطه السياسي، وفي جوهر الأحادية التي لم تختلف كثيراً عن السائد في النظام السوري، وبعثه المطيّة، المركوبة، فقاومته على أرضيته ذاتها، وبوسائل شبيهة.
ب ـ بعض القوى، وفي عزّ القمع المسلط على الأحزاب السياسية.. كان لديها ولو هامش صغير من الحركة، ولديها قابلية، ظاهرة، أو مبطنة، للمراهنة على إمكانية إقدام االنظام على التغيير، والتطور، والتطوير، والانفتاح، وهي قابلية تكبر ونتفخ في مراحل اليباس، والهزال، وضعف الأمل، وفشل الممارس من الأساليب.
وبغض النظر عن هذه المغالطة الفادحة، ونتائجها المرعبة.. فإن البعثيين المعارضين لا يملكون هذا الهامش، ولا يحلمون بيوم يجيء ويسمح لهم بالعمل شبه العلني.. في ظل هذا الصراع المحموم على الإرث، وإصرار النظام على أنه (المالك) الوحيد.. للبعث، مثلما هو المالك الوحيد للبلد، والشعب، والهواء، وكل شيء. لذلك (يحملون السلّم بالعرض) في جميع الحالات، والمناقلات، ويلهثون وهم يطاردون أملاً بالتغيير، أو خبراً ما عنه، ويبدون أكثر حرصاً، و(مصلحة) على العمل الجماعي.
لكن صورتهم لدى المواطن، رغم محاولات الغسيل، والتطهّر، والتوبة، ترتبط بتلك الفترة القمعية، وبالأحادية التي أسسوا لها، وشرعنوها على قوانين الأحكام العرفية، والطوارئ، ونفي وإلغاء الآخر.. ولذلك يحتاجون إلى جهد مضاعف لإثبات مصداقية التغيير، وصدق التوبة عن ذلك النهج، رغم أن ميدان عملهم يبقى حيوياً، وخطيراً، لأنه ميدان النظام، وقاعدة تمظهره الحزبي، والشعبي.
2 ـ لقد نجح النظام في ركوب، وإركاب القضايا الوطنية والقومية على ظهر الشعب وحقوقه الطبيعية، واستغلال: الحالة العاطفية، الحماسية لشعبنا، وتعلقه بقضايا الوطن، خاصة فلسطين، ولو كانت على حساب لقمة الخبز، وحق المواطنة، ناهيك عن الحريات الديمقراطية، والعدل والمساواة، وغيرها..
ونعرف أن نظاماً يرتكب الموبقات كلها، و” يعمل السبعة وذمتها”.. فإنه قادر على التلون، والحربائية، واستثمار العاطفة الشعبية لمجرد أن يشهر شعارات الرفض ضد الأعداء التاريخيين، فكيف إذا ما أطلق رصاصة!! أو سخّن جبهة، أو عنتر في تصريحاته، وخطابه، ومواقفه المعلنة؟؟!!..
والحقيقة أن هذه التركيبة المجتمعية لم تتغيّر كثيراً بمزاجها الاندفاعي، وما زالت أسيرة الخطاب الديماغوجي، والكلام الجميل، الملوّن بالوطنية والقومية. وهي تركيبة تطرح تساؤلات عميقة عن مفاعلاتها الداخلية، وموقع وعي المواطنية فيها، وحدود الوطن، والحقوق العامة للأفراد، والتمييز بين الوطن: المستهدف، المحتل في بعض أجزائه، وبين القضية الاجتماعية.
3 ـ إن أجيالاً متعاقبة ولدت، وشبّّت، وكبرت وهي ترضع حليب الاستبداد، والوحدانية، والخطاب القدسي، الترهيبي، النمطي.. المعجون بلون الدم، والصور والتماثيل، وشهادات حسن السلوك، ومصائر المعتقلين وقصص عديدهم المأساوية، مقابل ثراء المقربين والمصفقين، والسائرين جنب الحائط، والصاعدين أكتاف الخطاب المكرر، الحاملين بؤس الاستبداد، خصوصاً من مثقفي السلطان، ومن النخب المدجّنة، المفبركة.. فلم تعرف غيره، وكأنها اعتادت هذا المألوف الذي تقولبت فيه، وتكيّفت معه، وكيّفت عقلها، وحركتها بما يستجيب له، وكأنها دمى تتحرك في مساحة مرسومة.
إن وعي المواطن لحقوقه الطبيعية في العدالة، وسيادة القانون، والمساواة، وتكافؤ الفرص.. حالة غائمة، ومجهولة عند معظم الأجيال الجديدة، ناهيك عن وعي موقع الديمقراطية، والتعددية، وحقوق التعبير، والصحافة، والعمل النقابي، والإضراب، والتظاهر، والقضاء المستقل، والتداول على السلطة.. الخ، إلى درجة أن معظم الأجيال التي فتحت عيونها على صورة الأسد، وتماثيله المنتشرة في كل مكان، وذلك الخطاب النمطي، القدسي، المدعوم بهالة كبيرة من التعظيم، والتفخيم، وبجيوش زرع الرعب، وإشاعة الخوف، والانصياع.. لا تعرف الكثير عن جوهر الديمقراطية، وموقعها في حياة وتطور الشعوب، وتحقيق إنسانيتها، وصيانة كرامتها، وتوفير مقومات نمو شخصيتها، ومواهبها دون رهاب، أو تحسب.
