سجن الدنيا في الدين.. لماذا؟
هوشنك بروكا
أثارت الفتوى الجديدة التي أصدرها رئيس قضاة السعودية الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، قبل أيام(13.09.08)، والتي أفتى فيها ب”قتل” أصحاب فضائيات عربية، تنشر الفساد العريض في الأرض”، جدالاً وردود أفعالٍ، هنا وهناك، في الصحافة العربية.
الشيخ المفتي يقول: “إن الأمر خطير، لأن الله جل وعلا، لما ذكر قتل النفس، قال: أو فساد في الأرض، فالإنسان يقتل بالنفس، أو بالفساد في الأرض، وإفساد العقائد، وإفساد الأخلاق”. عليه أنذر المفتي اللحيدان المفتى بقتلهم، قائلاً: “أنصح أصحاب هذه القنوات الذين يبثون الدعوة للخلاعة والمجون، أو الفكاهة والضحك وإضاعة الوقت بغير فائدة، وأحذرهم من مغبة آثار ما يقع فيه من يتعرضون لتلك الفتن. (…) عليهم “أن يتقوا الله ويتوبوا، وأن يكفوا عن نشر الفساد والإفساد”، عبر نشر ما وصفه بـ”البرامج الخبيثة” على قنواتهم الفضائية.
المفهوم من بعض فتوى الشيخ اللحيدان، هو أن حتى “الضحك والفكاهة” و”إضاعة الوقت فيهما”، تعتبر في الدين، “خطيئة وكفر وخبث وفساد”، وما على ناشرها وناقلها وفاعلها، سوى التوبة إلى الله، و”ما على الرسول إلا البلاغ”، فقد “أعذر من أنذر”!!
الملاحظ في أمر القائمين على شئون الفتاوى وتفصيلها، هو أنهم لايتركون في الدنيا كبيرةً ولا صغيرة، إلا ويتدخلون بها، من باب “إعلاء كلام الله”، و”دينه الحق”، وبالتالي “الحرص” على “أخلاق الأمة”، و”سنن الأولين الصالحين”، كما يذهبون. لدرجة بات لهم لكل مقامٍ مقال في الفتوى ومشتقاتها.
ف”الإنسان الديني” من ليله إلى نهاره؛ ومن سريره إلى ورشة عمله؛ ومن مأكله إلى مشربه وملبسه؛ ومن أداب مشيه، إلى آداب ركضه وقيلولته؛ ومن أصول الحب لديه إلى أصول الكره؛ ومن نظافة الإسنان، واليدين والقدمين، إلى نظافة كامل الجسم، ومن صلاته إلى صيامه وزكاته وسائر عباداته..كل ذلك مفتوح على الفتوى، أو الإفتاء فيه، بقدرة “شيخٍ قادر”.
من يتصفح كتب الفتوى وصفحاتها الكثيرة المتكاثرة أيما تكاثرٍ، في الفضاء الرقمي، سيندهش مما يمارسه الراكبون على “علومها”، من “إرهاب فكري”، ضد كل ما يمت إلى “الإنسان المخلوق على أتم وجه”، والذي خلقه الله في أحسن تقويم، فضلاً عن أنها “تقزيمٌ” لكل ما يمكن أن يمت إلى الله، بإعتباره خالقاً كاملاً، للكون الكامل، والدين الكامل، والكلام الكامل، والكتاب الكامل..
فكيف للإنسان الذي هو “ناقص” على أية حال، أن يحكم بالنيابة عن الله الكامل، الذي لا يعلوه كمال، بحكمٍ “ناقصٍ” مبين؟
المشكل الأساس في الفتوى، هو أنها تُعتمد ويُؤخذ بها بإعتبارها “إخباراً بحكم الله”، أي أن الخضوع للفتوى، هو في النهاية خضوع ل”حكم الله” وكتابه، والدخول في الفتوى وحدودها، يعني، دخولاً “مؤمناً” في حدود الله، وطاعته.
أما حدود الفتوى، فلا تقف عند حدود “دين الإنسان”، الذي من المفترض أن يكون علاقةً فردية روحانية بين الإنسان(كفرد) وربه، وأنما تتجاوزه إلى كل الدين، بجعله علاقة جماعية، بين الإنسان(كمجتمع) والله، لتختزل كل الدنيا، تالياً، إلى دينٍ فحسب. فالدنيا بما فيها وما عليها، التي لا تعبر من خلال، فلتر الفتوى، حسب “المنطق الفتواتي”، هي دنيا “ساقطة”، “خبيثة”، “فاسدة”، “تستحق” كل القتل، وجهنم وبئس المصير.
المشتغلون على الفتوى، يشغلون المؤمنين المشغولين بها أصلاً، لكأن الفتوى هي كل الدين، الذي هو كل “الدنيا المستقيمة”، و”الدنيا الصحيحة”، و”الدنيا الحلال”. فالدنيا “الحقيقية”، بحسب الفتواتيين، هي تلك التي يعبرها “المؤمن” على صراط “الفتوى” و”حكمها المستقيم”، وكل دنيا، خارجة على ذلك، هي “باطل” و”طالق” من الدين بالثلاثة.
الفتوى، لكونها تطال حياة “الإنسان الديني” من الألف إلى الياء، تحاول زج الإنسان بإسم الدين وبإسم حكم الله في “دنيا مقفلة”، ليس على الآخر فحسب، وأنما على الأنا أيضاً.
فما الحكمة في “تكفير” المرأة، مثلاً، لمجرد قيادتها للسيارة؟
ما الدين في تحريم “الإستمناء” أو “نكاح اليد”، في رمضان؟(فتاوى اللجنة الدائمة حول العادة السرية)
ما التدين في تحريم استخدام المرء لعدسات ملونة للزينة؟(حامد بن عواض العلياني)
ما الحكمة في تحريم النكت والطرائف والإستماع إلى الموسيقى؟(د. عبدالعزيز الفوزان والشيخ سليمان الماجد)
ما الأخلاق في تحريم “تجميل الوجه”؟(د. عبدالعزيز الفوزان)
ما التسامح الديني، في “تكفير” البابا”، وما الرحمة في “اللاترحم” و”اللادعاء” عليه، و”لعن” موته؟(الشيخ محمد بن عثيمين)
ما الشرع في أن ترضع الكبيرة كبيرها، أو الموظفة الكبيرة جارها الكبير الموظف، رضاعةً كبيرة؟(د. عزت عطية)
للفتوى مشكلة أخرى، وهي أنها لا تمارس “إرهاباً” على مستوى النص، ليؤمن بها من يشاء ويكفر بها من يشاء، فحسب، وإنما يحاول مفتوها استغلال كل الدين ومؤسساته، لتعميم “إرهاب الفتوى” على “الكل المؤمن”، وإدخاله في حدود “إيمانها الضروري”، سواء إن شاء هذا الكل أم أبى.
والحال، فإنّ الفتوى لا تترك أي مجالٍ أو متنفسٍ لحرية الفرد، في أن يختار من الدين، أو بعضه، أو عكسه، ما يشاء، وأين ومتى يشاء، لأنها “شرعٌ” يحكم على “المجموع المؤمن”، بإسم الله، الذي يجتمع فيه مجموع الدين. بذا تحلل الفتوى دم الفرد الخارج على الدين، وتهدر حريته على يد المجموع المتدين.
الفتوى تغتال الحريات الفردية، بحجة الدفاع عن “دين المجموع”، أو دين الأمة، وشرعه.
الفرد، إذن، في ظل ثقافة الفتوى، لا يسطيع أن يكون حريته، وإرادته، وفرادنيته، لا في الدين الذي هو كل الدنيا، ولا في هذه الأخيرة التي هي دين فحسب.
الفرد، في ظل “إرهاب” الفتوى، لا يستطيع أن يكون إلا “نحن”، ضمير الجماعة الدينية، أو المؤمنة. فحيث تنوجد الفتوى، لا يوجد الفرد أو لا ينوجد، لأن الفتوى تنوجد أصلاً، لمسخ الفرد إلى جماعة مطواعة، ومسخ حريته إلى “سجنٍ جماعي”، لخاطر عيون الجماعة. فلا صحيح يعلو على صحيح الجماعة، ولا ذات تتفوق على ذات الأمة، أو تفوق “ضميرها الجمعي”.
فمن لا يكون الأمة، لن يكون سوى اللاشيء أو العدم.
هذه ليست المرة الأولى، كما لن تكون الأخيرة، التي يفتي فيها شيخٌ ب”ضرورة قتل” الحريات الفردية، والرأي الآخر، وقتل الآخر المختلف، “الخارج” على الدين، و”الواجب محوه شرعاً”، كما يُدّعى.
في مايو أيار 2005، على سبيل المثال، وقّع 63 عالماً وشيخاً وداعية، على بيانٍ طالبوا فيه ب”تجرّيم” شاب سعودي(هشام عبدالرحمن)، شارك كمتسابق في برنامج “ستار أكاديمي2″، و”تكفير” و”ترذيل” قناة LBC اللبنانية التي بثت البرنامج، ودعوا هذا الشاب وجميع المشاركين معه، والأمير الوليد بن طلال(لأنه أثنى على النجاح الذي حققه الشاب)، ورئيس تحرير جريدة الرياض تركي السديري، وكل من شارك بالحضور أو التغطية الإعلامية أو الهدايا أو التصويت، دعوهم جميعاً إلى التوبة إلى الله تعالى”.
البيان اعتبر ما حصل، آنذاك، “جريمة بحق الإسلام، وجناية عظمى في حق الأمة”.
لماذا؟
لأنّ قناةً تلفزيونية فسحت المجال في إحدى برامجها، لبعض حريةٍ، كي يتنفس فيها الشباب العربي، وليكونوها، ويمارسوها، كأبسط حقٍ من حقوقهم المفترضة.
فأين هي المشكلة؟
المشكلة، تكمن في ال”واحد” الذي لا يمكن أن يساوي سوى ال”واحد”.
المشكلة تكمن في الإصرار على ضرورة ووجوب أن يكون العالم الكثير “واحداً”: “دين واحد”، و”كتاب واحد”، و”رسول واحد”، و”مؤمن واحد”، و”حلال واحد”، و”حرام واحد”.
المشكلة تكمن في “إجبار” الأنا والآخر، في أن يكونوا “نحن”: “نحن” الحق الواحد، و”نحن” الصح الواحد، و”نحن” الأكيد الواحد.
المشكلة تكمن في “كن نحن”: كن “نحن”، التي هي كل الدين، وكل المجتمع، وكل التاريخ، وكل الأخلاق، وكل الماقبل وكل المابعد، وإياك أن تكون سواها.
قبل أيام أطلت مغنية البوب ستار، والكاتبة والممثلة الأمريكية الشهيرة مادونا، المعروفة بطلاّتها “الإستفزازية” و”تحرشاتها الفنية”، بالفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية، على جمهورها، في حفلٍ قُدِّر عدد الحضور فيه، بستين ألفاً. في هذا الحفل، أهدت مادونا، كعادتها، أغنية “Like a Virgin” (كفتاة بكر) إلى بابا الفاتيكان بنيديكتوس السادس عشر، قائلةً: أهدي هذه الأغنية إلى البابا، لأني طفلة الرّب..كلكم أطفال الرّب”.
لا شك أن هذا “الإهداء الفني”، الإستفزازي، من مادونا، إلى رأس الفاتيكان، اعتبر على مستوى الكنيسة الكاثوليكية، وإيمان أتباعها، “إهانةً صريحة” إلى البابا، التي هي “إهانة” لكل العالم المسيحي، ولكننا، مع هذا، لم نسمع أحداً، لا من داخل “حرم” الكنيسة ولا من خارجها، بأن طالب “مادونا” وجمهورها العريض، بالتوبة إلى الرب، كما لم نرَ “قساً”، أو حتى “نصف قسٍ”، يدعو إلى “قتلها”، لخاطر قداسة البابا ورّبه.
هي غنت بكامل حريتها لحرية جمهورها، دون أن نسمع أو نقرأ أنباءً، تتحدث عن “فتوى” بإهدار دمها، أو عن التفافٍ “كنيسي” على قانون الدولة العلمانية لتجريمها. الكنيسة وفاتيكانها سلموا أمرها وأمر “لاإيمانها” إلى الرب، وتركوها لحريتها بأن تؤمن بما تشاء، وأن تكفر كما تشاء. فالرّب هو أقوى وأعظم، من أن يدافع عنه “بابا”، أو “قس”، أو أي “صك كنيسي”.
الكنيسة، لم تعتبر “أغنية” مادونا وإهداءها، “خطراً ماحقاً” على أمة الصليب، أو “تهديداً” لكيانها ووجودها، حاضراً أو مستقبلاً، ينبغي “محوها” من كل الوجود.
ثم أن تعتبر “مادونا” نفسها “طفلةً للرب”، كما اعتبرت كل الحاضرين من جمهورها “أطفالاً له”، لا يمكن أن يفسّر تفسيراً واحداً أحداً، بأنها تريد بكلامها هذا، “إهانة الرب” عبر “إهانتها للبابا” أو بالعكس. وأن تهدي مادونا العارية، للبابا “أغنية عارية”، ب”صوتٍ عارٍ”، لا يعني بالضرورة أنها “أهانت” البابا ومجلسه الكنيسي، أو أنها “عرّت الكنيسة” في عريها، بقدر ما يمكن أن يعني بأنها مارست حريتها في أغنيتها، حين قررت أن تهدي صوتها الحر، لمن تشاء وأن تغني لمن تشاء، كما تشاء.
لا يُنكر أن العالم، بغربه وشرقه، لا يزال عالماً يصعب عليه العيش من دون الدين والقيم الدينية، أياً كانت جهتها. فلا يزال الدين، كبعض طريقٍ روحية، يحتل حيزاً كبيراً من حياة الناس ودنياهم الروحانية، شرقاً وغرباً، للعبور إلى الماوراء، وما فوق الطبيعة، وما فوق الإنسان.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، بالرغم من انتقاد البعض الديني (كريستيان دي كينسي، استاذ الفلسفة في جامعة كاليفورنيا مثلاً)، مؤخراً، النهاية الغير محسوبة لتجربة “الإنفجار الكوني العظيم”، إذ أعتبر هذا البعض، أن محاولات إثبات أن الكون نشأ من لا شيء، عبر مادة صغيرة جداً يحاول أن يتوصل إليها العلماء من خلال تجاربهم حالياً، هو أمر يخالف العقائد السماوية والأساطير، لأن الأديان تؤكد أن هناك إله خالق لهذا الكون، وليست الطبيعة كما يدعى البعض؛ رغم معارضة هذا “البعض الديني الرافض” للعلم، فإنّ الدين، كمؤسسة، لم يمنع العلم، ولم يقف في وجه تجاربه، والكنيسة لم تفرض “علمها” عن الله، على بحث العلماء في علمهم عن أصل الله ومخلوقاته، وكائناته.
أحد العلماء المشاركين في هذه التجربة العظيمة والفريدة، التي انطلقت انطلاقةً ناجحة في العاشر من سبتمبر الجاري، قال: “نحن نحب العلم لأننا نحب الله”، وذلك في إشارةٍ جميلة منه، إلى أنّ “البحث عن العالم وأصله”، لا يعني بالضرورة بحثاً في “إنكار” أصل الله، الذي أسس لأصل العالم. فحب العلم والبحث عن العالم عبره، ليس من الضروري أن يتصادم مع حب الله، والبحث عن عوالمه، بقدر ما يمكن أن يعني السعي إلى المزيد من حبه في العالم وحب العالم فيه.
والسؤال الموازي الذي يبقى أن نوجهه إلى الشيوخ من أهل الفتاوى، الذين يحاولون اختزال كل الدين في فتاويهم، ويرسخون الفتوى في أذهان الشاغلين والمشغولين بها، لكأنها كل حدود الدين وكل مساحته، هو: لماذا كل هذا الإصرار على “تديين” كل الدنيا، واختزالها في بعضها، وكأن الدين هو الكل، وما الدنيا إلا جزءاً من أجزائه؟
لماذا اختزال كل الدين، في بعضه، لكأن الفتوى هي كل الدين، وكل ما قبله وما بعده؟
لماذا كل هذا “الإرهاب الفكري” على الدنيا، وعلومها، وعاداتها، وحرياتها، وقوانينها، وأحكامها،…إلخ، للدخول “الضروري” لا بل “الإجباري” في الدين وعاداته وأحكامه وعباداته؟
لماذا كل هذا التدخل الأرضي، البشري، في شئون الله وسمواته، والحكم على العالمين بحكم الله، والإفتاء بهدر الدماء وقتل النفس، بإسم الله، طالما أن يد الله، العالي على كل البشر، هي العليا، ولا حكم يعلو على حكمه؟
لماذا لا يسعى القائمون على صناعة الفتاوى، بدلاً من كل هذا التعويل على الدين في فتاويهم، إلى تعليم أهل الدين، مثلاً، بأن يحبوا الجمال، والفن، والأغنية، والرقص، والشعر، والكتاب، والفلسفة، والعلم، والسؤال عن الوجود، والحياة، والحرية، كي يحبوا الله أكثر وأكثر وأكثر.
فمن يحب الدنيا بحرية، لا يمكن له أن يحب الدين في غير الله، ومن دون كتاب الله، وعلوم الله، ورسل الله، وأوليائه الأولين.
ايلاف