نهاية نهاية التاريخ..!
داود تلحمي
أياً كانت هوية الرئيس الأميركي الذي سيتم انتخابه في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر القادم، فهو سيجد نفسه أمام خارطة سياسية جديدة للعالم، مختلفة كثيراً عن تلك التي كانت قائمة أمام الرئيس الذي جرى انتخابه، أو بالأحرى تثبيته، في العام 2000، وحتى أمام ذلك الرئيس ذاته الذي أُعيد انتخابه في العام 2004. وليس من المبالغة القول بأن سياسات الرئيس الذي سيغادر سدة الرئاسة في مطلع العام القادم، جورج ووكر بوش، خلال السنوات الثماني الماضية، لعبت دوراً غير بسيط في تحقيق هذا التغيير في الوضع العالمي، وإن عن غير قصد، وبالعكس من رغباته وتوجهاته الفعلية. والتغيير الأساسي على هذا الصعيد تمثَّل، بلا شك، في نهاية حقبة القطب الأوحد، التي فرضت نفسها بعد انهيار الإتحاد السوفييتي.
وهذا التغيير لم يتحقق بين ليلة وضحاها طبعاً، أو خلال أشهر قليلة، ولكنه حصيلة جملة من التطورات التي تراكمت، خلال السنوات الأخيرة خاصةً، وبرزت الى السطح بشكل فاقع في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية. فعلى سبيل المثال، شهد شهر آب/أغسطس المنصرم حدثين مهمين، مختلفين تماماً من حيث طبيعتهما، ولكن كلاهما يؤشّر بقوة الى هذا التحول الذي جرى، ويجري، في الخارطة العالمية:
** الحدث الأول: كان التظاهرة الكبرى التي شكّلتها دورة الألعاب الأولمبية التي جرت في العاصمة الصينية بيجينغ، وهي الدورة التي شهدت إستعراضاً مذهلاً لعضلات الصين الجديدة، سواء في مجال التنظيم والإدارة والبناء والقدرات الفنية واستخدام التكنولوجيات المتقدمة، أو في حصد الجوائز الأبرز، بحيث تجاوزت الميداليات الذهبية التي حاز عليها الرياضيون الصينيون، لأول مرة، ميداليات غيرها من دول العالم الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي احتكرت المرتبة الأولى خلال الدورات الثلاث السابقة (1996، 2000، 2004). هذه الإنجازات الرياضية والتنظيمية الصينية لم تكن سوى مؤشر مكثف على الصعود الإقتصادي والصناعي والتكنولوجي السريع للصين خلال العقدين الماضيين، وخلال السنوات الأخيرة بشكل خاص، وهو صعود يضعها الآن في المرتبة الثانية العالمية، بعد الولايات المتحدة، من حيث حجم الناتج الداخلي الإجمالي، محتسَباً بقيمته الشرائية الفعلية. وهكذا تكون الصين قد تجاوزت خلال السنوات الأخيرة، بهذا المعيار، دولاً وإقتصادات عالمية كبرى، مثل بريطانيا وفرنسا، وحتى أخيراً ألمانيا واليابان.
** الحدث الثاني والأكثر دوياً واستمرارية بمفاعيله: كان انفجار الوضع في دولة جورجيا، وما رافقه من تصاعد في المواجهة السياسية والدعاوية والتحركات العسكرية، بين روسيا الإتحادية، من جهة، والولايات المتحدة ودول أوروبية رئيسية، من جهة أخرى. وهو تصاعد جرى إثر الرد الروسي العسكري الشديد على مبادرة الرئيس الجورجي، الموالي للغرب، ميخائيل ساكاشفيلي، بمحاولة إستعادة السيطرة بالقوة على أحد الإقليمين الرافضين للسلطة المركزية في جورجيا منذ مطلع التسعينيات الماضية، أي منذ تفكك الإتحاد السوفييتي وتحوّل جمهورياته السابقة الى دول مستقلة، ومن بين هذه الدول التي استقلت آنذاك جمهورية جورجيا نفسها. وهذان الإقليمان، أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، كانا يطالبان منذ ذلك الحين بهامش واسع لهما تجاه السلطة المركزية في جورجيا، وحتى بالإستقلال عنها، لكون غالبية سكانهما لا تنتمي الى القومية والثقافة الجورجيتين.
وذهب الرد الروسي على التدخل العسكري لجيش ساكاشفيلي في أوسيتيا الجنوبية، وهو تدخل تزامن مع يوم افتتاح الألعاب الأولمبية في العاصمة الصينية، الى حد الدخول الى مدن جورجية رئيسية خارج الإقليمين المذكورين أعلاه، واللذين كانت القوات الروسية تحتفظ، منذ التسعينيات الماضية، بتواجد عسكري فيهما كقوات حفظ سلام، بموافقة دولية.
فقد دخلت القوات الروسية، في سياق هذا الرد على الضربة الجورجية لأوسيتيا الجنوبية، الى مدينة غوري، التي تبعد أقل من 80 كيلومتراً عن العاصمة الجورجية تِبليسي. وغوري هي مسقط رأس يوسف دجوغاشفيلي، المعروف على نطاق أوسع باسم ستالين، الذي كان الرجل القوي، ثم الحاكم الفعلي، للإتحاد السوفييتي منذ وفاة قائد الثورة البلشفية ومؤسس الدولة السوفييتية، فلاديمير لينين، في مطلع العام 1924، وحتى وفاته (أي وفاة ستالين) في العام 1953.