أكثر من ذلك، فالخطاب الرسمي عن الحرية، والليبرالية.. حاول خلق هوة كبيرة بين الديمقراطية وبين حيوية اعتناقها، إذ ربط بينها وبين: المستعمر، العدو، الصهيوني، الأمريكي، الراسمالي، والبرجوازي، وتهمة الليبرالي، مثلما شيّع عن دعاتها تلك التهم الظالمة ب” العمالة، والتآمر، واللجوء للأجنبي واستقدامه..”، مستفيداً من آلته الإعلامية الفتّاكة، والأعداد الكبيرة من القومجيين العرب، والإسلاميين، و” الأحزاب العربية” (الكريمة في تصريحاتها وتمجيداتها وشهاداتها)، وأخطاء بعض الأشخاص المحسوبين على المعارضة، وصراعات أطرافها، واختلافها في المواقف الرئيسة….
4 ـ إن جرائم أمريكا في العراق، والكيان الصهيوني في فلسطين.. وما قامت به الإدارة الأمريكية من أفعال جرمية فاحشة بحق العراق: شعباً، ودولة، وفتناً قومية ومذهبية، وقتلاً، ومجازر.. وجملة الممارسات المنتهكة لأبسط حقوق الإنسان، ولألف باء الدعاوي بالحرية والديمقراطية.. إنما تركت أبلغ أثرها السلبي على عموم الشارع العربي، وعلى القوى الديمقراطية، والمعارضة، التي وضعت بين سنادين ذلك الاحتلال، ومطارق نظم الاستبداد.. حتى إذا ما سئل المواطن عن خياره في أيهما يفضل، لأجاب بسرعة: أنه يتمنى ألف مرة البقاء في الوضع الحالي، حتى ولو لم يتنفس الهواء، على أن يقارن وضعه بأوضاع العراقيين، أو أن يصبح مصير الوطن كما صار العراق.. وكأنّ أمريكا تقدّم الخدمات المجانية الكبرى لنظم الاستبداد والقهر، وتمد في أذرعهم، وعمرهم، وبطشهم.
هذه التحولات التي حدثت في السنوات الخمس الماضية.. زادت من إحكام الطوق على المعارضة، وأنجحت النظام في ترويج سياساته، وفي إبعاد الشعب عن الالتحاق بركب الداعين للتغيير.
وفي هذا الصدد، فإن التشوش، والتشويش الذي رافق حركة المعارضة في فهم موقع العامل الخارجي، وفي التعاطي معه، بما في ذلك بعض المراهنات، وبعض التصريحات، والتحركات والاتصالات.. قدّمت للنظام وقوداً جديداً لاستخدامه في حرق المعارضة، وتصدير الأزمة إلى داخلها، وفي النفخ ببعض المرتزقة، والمعربشين، والطارئين وتصويرهم كأطراف رئيسة في المعارضة، وربما كمكلفين منها بتلك الحركات والتصريحات.
5 ـ يعاني المجتمع السوري، بفعل سياسة منهجة، وفعل تراكمي طويل، من انقسامات جدية قائمة على أسس مشوّهة، طائفية كانت، أم إثنية، أم جهوية، أم عشائرية، وغيرها.. بما أعاد الحالة إلى عقود سابقة، وعلى أرضية وأد، وتزييف المشروع النهضوي، الحداثي، الوحدوي. فنجح النظام في إحداث شروخات عمودية هي كالنار تحت رماد التمايزات المعروفة، ودون أن تتمكن المعارضة من الاتفاق على خطاب عام للتعامل مع هذا الوضع الشائك، فوقعت بين: المجاملة، والتمسيح، والخطاب التكتيكي، الاستجدائي، وبين ذهن طائفي لا يخفي حقده، وعقده (الأكثروية)، و(قصصه) و(حكاويه) عن مسارات الأحداث، وتفسيرها وفقاً لعقلية المؤامرة، والعمل المبيّت، والاتهامات بالجملة.. بما ساعد النظام في مسعاه لتصوير نفسه حامي حمى الطائفة، وتخويف الآخرين من أي تغيير قد يحمل معه المجازر، والقتل على الهوية، وزاد من حالة الحذر والريبة عند الآخر.
الأكيد، أن المعارضة بحاجة إلى فهم موحد للوحة المجتمع السوري وتركيبته: الإثنية، الدينية، المذهبية، العشائرية، والعائلية، وغيرها، ولموقع الطائفية التي يستخدمها النظام.. كي تتفق على خط سياسي عام، وتكتيك مناسب يجنبها التردد، والخوف من خوض غمار هذا الوضع، أو إطلاق الأحكام، والتصنيفات.
