قمة دمشق الرباعية ورهان السلام
د. أحمد عبد الملك
لم يكد حِبر قرارات القمة الرباعية التي عقدت في دمشق -بين سوريا وتركيا وفرنسا وقطر- ينشف، بعد موافقة جميع الأطراف على إعداد “ورقة مبادئ” تكون أساساً لمفاوضات مباشرة بين سوريا وإسرائيل، حتى قدّمت لجنة خاصة في “الكنيست” الإسرائيلي مشروع قانون الاستفتاء الشعبي المتعلق بانسحاب إسرائيلي من القدس الشرقية وهضبة الجولان السورية المحتلة، اللتين فرض عليهما الاحتلال والقانون الإسرائيلي (عام 1967 فرض القانون على القدس الشرقية، وفي عام1981 فرض على هضبة الجولان السورية). ومن المقرر أن يطرح المشروع على لجنة “الكنيست” للتصويت عليه، ثم يعرض على الهيئة العامة للكنيست في ديسمبر المقبل كذلك.
وعلى رغم عدم تسرّب معلومات واضحة حول المشروع المذكور إلا أن تقارير صحافية ذكرت أن تبادل أراضٍ محتلة مع العرب سيقابله ضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية في إطار اتفاق دائم. معلوم أن الحكومة الإسرائيلية قد بادرت بطرح مناقصات لبناء 32 وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة “بيتارعيليت” القريبة من بيت لحم بالضفة الغربية، كما طرحت -منذ بداية العام الحالي- مناقصات لبناء 450 وحدة سكنية جديدة في مستوطنات الضفة الغربية، ما حدا بحركة “السلام الآن” اليسارية الإسرائيلية التي تعارض الاستيطان وانتهاك حقوق الإنسان إلى انتقاد الإجراءات الإسرائيلية معتبرة قيام الحكومة باقتراح قانون الإخلاء والتعويض بأنه يوسع الشكل الاستيطاني في الضفة الغربية. وكان مجلس مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة قد باشر بمشروع ضخم لإقناع عشرات المموِّلين الإسرائيليين ويهود العالم لشراء بيت كل عائلة من المستوطنين تنوي إخلاءهُ وبسعر مغرٍ، قبل أن تصل السلطات الإسرائيلية إليها لتدفع التعويض، بهدف عرقلة المشروع الحكومي.
وبغض النظر عن جدية المشروع أو قربه من تحقيق أهدافه، فإن المشهد ينمّ عن ترسيخ مبادئ الاستيطان، لربما خارج نطاق الجولان! بعد أن بدأت مراحل المحادثات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل.
والمتتبع لتصريحات حاضري قمة دمشق المذكورة يلاحظ أن هنالك اتجاهاً عربياً وإقليمياً نحو تسوية الخلافات السورية- الإسرائيلية؛ على غرار ما حصل مع مصر والأردن. حيث أعلن رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان أن المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل ستعقد يومي 18- 19 من سبتمبر الحالي في تركيا. وأشار الرئيس السوري بشار الأسد إلى الدور التركي في هذه المفاوضات قائلاً: “إن تركيا الدولة الوحيدة التي نجحت في إطلاق المفاوضات غير المباشرة وفي ظروف كان السلام يبدو فيها بعيداً”، وفي مبادرة بدت لينة من طرفه قال الأسد إنه ينتظر الانتخابات الإسرائيلية، كما طالب الدول الحاضرة في قمة دمشق بطمأنةِ سَيْرِ رئيس الوزراء الإسرائيلي المقبل على نهج “أولمرت” من خلال استعداده للانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، كي يتحقق السلام.
يعتقد المحللون أن قمة دمشق كسرت العزلة المفروضة على سوريا، بل وكسرت حاجزاً نفسياً ضخماً تراكمت عليه “شعارات” قديمة، وأن دمشق نجحت في وضع العربة على قضبان قطار السلام باحتضانها القمة وتهيئتها المناخات اللازمة لإنجاحها. على رغم أن معظم المحللين مازالوا يرون أن الدور الأميركي له تداعيات وآثار مهمة في استمرار عملية السلام حتى تحقيقه! في حين رأى البعض أن قمة دمشق نواة لتعاون إقليمي عربي أوروبي، يمهّد لدعم الاستقرار في المنطقة، وأن هذه الدول (الحاضرة للقمة) راغبة حقاً في إرساء أسس السلام، ولا تعمل فقط لإضاعة الوقت أو حرق الأوراق.
معلوم أن إسرائيل كانت قد احتلت هضبة الجولان السورية إثر عدوان عام 1967 وضمتها عام 1981 دونما اعتراف دولي، بل ودونما ضغوط دولية على الكيان العبري لتطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالعدوان، خصوصاً القرار رقم 242 حتى هذا اليوم.
وكانت محادثات سلام سورية- إسرائيلية قد توقفت عام 2000 بعد تعنت إسرائيل حول مسألة الانسحاب من الجولان وحصول سوريا على السيادة على بحيرة طبريا. وقد يكون هذا الموضوع من أعقد الموضوعات التي ستواجه المفاوضات سواء تلك غير المباشرة أو المباشرة. ويتراءى للمراقب أن أميركا قد “فوضت” فرنسا للقيام بدور مهم -لربما نيابة عنها- في التقريب بين وجهات النظر العربية والإسرائيلية وصولاً إلى سلام دائم، وذلك على خلفية موقف الولايات المتحدة -المعادي دوماً- لسوريا، وتصنيفها هذه الأخيرة ضمن “محور الشر” في الشرق الأوسط! وهذا ما حدا بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي -بصفته رئيس الاتحاد الأوروبي- إلى القول إن فرنسا تدعم جهود الدبلوماسية التركية في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا! مشيراً إلى أنه أكد للرئيس بشار الأسد استعداد فرنسا للمساعدة في المفاوضات المباشرة بكافة السبل من أجل إحلال الثقة بين الجانبين.
كما لا تخفى على المراقب متانة العلاقات التركية- الإسرائيلية، وقبول سوريا المبادرة التركية، وذلك أن واقع سوريا الجغرافي يجعلها تضمن عدم فتح عدة جبهات في آن واحد، والسير نحو علاقات طبيعية مع كل الجيران. كما لا تخفى على المراقب حقيقة الدور القطَري في إعادة الدفء إلى العلاقات السورية- الفرنسية، وهو ما أخرج سوريا من عزلتها السياسية والدبلوماسية.
إن الوقت يسير الآن لصالح سوريا ولصالح عملية السلام، وانتشال المنطقة مع التجاذبات والتوترات التي لا تعود على الشعوب بالخير. وإن بعض الشعوب العربية قد ملت شعارات الوحدة و”الأنفة”، بما في ذلك “رمي إسرائيل في البحر”! وكان من نتيجة ذلك أن توسعت إسرائيل وبنت المستوطنات وعاش “شذاذ الآفاق” في تلك المباني الفخمة المقامة على الأرض العربية دون حق، بينما تعاني الدول والشعوب العربية -وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني- عيشة الشتات والعوز والظلم الطويل. بل إن هنالك من الدول التي تأثرت بالحروب المتعاقبة مع إسرائيل من تعاني من سوء التخطيط ووهن المؤسسات وعدم وجود البنى التحتية وغياب فرص العمل، بل واختفاء الرغيف أو نحوله!
نعم، يجب أن نستدرك هنا، ماذا فعلت بنا الشعارات منذ عام 1948؟ ولنعقد مقارنة عقلانية بين الدول العربية التي احتضنت تلك الشعارات وأدخلتها في مناهج التعليم ورسمتها على الجدران والأقواس وحفرتها في عقول الطلبة! وبين الدول العربية الأخرى التي لم تتبع أية شعارات، بل حرصت على التقرب إلى المواطنين وحل مشكلاتهم، وتطوير المدن والشوارع ورفع مستوى الخدمات للشعوب! لنقارن هذه المقارنة البسيطة، على رغم أنه ليست كل الدول العربية التي نأت بنفسها عن الشعارات دولا نفطية أو غنية بالمفهوم الأوسع. وفي ذات الوقت هنالك أنظمة نفطية تفوق مداخيلها مداخيل دول الخليج، لكن إنسانها يعيش -حتى اليوم- وهمَ الشعارات التي تطلقها الحكومة، ويُغيّب عقله بأن يصدق أن الرئيس لابد أن يبقى مدى الحياة! وبألا تتحدث وسائل الإعلام عن تخلف الدولة، وسوء الإدارة والفساد، وفشل الدولة في تحقيق أدنى مستلزمات الحياة العصرية لإنسانها “النفطي”! لقد سقط الاتحاد السوفييتي صاحب الشعارات الرنانة كما سقطت أنظمة أخرى كانت تدور في فلكه، كانت غنية بمواردها وإنسانها، لكنها فقيرة باقتصادها وسياساتها. تماماً كما هي الدول العربية اليوم التي ترفع شعارات معاداة أميركا، ويتسول شعبها في بلدان تحتفظ بعلاقات طيبة مع أميركا!
إن دخول سوريا في مفاوضات مع إسرائيل هو الطريق الأفضل لاستردادها أراضيها المحتلة وتأمين حدودها من غوائل الزمن والعبث الإسرائيلي الذي لا يمكن ضمان حدوده أو زمان حدوثه. كما أن في تأمين تلك الحدود ما يدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية وتحقيق المعونات الدولية، وهو ما يعود على الشعب السوري بالرخاء والطمأنينة وفتح مجالات العمل.
جريدة الاتحاد