والى جانب غوري والمناطق المحيطة بها، قام الأسطول البحري الروسي والقوات الروسية بالتمركز حول أحد أهم الموانئ الجورجية على البحر الأسود، ميناء بوتي، والواقع الى الجنوب من سواحل إقليم أبخازيا، الإقليم الساحلي الواقع في أقصى الشمال الغربي من جورجيا والرافض لسيطرة حكومتها المركزية، كما أشرنا، والذي ذهب بعد كل ما جرى، مع الإقليم الآخر، أوسيتيا الجنوبية، الى حد إعلان الأستقلال الكامل عن جورجيا. كما قامت القوات البرية والجوية الروسية بقصف مواقع وقواعد ومصانع عسكرية رئيسية في جيورجيا، والعديد منها تم بناؤه بدعم مادي وعملي ولوجستي واسع، أميركي وإسرائيلي.
حضور عسكري وأمني كثيف أميركي وإسرائيلي في جورجيا… وأهداف استراتيجية
فقد برزت بشكل واضح، خلال السنوات الأخيرة، علاقة نظام ساكاشفيلي الوثيقة ليس فقط مع الولايات المتحدة، وإنما بشكل وثيق أيضاً مع إسرائيل. الى حد أن عدداً من المسؤولين الجدد في هذا النظام هم من حملة الجنسية الإسرائيلية، الى جانب الجورجية، بمن فيهم وزير الدفاع الجورجي الحالي، دافيت كيزيراشفيلي، الذي درس وعاش في إسرائيل ويتكلم اللغة العبرية بطلاقة. والوضع نفسه ينطبق على وزير آخر في الحكومة الجورجية على الأقل، هو وزير الدولة للإستيعاب تيمور ياكوباشفيلي، وفق صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية (10/8/2008).
وجدير بالتذكير هنا أن جمهورية جورجيا، السوفييتية سابقاً، شهدت، بعد الإطاحة في العام 2003 برئيسها السابق إدوارد شيفاردنادزه (وزير خارجية الإتحاد السوفييتي ابان عهد ميخائيل غرباتشوف في النصف الثاني من الثمانينيات الماضية)، انتخاب الرئيس الموالي للغرب ميخائيل ساكاشفيلي، في اقتراع جرى في العام التالي 2004. وأقام هذا الرئيس الجديد، كما ذكرنا، تحالفاً وثيقاً مع كلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين قدمتا له دعماً واسعاً على كافة الأصعدة، وخاصة على الصعيدين العسكري والأمني.
وتشير بعض المصادر السياسية الغربية الى أن الوجود العسكري والأمني الإسرائيلي القوي في جورجيا، البلد الواقع على حدود تركيا الشمالية الشرقية والذي لا تفصله عن حدود إيران الشمالية سوى أراضي دولة أرمينيا، السوفييتية سابقاً أيضاً، كان من بين أهدافه التحضير للإنطلاق من هناك لضرب إيران، في حال تم إقرار اللجوء الى القوة تجاهها من قبل إسرائيل، بضوء أخضر من قبل الولايات المتحدة طبعاً، حيث لا يمكن أن تُقدم إسرائيل على عمل خطير النتائج كهذا بدون غطاء كامل أميركي. وفي كل الأحوال، فإن الحضور الإسرائيلي في جورجيا اتخذ شكل تحالف حميم، حيث تم توفير أسلحة إسرائيلية متطورة لجيش جورجيا، بما في ذلك طائرات حربية مقاتلة وطائرات تجسس بدون طيار، كما تم بناء مصانع إسرائيلية متطورة للأسلحة والطائرات الحربية في البلد.
ويمكن النظر الى التواجد العسكري الأميركي في هذا البلد من هذه الزاوية أيضاً، في حال قررت الولايات المتحدة ضرب إيران، وهو احتمال تراجع في الأشهر الأخيرة تحت ضغط عوامل وضغوط داخلية ودولية على مركز القرار الأميركي، مع ان من الممكن إعادة إحيائه، ولو كاحتمال محدود، خاصةً في حال نجاح المرشح الرئاسي الجمهوري الأميركي جون ماكّين في انتخابات 4/11 الرئاسية القادمة.
علماً بأن أهداف الولايات المتحدة من تدعيم وجودها العسكري والسياسي في جورجيا أوسع من ذلك طبعاً. فحسابات واشنطن هناك مرتبطة بالموقع الإستراتيجي لهذا البلد في جنوب القوقاز الروسي، وعلى طريق أنبوب نقل النفط من باكو (عاصمة أذربيجان) على ضفاف بحر قزوين الى ميناء جيهان التركي الواقع شرقي البحر المتوسط، وهو الأنبوب المعروف باسم أنبوب باكو- تبليسي- جيهان، والذي بدأ الضخ فيه من باكو في ربيع العام 2005 ووصلت أولى كميات النفط الى جيهان في أيار/مايو 2006. وهذا الأنبوب تم إنشاؤه ليكون منافساً لأنابيب النفط الأخرى التي تنطلق من بحر قزوين، وتذهب غرباً عبر روسيا. ويتجاوز طول هذا الأنبوب الـ1700 كيلومتر، ويُعتبر الثاني في العالم من حيث الطول. والأمر نفسه ينطبق على خط نقل الغاز الطبيعي المعروف باسم باكو- تبليسي- إرزوروم، والذي ينقل الغاز الأذربيجاني عبر جورجيا الى البحر المتوسط في شرق تركيا أيضاً. وحتى بدء الصراع الساخن الأخير، كان هناك تخطيط لإقامة أنبوب ينقل هذا الغاز الطبيعي من شرق تركيا الى بلدان جنوب ووسط أوروبا، وكذلك إقامة أنبوب تحت مياه بحر قزوين لنقل غاز تركمانستان الى باكو، ومنها الى الطريق الجورجي- التركي. وبناء كل خطوط النقل هذه يشكِّل جزءً من مشهد الصراع الإقليمي والعالمي على مصادر النفط والغاز، ويضع الصراع الجاري حالياً في إطار أوسع، حيث أحد أهداف هذه الشبكة تقليص اعتماد دول أوروبا على الوقود المنقول من روسيا أو عبرها.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن نفط قزوين الذي يصل الى ميناء جيهان يشكّل مصدراً مهماً أيضاً لها، حيث لا يبعد هذا الميناء التركي سوى زهاء الـ400 كيلومتر عن الموانئ الإسرائيلية، وخاصة ميناء عسقلان، الذي يرتبط بميناء إيلات الإسرائيلي على خليج العقبة بأنبوب لنقل النفط أُنشئ منذ العام 1968، بحيث تتم إعادة تصدير جزء من النفط الواصل الى جيهان الى بلدان ومناطق آسيوية، مثل الهند وجنوب شرق آسيا، وهو ما يشكّل التفافاً، مرةً أخرى، على مسارات الأراضي الروسية في نقل نفط وغاز منطقة قزوين شرقاً، باتجاه الصين واليابان والهند ودول جنوب شرق آسيا. وواضح أن تمرير النفط عبر أنبوب عسقلان-إيلات أقصر من عبور حاملات النفط في قناة السويس، وبالتالي أقل كلفةً للأطراف المعنية.
وكان بعض المحللين، مثل الإقتصادي الكندي مايكل شوسودوفسكي، قد ذهبوا الى حد الربط، في حينه، بين الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006 ومشروع إقامة أنبوب تحت مياه البحر لنقل النفط من جيهان الى عسقلان، في محاولة من الحليفين اللذين وقفا وراء هذه الحرب، الولايات المتحدة وإسرائيل، لضمان سلامة هذا الأنبوب، في حال إقامته. لكن الرياح لم تجرِ، آنذاك، كما كانت تشتهي السفن الأميركية-الإسرائيلية…
معلق بريطاني: جورجيا “مقبرة العالم أحادي القطب”
ومن بين التعليقات الكثيرة التي نُشرت على الإشتعال المفاجئ للحريق الجورجي، وتوتر العلاقات الروسية الذي رافقه مع الولايات المتحدة ومع عدد من الدول الأوروبية، تعليق محللٍ سياسي بريطاني معبّر عن واقع الحال، ورد في صحيفة “ذي غارديان” اللندنية المعروفة يوم 28/8 تحت العنوان الوارد أعلاه. والمعلق كاتب سياسي معروف اسمه شوماس مايلن، وهو ابن مدير عام سابق لهيئة البث البريطانية “بي بي سي”.
والعنوان أعلاه يؤشر بوضوح الى مضمون المقالة: لم تعد الولايات المتحدة قادرة على ردع بلد مثل روسيا عن القيام بخطوات تحدٍ لإرادة “القطب الأوحد”، الذي سعى، منذ غياب الإتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات الماضية، الى فرض حضوره وإرادته على الصعيد الكوني، ولو بالقوة. وما جرى في جورجيا منذ هجوم جيشها على إقليم أوسيتيا الجنوبية هو تأكيد آخر، من وجهة نظر المعلّق، على انتهاء مرحلة التفرد الأميركي بالنفوذ الكوني وبدء مرحلة جديدة ذات سمات مختلفة.
هذا مع العلم بأن عملية التحوّل في السياسة الروسية الخارجية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، واستعادة الثقة الروسية بالنفس التي أظهرتها الأحداث الأخيرة، جرت بشكل تدريجي خلال السنوات الأخيرة. وكانت إحدى إشاراتها العلنية الأولى الأبرز مداخلة للرئيس الروسي آنذاك، فلاديمير بوتين، يوم 10/2/2007، في “مؤتمر ميونيخ الثالث والأربعين حول سياسات الأمن”، انتقد فيها بحدةٍ ووضوح تفرد الولايات المتحدة بالقرارات المصيرية في الشأن العالمي وبالمبادرة في التدخل في شؤون بلدان ومناطق أخرى في أنحاء العالم، متجاوزةً كل الهيئات الدولية وقواعد القانون الدولي. وهي مداخلة فاجأت الحضور، بمن في ذلك وزير الدفاع الأميركي، المشارك في المؤتمر، روبيرت غيتس، الذي حاول في رده إبداء شيء من السخرية والإستخفاف بالرئيس الروسي وتذكيره بكون كليهما، أي بوتين وغيتس، خريجي أجهزة المخابرات في بلديهما. ومعروف أن غيتس كان رئيساً للمخابرات الأميركية (سي آي إيه) بين العامين 1991 و1993. لكن الوزير الأميركي لم يكن، في حينه، قد أدرك بالضبط كم ان الأمور تغيّرت في المزاج الروسي، الرسمي والشعبي، تجاه الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، عما كانت عليه في السنوات الأولى التي تلت انهيار الإتحاد السوفييتي.
***
هذا، وأورد كاتب آخر في أسبوعية “ذي أوبزرفر”، البريطانية أيضاً، في العدد المؤرخ ليوم 31/8، وهو بيتر بومونت، تحليلاً مشابهاً لتحليل زميله في “ذي غارديان” لمدلولات الأحداث على الجبهة الجورجية، تحت العنوان المعبِّر: “الأسبوع الذي دفن النظام العالمي الجديد”!
ومعروف أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب هو الذي تحدّث عن “نظام عالمي جديد” في فترة الحرب الخليجية الثانية عام 1991 التي ترافقت مع انهيارات أنظمة التحول الإشتراكي في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفييتي. ومن المفارقات الطريفة هنا ان ما يمكن أن يعتبرَه بوش الأب إنجازاً ضخماً في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، وهو الإطاحة بالمنافس السوفييتي في “الحرب الباردة” خلال عهده، قد تبدد في عهد بوش الإبن، والى حد ما نتيجة أفعال هذا الأخير! فما حدث من تحوّل في المناخ الدولي خلال السنوات القليلة الماضية كان يمكن أن يحتاج الى وقت أطول لولا تفاقم نزعة التوسع العسكري الأميركية وسعي إدارة بوش الإبن لتشديد السيطرة الأميركية الكونية على مناطق الموارد الإستراتيجية، وخاصة النفط والغاز، عبر استخدام الآلة العسكرية الضخمة لدولة “القطب الأوحد”، بدءً باجتياح أفغانستان في أواخر العام 2001 ثم العراق في مطلع العام 2003. وهو التوجه الذي استنزف القوة العسكرية للولايات المتحدة وشتتها، وردع مطامح تمدد لمثل هذه العمليات الى بلدان أخرى مثل إيران، كما كبّد الأميركيين، الى جانب الخسائر البشرية والمعنوية، تفاقماً كبيراً في وضعهم الإقتصادي.
***
مستشار جون ماكّين للشؤون الدولية: “نهاية التاريخ” انتهت!
والعنوان الرئيسي لمقالتنا أعلاه، أي “نهاية نهاية التاريخ”، استعرناه، في الواقع، من كاتب أميركي من الجماعة المعروفة باسم “المحافظين الجدد”، اسمه روبيرت كيغَن، كان قد وضعه لمقالة نشرها في 23/4 من العام الحالي 2008 في مجلة نصف شهرية تحمل اسم “ذي نيو ريبابليك”، أي الجمهورية الجديدة. وقصد الكاتب الأميركي اليميني من عنونة مقالته هكذا القول بانتهاء مفعول نظرية المفكر الأميركي ذي الأصل الياباني، فرانسيس فوكوياما، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات الماضية، حول كون انهيار الإتحاد السوفييتي وتجارب التحول الإشتراكي الأخرى في أوروبا الشرقية يؤشر الى انتصار دائم للنموذج السياسي- الإقتصادي السائد في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهو النموذج الذي أسماه “الديمقراطي الليبرالي”، على أرضية فشل النموذج الآخر الذي كان قد شكّله نظام الإتحاد السوفييتي وحلفائه في أوروبا الشرقية.
وتحدث روبيرت كيغَن في مقالته عن صعود الصين الإقتصادي، وبالتالي السياسي، العالمي، في ظل انفتاح إقتصادي واسع على رأس المال الخاص والإستثمارات الخارجية مقابل بقاء السلطة محتكرة من قبل الحزب الحاكم، الحزب الشيوعي الصيني، من جهة، ومن جهة أخرى، ابتعاد روسيا عما اعتبره الساسة الغربيون مرحلة “التحول الديمقراطي” في التسعينيات ابان حكم بوريس يلتسين، واستبداله بنموذج حكم تم فرضه، خاصة منذ وصول فلاديمير بوتين الى الحكم في مطلع القرن الجديد، وهو نموذج نظام يحتفظ على الصعيد الإقتصادي بالبنية الرأسمالية الأساسية، مع بعض التشذيب المحدود في مظاهرها الأكثر تسيّباً وفساداً، ولكنه يتحول الى مزيد من وضع القيود على “الحالة الديمقراطية”، من وجهة نظره، وعلى دور القوى الخارجية وتدخلاتها في الشأن الداخلي الروسي، بحيث تحوّل النظام في روسيا، على حد تعبير الكاتب، الى نظام “أوتوقراطي”، سلطوي.
وهو تطور فتح الباب، مع النموذج الصيني، لطرح وجود نموذج آخر سياسي-إقتصادي “ناجع” على الصعيد العالمي، غير النموذج السياسي الغربي، “الديمقراطي الليبرالي”، الذي لم يتمكن من فرض نفسه بالكامل عالمياً كما كان يفترض فوكوياما. وهو نموذج بديل يمكن أن يكون مُغرياً لبعض الأنظمة الأخرى في العالم، بما فيها أنظمة الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، ذات الأغلبية السكانية المسلمة، والتي كانت الولايات المتحدة تطمح الى بناء علاقات وثيقة معها، وإقامة قواعد عسكرية فيها، تخدم غرضين معلنين للإدارة الأميركية:
** السعي الى السيطرة على بعض، أو معظم، مناطق النفط والغاز الطبيعي في بحر قزوين وحوله وخطوط نقلها الخارجية غرباً وشرقاً، من جهة،
** ومن الجهة الأخرى، دعم ما تسميه واشنطن “الحرب على الإرهاب”، بما في ذلك الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة وعدد من حلفائها في أفغانستان، البلد المتاخم لعدد من الجمهوريات الآسيوية، السوفييتية سابقاً، وتحديداً لكلٍ من تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان.
** هذا بالإضافة الى غرض إضافي، غير معلن بوضوح، لهذا التوجه الإستراتيجي الأميركي لتثبيت الحضور في منطقة آسيا الوسطى، وهو الإقتراب من الصين، والعمل بشكل متواصل ودؤوب على إحاطتها بمجموعة من القواعد العسكرية والأنظمة الحليفة لأميركا.
وهذا التوجه الإستراتيجي الأخير المتعلق بالصين تعمل عليه الولايات المتحدة منذ عدة سنوات، ليس فقط في هذه المنطقة الآسيوية الوسطى، وإنما في كل المناطق المحيطة بالصين: حيث سعت إدارة بوش الإبن في السنوات الأخيرة، وما زالت تسعى، الى إقامة ما يشبه الحلف العسكري- الإستراتيجي في شرق وجنوب آسيا لمواجهة تنامي النفوذ الصيني، وهو حلف رأت واشنطن أن تتشكل نواته الأولى من اليابان وكوريا الجنوبية والهند. والدولة الأخيرة، أي الهند، لم تحسم أمرها تماماً بهذا الإتجاه، وإن كانت الحكومة الهندية الحالية، بعد سحب القوى اليسارية الهندية دعمها لها في مطلع تموز/يوليو المنصرم بسبب ميل الحكومة لقبول مشروع التعاون النووي المدني المقترح من قبل الولايات المتحدة، باتت أقرب الى الخيار الأميركي منها الى التلاقي مع الصين وروسيا، بالرغم من كون الهند عضواً مراقباً في منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم بالأساس الدولتين الكبيرتين، الصين وروسيا، بالإضافة الى أربع جمهوريات، سوفييتية سابقاً، من آسيا الوسطى.
وكان الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي يثير الزوابع ويطلق التهديدات حول الجهد النووي الإيراني منذ عدة سنوات، هو الذي اقترح على الهند، الدولة التي من المعروف والمعلن أنها تمتلك أسلحة نووية منذ فترة غير قصيرة، خلال زيارة له، أي للرئيس الأميركي، الى نيودلهي في شهر آذار/مارس من العام 2006، عقد اتفاق أميركي- هندي للتعاون في المجال النووي المدني. وكان قد جرى تأجيل الموافقة من الجانب الهندي على هذا الإقتراح، بعد تلك الزيارة، بسبب معارضة القوى اليسارية الهندية الأربع المشاركة في الإئتلاف الحاكم (وأبرزها الحزب الشيوعي الهندي – الماركسي). وكانت هذه القوى الأربع قد عقدت إتفاقاً مع حزب المؤتمر الهندي بعد انتخابات العام 2004، لتشكِّل له شبكة أمان في المجلس النيابي، الذي لا تتوفر فيه أغلبية لحزب المؤتمر وحده. ولكن أحزاب اليسار هذه فضّلت، في ذلك الحين، البقاء خارج الحكومة، ودعم حكومة حزب المؤتمر من خارجها. وكان هدفها من هذا الدعم الحؤول دون عودة الحزب الهندوسي اليميني، بهاراتيا جاناتا، الذي حصل على عدد أقل بقليل من مقاعد حزب المؤتمر في المجلس النيابي، الى الحكم. ولكن أحزاب اليسار انتهت، كما أشرنا، الى الإنسحاب من الإئتلاف مؤخراً بعد مصادقة الحكومة الهندية على مشروع الإتفاق مع واشنطن.
وكان جورج بوش يعمل في تلك الفترة، أيضاً، على إشراك أُستراليا في هذا الحلف الآسيوي الشرقي- الجنوبي المحيط بالصين والعامل على محاصرتها، أو بالأحرى “تزنيرها” بدول حليفة وقواعد عسكرية لأميركا، بهدف الحد من تمدد نفوذ الصين المتزايد في تلك المنطقة. وفي تلك الفترة، أي في العام 2006، كان الإئتلاف اليميني الأسترالي هو الحاكم، بزعامة رئيس الإئتلاف ورئيس الوزراء السابق، جون هيوارد، الحليف الوفي لإدارة بوش، خاصةً في حربها على العراق. لكن هيوارد خسر الإنتخابات النيابية الأخيرة في العام 2007 لصالح حزب الشغل، أو حزب العمال، الذي سحب زعيمه، ورئيس حكومة أستراليا الجديد، كيفن راد، القوات الأسترالية التي كانت تشارك في العمليات القتالية في العراق. ويبدو أن راد لا يميل، من جانب آخر، الى اتخاذ موقف فج مجابهٍ للصين. خاصة وأن لأستراليا علاقات إقتصادية واسعة مع الصين، وأن هناك جالية صينية كبيرة في أستراليا. علماً بأن رئيس الحكومة الأسترالي الجديد هذا، الشاب نسبياً مقارنة بسلفه، عمل دبلوماسياً في الصين، وهو يجيد اللغة الصينية الرئيسية (ماندارين)، ويحسب الحساب للأهمية المتزايدة لهذا البلد العملاق على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
***
ولنعد الى مقالة روبيرت كيغَن وحديثه عن “نهاية نهاية التاريخ”: ذلك أن أهمية المقالة تكمن في كون كاتبها أحد أبرز المستشارين في الشؤون الخارجية للمرشح الجمهوري للإنتخابات الرئاسية الأميركي، جون ماكّين. ويستخلص كيغن في مقالته هذه أن الولايات المتحدة أمام عالم جديد وموازين ومعطيات مختلفة عن تلك التي كانت قائمة في التسعينيات الماضية وحتى فترة قريبة. وهو يطرح، بالطبع، تصوراته لكيفية التعاطي مع هذا الواقع الجديد للحفاظ على المصالح الأميركية الكونية، في عالم لن يكون بعد الآن مرتكزاً على قطب واحد.
عالم متعدد الأقطاب… أو “لاقطبي”
وهنا، من المفيد الإشارة أيضاً، في السياق ذاته، الى مقالة مهمة أخرى كان قد نشرها قبل بضعة أشهر ريتشارد هاس، خبير الشؤون الدولية الأميركي، والموظف الكبير السابق في إدارتي جورج بوش الأب وجورج بوش الإبن، وهو الرئيس الحالي لـ”مجلس العلاقات الخارجية”، مركز الدراسات والأبحاث ذي النفوذ الكبير والمؤثر في صياغة القرار في واشنطن. والمقالة، التي نَشَرت صحف فلسطينية وعربية ترجمةً لها، جاءت تحت عنوان “عصر اللاقطبية… ماذا سيتبع سيطرة الولايات المتحدة”. وهي مقالةٌ نشرها هاس في دورية “فورين أفّيرز” المعروفة، التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية نفسه، وذلك في عددها المؤرَّخ لشهري أيار/مايو وحزيران/يونيو الماضيين.
ويؤكد ريتشارد هاس في مقالته على انتهاء مرحلة التفرد الأميركي بالنفوذ الكوني، ويتحدث عن عالم يتسم بتعددية وتنوع واسعين للقوى النافذة فيه، في رأيه. والأقطاب الجديدة المؤثرة في الوضع العالمي الجديد، ليست بالضرورة دولاً فقط. فهو يتحدث أيضاً عن الهيئات العالمية والإقليمية المؤثرة، وعن الشركات الكبرى، وعما يسميه “الميليشيات”، وعن منظمات غير حكومية معينة، كلها فتحت المجال أمام تشكُّل خارطة عالمية جديدة أطلقَ عليها هاس صفة “اللاقطبية”.
***
ومهما يكن من أمر، فإن من المؤكد الآن أننا أمام مرحلة جديدة على الصعيد العالمي، لم يعد فيها بوسع الولايات المتحدة السعي لاحتكار القرار والتأثير الكونيين الذي كانت تطمح إليه في التسعينيات الماضية والسنوات الأولى من القرن الجديد.
وبالرغم من كون الولايات المتحدة لا زالت القوة العسكرية الأولى على الصعيد العالمي، حيث يقترب حجم إنفاقها العسكري من نصف الإنفاق العسكري في العالم كله (بلغت موازنة واشنطن العسكرية للعام 2008 حوالي 696 مليار دولار، حسب دورية “جينز” للصناعات العسكرية، مقابل 79 ملياراً للدولة الثانية بعدها، بريطانيا، و58 ملياراً للصين التي تأتي في المرتبة الرابعة، بعد فرنسا، في حين تأتي روسيا في المرتبة الثامنة بموازنة تقترب من 37 مليار دولار)، وبالرغم من كون الإقتصاد الأميركي لا زال الإقتصاد الأول من حيث حجم الإنتاج في العالم، إلا ان بوادر الوهن بدأت تظهر على الولايات المتحدة، خاصة بعد تورطها في الحرب في العراق، بعد أفغانستان، وعجزها عن التأثير على الأوضاع ليس فقط في دول صنّفها جورج بوش الإبن ضمن ما أسماه “محور الشر”، مثل كوريا الشمالية وإيران، وإنما حتى على بلد صغير في المشرق العربي مثل لبنان، سعت الإدارة الأميركية في صيف العام 2006، من خلال الحرب الإسرائيلية، الى تطويعه واحتوائه، ولكنها فشلت. ناهيك الآن عما جرى حول جورجيا، وقبل ذلك ما جرى طوال العقد الماضي في بلدان أميركا اللاتينية من تراجع لأنصار الولايات المتحدة، جسّدته سلسلة من النجاحات المتواصلة في العمليات الإنتخابية لقوى وقيادات يسارية، بعضها مناهض بوضوح وقوة للسياسات الأميركية الإمبراطورية الكونية والإقليمية.
ومن جانب آخر، فإن صعود الصين الى ما يقترب من مصاف الدولة العظمى تحقق بسرعة لم يكن العديد من المراقبين والمعنيين يتوقعها، أو كان البعض منهم يتوقع عرقلتها أو اصطدامها بتناقضات وإشكاليات داخلية وخارجية. وعلى أية حال، ما زالت مثل هذه المراهنات قائمة، وإن كانت قد تراجعت كثيراً عن ثقتها بحساباتها واحتمالات نجاحها. فالصين اليوم لها حضور إقتصادي قوي في كل مناطق العالم، بما في ذلك في أميركا اللاتينية، “الحديقة الخلفية” السابقة للولايات المتحدة، كما في محيطها الآسيوي طبعاً، وفي القارة الإفريقية، حيث بات النشاط الإقتصادي الصيني محموماً هناك، سواء المتعلق منه بالمساعدة على البحث عن المواد الأولية، وخاصة النفط والغاز ومختلف المعادن، في عدد من دول القارة، أو المتعلق بالمساعدة على تنمية عدد من الدول الإفريقية عبر محاولة نقل الخبرة الصينية المذهلة في اختصار الطريق نحو الخروج من التخلف وفتح آفاق التطور الإقتصادي المتسارع. وهذا النشاط الصيني في القارة السوداء يثير قلق الدول الغربية، سواء قلق الولايات المتحدة التي تفضّل توفير مصادرها من النفط والغاز من هذه القارة، التي لا يفصلها عنها سوى المحيط الأطلسي، على الإعتماد على منطقة الخليج غير المستقرة، من وجهة نظرها، كما وقلق الدول الإستعمارية القديمة، وخاصة فرنسا وبريطانيا، وهي الدول التي ترى نفوذها الكبير السابق في القارة السوداء يتضاءل أمام أعينها بشكل مضطرد، في منطقة جغرافية كان معظمها، عملياً، في الماضي القريب، “حديقة خلفية” لها. ناهيك عن الإختراق الصيني الواسع للأسواق الأميركية والأوروبية على نطاق واسع، والإختلال في الميزان التجاري مع هذه الدول الرأسمالية المتطورة لصالح الصين، التي باتت تراكم كميات هائلة من احتياطي العملات الصعبة.
أما روسيا، التي كان وضعها قد تدهور بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وكادت تقترب، في التسعينيات، من مصاف دول “العالم الثالث”، على حد تعبير بعض محلليها السياسيين، فقد استعادت الكثير من القوة الإقتصادية في السنوات الأخيرة، خاصة بفضل ارتفاع أسعار النفط ووفرة الغاز الطبيعي لديها، بعد أن عادت روسيا الى مكانة متقدمة في إنتاج المادتين: فهي حالياً الدولة الثانية، بعد السعودية، وبمسافة بسيطة عنها، في حجم الإنتاج النفطي وفي حجم التصدير، والأولى في إنتاج الغاز، علاوة على كون احتياطيها من الغاز الطبيعي يجعلها في موقع بارز عالمياً، حيث تحتوي أراضيها على أكثر من ربع الإحتياطي المعروف من الغاز في العالم، في وقت يتم فيه النظر الى الغاز الطبيعي باعتباره مصدر طاقة مرشحاً للتنامي، باعتباره أقل تلويثاً للبيئة من النفط. كما تسعى روسيا بقيادتها الحالية، ودون تغيير البنية الرأسمالية لنظامها الإقتصادي ما بعد انهيار التجربة السوفييتية، الى تطوير الإقتصاد في مجالات الإنتاج المختلفة، حتى لا تبقى معتمدة بالأساس على تصدير المواد الأولية، التي يمكن أن تتعرض أسعارها في المستقبل للحركة صعوداً وهبوطاً.
مكانة متصاعدة عالمياً للصين وروسيا… وقوى أخرى قد تتبعها
نحن، إذاً، أمام تنامي الدور العالمي لكلٍ من الصين وروسيا، المرشحتين لمزيد من التأثير على أحداث عدد من مناطق العالم، ولمنافسة الولايات المتحدة وحلفائها فيها، ولو في حدود معينة، خاصة وان كلاً من الصين وروسيا عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي. كما هناك أمامهما آفاق لمزيد من التعاون في ما بينهما في عدد من المجالات الهامة، كما تُظهر ذلك اجتماعات منظمة شانغهاي للتعاون، وآخرها القمة التي انعقدت في أواخر آب/أغسطس المنصرم في دوشنبه، عاصمة جمهورية طاجيكستان، السوفييتية سابقاً، والتي لها حدود مع كلٍ من الصين وأفغانستان، ولها علاقات جيدة مع روسيا.
والى جانب روسيا والصين، يتنامى الدور الإقتصادي لدول كبيرة أخرى مثل الهند والبرازيل، هي مرشحة أيضاً لدور عالمي متزايد، بالإضافة الى عدد من الدول الأخرى الأقل حجماً بشرياً والتي يمكن، بحدود ما، أن تكون مؤثرة في رسم خارطة العالم السياسية- الإقتصادية الجديدة خلال السنوات والعقود القادمة.
***
وإذا كان بعض أنصار العولمة الرأسمالية و”الليبرالية الجديدة” حاول أن يعزوَ تنامي اقتصادات بعض هذه الدول، التي كانت قبل سنوات قليلة في مصاف “العالم الثالث” الفقير، الى فوائد العولمة، فإن من السهل توضيح الصورة، خاصة بعد صدور عددٍ من التقارير الدولية، ومنها تقرير للبنك الدولي، تظهر كلها استمرار الحجم الواسع للفقر في العالم في السنوات الأخيرة، وفي المقام الأول في القارة الإفريقية. فتقرير البنك الدولي، الذي لا يمكن اتهامه بـ”اليسارية” طبعاً، وهو تقرير نُشر في أواخر شهر آب/أغسطس المنصرم، يتحدث عن وجود أكثر من مليار ونصف المليار إنسان في عالم اليوم يعيشون تحت خط الفقر، أي واحد من كل أربعة من سكان العالم تقريباً. وإذا كان هناك انخفاض في مستوى الفقر في آسيا الشرقية، التي كانت المنطقة الأفقر في العالم في العام 1981، حسب التقرير، فهو يعود، الى حد بعيد، الى إنجازات الصين في مجال إخراج المزيد من سكانها من مستوى الفقر. حيث أشار التقرير الى أن نسبة الفقر في تلك المنطقة انحدرت من 80 بالمئة من السكان قبل ربع قرن الى 18 بالمئة، وفق معايير البنك الدولي للفقر.
فإذا كانت هذه الدول الكبيرة التي تنامى دورها مؤخراً قد استفادت من انفتاح أسواق دول العالم الأخرى على منتوجاتها وخدماتها، لكونها دولاً تتمتع بمساحة جغرافية كبيرة توفر لها مصادر طبيعية مهمة، كما تتمتع بوفرة كبيرة في اليد العاملة، الأقل كلفةً من اليد العاملة في الدول الغنية، وتمكنت من توفير كفاءات علمية متزايدة من أبنائها، فإن عشرات من البلدان الأقل حجماً بشرياً والأقل موارد طبيعية قد تردّت أوضاعها الى مستويات غير مسبوقة. هذا علاوةً على الإفقار النسبي الحاصل حتى في بعض الدول المتقدمة إقتصادياً بسبب إجراءات تصدير الصناعات الى البلدان رخيصة الأيدي العاملة والتقليص المتزايد لفرص العمل وللضمانات الإجتماعية، على أرضية تطبيق سياسات “الليبرالية الجديدة”، التي تقضم مكتسبات القطاعات الشعبية وتسعى للتراجع عن إنجازات حركة النقابات العمالية وقطاعات الشعب العامل الأخرى.
***
يبقى أن نقول أن تعبير “نهاية التاريخ”، حتى لو استعمله فوكوياما بشكل مجازي، تعبير لا يعكس، بالطبع، الواقع المتحرك والمتطور لمسار التاريخ البشري، الذي لا يمكن افتراض وصوله، في أي زمن كان، الى تتويج نهائي لأفكار أو أوضاع سياسية معينة، خاصةً إذا ما كانت هذه الأوضاع لا توفر عناصر الإستقرار الحياتي والمعيشي والأمني لغالبية سكان العالم، كما هو الحال في المرحلة الراهنة. ولذلك فإن استعمال تعبير “نهاية نهاية التاريخ”، حتى في عنوان هذه المقالة، يأتي هنا بشكل مجازي ومن منطلق النقض للتعبير الأول طبعاً.
وبإمكاننا كذلك أن نؤكد، في هذا السياق، أن تجربة مرحلة “القطب الأوحد” بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، على قصر مدتها، كانت، بشكل عام، تجربة مرة ومأساوية في العالم بمجمله، وفي منطقتنا العربية- الوسط آسيوية بشكل خاص، بفعل اتساع رقعة الحروب ومساعي النهب الواسع لثروات الشعوب واستمرار تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني وتفاقم التنكيل به. وما تحدثنا عنه من بدايات تشكُّل وضع عالمي جديد، يفتح الباب أمام تعددية قطبية وأمام بلورة نظام عالمي جديد، هو تطور إيجابي في كل الأحوال. حتى ولو لم تكن هناك أوهام حول إمكانية حدوث تغيّرات درامية كبيرة في أمد قصير، بما في ذلك في منطقتنا. فذلك التغيّر المنشود يتوقف على عوامل عدة، وفي مقدمتها العوامل الذاتية، المحلية، والإقليمية