والأكيد: أكثر.. أن تجسيد الديمقراطية داخل الفرد، والأحزاب، وفي علاقاتها مع بعضها، ومع الظواهر التي تعالجها، وبما تعني: حرية الاعتقاد، والرأي، والتعبير، وحرية الانتماء لأي إيديولوجيا، أو مذهب، أو قومية، وحرية الفكر والعمل..والتأكيد على المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن قوميتهم، أو جنسهم، أو معتقداتهم.. هي مدخل لولوج الحالة الشعبية الطافحة بالريب والشك، وبداية الإمساك بمفتاح بناء جسور الثقة بين المعارضة والكتلة الشعبية.
6 ـ إن غياب رافعة قوية، قادرة على رفع الأثقال الكبرى عن كاهل، وعقل، وبنيان، وعزلة المواطن السوري.. سيبقي الوضع على حاله، بل قد يزيده تعقيداً، وانكماشاً.
الرافعة القوية لن تكون وليدة فعل المعارضة المجموعي، وحسب (وإن كان ذلك مهماً)، وإنما في تضافر عوامل أخرى متشابكة: أزمة النظام وانسدادها ـ الدور العربي وما يمكن أن يقدمه من نموذج بديل، جاذب (خاصة الحالة اللبنانية وآفاق تطورها، ومصائر المحكمة الدولية) ـ الوضع الدولي، خاصة رأيه العام، ومؤسساته الديمقراطية.
وهنا، فإن زراعة، أو توليد الأمل بالتغيير، وبإمكانيته.. على أرضية واضحة، وواقعية، وبعيداً عن الوعود الخلبيّة، والخطابات الثأرية، والدونكوشوتية.. إنما يمثل المدخل لحركة شعبية تدخل خط التغيير، وقد تفرز أدواتها، ووسائلها.
وقد رأينا أن فترة (ربيع دمشق) التي ارتبطت بتلك الحالة الانتقالية المحقونة بوعود التغيير.. أحدثت، خلال زمن قصير، فجوة هامة في جدار الخوف، والاستبداد، والعزوف عن العمل السياسي.
كما أن (فترة تقريري ميليس) التي أنبتت آمالاً كبيرة بحدوث شيء ما.. جلبت معها فئات شعبية متصاعدة إلى البحث عن المخرج، وعلى الأقل: إعلان الاستعداد لتجاوز التهيّب، وعقد الخوف.
وبالوقت نفسه فإن الهبّات الفجائية معرّضة لردود الفعل السلبية عندما لا تؤتي أكلها. كما أن الإغداق في (وعود التغيير القريب) الذي لم يحدث، والمظهرات الإعلامية المنفوخة بتحديد الأزمنة، وإطلاق التأكيدات.. يؤدي إلى ارتجاجات قوية، أقلها: خيبة الأمل وفقدان الثقة. ـ ورغم الصورة القاتمة لحال المعارضة، خاصة في هذه الفترة التي يبدو فيها أن النظام ’أخرج من عزلته، وترويج مرحلة المساومات والصفقات الكبرى لفترة انتقالية تشهدها أمريكا، وأزمة خانقة تضرب الكيان الصهيوني، وتأثير ذلك على الحالة الشعبية، وهيجان النظام، وحركته..
فلا بدّ أن نسجل بكل اعتزاز الدور الحيوي الذي قام به عدد من رموز المعارضة في كسر جدار الخوف المععم، بتصديهم الشجاع للنظام، وفضح جوهره الاستبدادي، الديكتاتوري، المافيوزي.. وهو دور يجب أن يتواصل، ويتكامل، بعيداً عن تلك الاتهامات المأزومة، والتشكيكات المغلفة.
ـ دون أن ننسى حجم الفعل الذي تقدمه كوكبة سورية من معتقلي الرأي.. في فضح طبيعة النظام، وتقدّم الصفوف، وضرب المثل في التضحية.. وموقع رئيسة المجلس الوطني لإعلان دمشق: الفداء: فداء الحوراني.. السجينة، الصامدة.. في هذه العملية، مع رفاقها الأباة من مناضلي إعلان دمشق، وكافة أطياف المعارضة الإسلامية والكردية والقومية واليسارية وغيرها.
7 ـ إن الحالة السورية: الشعبية.. بحاجة إلى المزيد من الدراسة، وتسليط الضوء عليها. وبدلاً من التقاتل، وجلد النفس، والغوص في الجزئيات، ومطاردة الصغائر.. فإن (أحرار سورية)، أينما تواجدوا، مطالبون بالتوجه: دراسة، وتمحيصاً، واستنتاجاً لهذه الحالة.. وصولاً إلى تكوين رأي عام متفق عليه، يساعد في فهم المعضلة، ويمكّن المعارضة من امتلاك المفاتيح الصحيحة، أو: على الأقل: طرح مهام واقعية، متدرجة، لا تسبح في الأماني، والرغبات الذاتية.
والأكيد، أن أطراف المعارضة معنية (أولاً) بأن تجسّد البديل في حركتها، وخطابها، وكتابات المنتمين إليها، لتكون القدوة فعلاً، والجاذب.. وليس المنفّر، الميَئس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى