صفحات مختارة

انـطـباعات يـساري عــربـي عـــائد حـديـثاً مــن موسكـو الـجــديــدة

كريم مروة
للوهلة الأولى، يبدو بالنسبة إلى اليساري من الجيل القديم خصوصاً، حين يزور مدينة موسكو، العاصمة الحالية للإتحاد الروسي، كما لو أن موسكو الجديدة هذه لا تزال هي ذاتها موسكو القديمة تلك، عاصمة للإتحاد السوفياتي السابق. للإشتباه، في هذه الرؤية الأولية للمدينة، بعض ما يبرره في الشكل. فالمدينة لا تزال تحتفظ بالأساسي من معالم عمرانها، لكن الأساس في ما يدعو إلى الإشتباه، هو من صنع الخيال الذي تحوكه الذاكرة القديمة عند اليساري من الجيل القديم، خصوصاً. ذاكرة يستعصي على النسيان ما في داخلها من وقائع وأحلام. ذلك أن الحنين إلى ماضي الإتحاد السوفياتي القديم، وإلى وعود الإشتراكية التي كانت مليئة بالأحلام الجميلة، هو نوع من الملاذ يلجأ إليه المحبطون من جراء الإنهيار المدوّي للإتحاد السوفياتي، ومن جراء سقوط الإشتراكية برمتها، بعد ثلاثة أرباع القرن من بداية تجربتها. ذلك أن تاريخ الإتحاد السوفياتي السابق على الإنهيار كان عظيماً، لا يقلل من عظمته حجم الإختلالات الكبيرة فيه التي قادته إلى الإنهيار. لكن هذا الزائر اليساري القديم سرعان ما يخرج من أحلام يقظته، حين يرى أن الأمور تغيرت جوهرياً، وأن الوقائع الجديدة في حياة المدينة وحياة أهلها هي من نوع مختلف بالكامل عما كانت عليه الحال قبل عقدين، مرا بسرعة البرق، وأزالا آثار سبعة عقود من الزمن الإشتراكي القديم، أو ما كان يسمى، بكثير من التعسف، نظاماً إشتراكياً. عندئذ يبدأ الزائر اليساري رحلته السياحية من دون أحلامه القديمة، ومن دون أوهامه فيها، على وجه الخصوص.
لا بد من الإعتراف هنا، في الإشارة إلى الزائر اليساري لموسكو، بأنني، أنا اليساري من الجيل القديم، كنت واحداً من زوّار المدينة. وكنت من أكثر الذين زاروها على امتداد أربعة وخمسين عاماً متواصلة. كان ذلك في الزمن السوفياتي، في البدء، ثم استمر في الزمن الجديد. وكنت بين 1988 و1989 شاهداً على بداية التحول الكبير العاصف في بلد الإشتراكية الأول، في الإتجاه الذي سرعان ما قاد النظام السوفياتي، في زمن البيريسترويكا تحديداً، إلى الإنهيار. وكنت، مثل سواي من الإشتراكيين، القدامى والجدد، ممن صعقوا لهول الحدث، على رغم أنني كنت على شبه اليقين، – ولا أصدق- بأن الإنهيار قادم لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، بسبب تراكم الخلل في النظام السوفياتي، الذي كنت شاهداً حذراً على بعض نماذجه، على امتداد عقود. لكنني، بخلاف الكثيرين من إشتراكيي الزمنين القديم والحديث، خرجت من دون تأخير، ومن دون تردد، من حالة الإحباط إلى الإنخراط في البحث عن المستقبل، بواقعية، ومن دون أوهام، وبنفس طويل جداً، لا يحسب حساباً متعسفاً ومتعجلاً للأعوام. وقررت، وأنا في غمرة هذا البحث الصعب عن المستقبل، أن أزور موسكو، في ظل النظام الجديد، مزوداً ما حفلت به الأنباء عن أعمال النهب التي قادتها ونظّمتها مافيات قديمة ولدت من رحم النظام السوفياتي، ومافيات حديثة، ولدت في زمن يلتسين السيئ الذكر. وكانت الزيارة تلك مع صديقي نديم عبد الصمد في أواخر تسعينات القرن الماضي، بعد سبعة أعوام على الإنهيار. لم نفاجأ بما رأيناه. لكننا لم نخف ما أصابنا من ألم ووجع وحزن إزاء ما كنا نرى ونسمع ونقرأ. بعد عودتنا كتبت بحثاً مطولاً حاولت أن أحدد فيه أسباب الإنهيار، وكانت في تصوري لها، خمسة عشر سبباً. كما حاولت في ذلك البحث أن أرسم الملامح الأولى لمستقبلنا كإشتراكيين، في الحقبة المقبلة، والملامح الأولى لما كان ينبغي لنا عمله من أجل النهوض بمشروعنا الإشتراكي من جديد، في شروط العصر، عصر العولمة الرأسمالية الطاغية بكل مظاهر التوحش فيها.
كانت زيارتنا تلك سياسية، قابلنا فيها سياسيين ومثقفين، وكانت لنا لقاءات مع قادة الحزب الشيوعي الروسي، خصوصاً، ودخلنا في سجالات عديدة مع من التقيناهم، وعدنا بأمل ضعيف، ضعيف جداً، بقدرة شيوعيي اليوم، من الروس خصوصاً، على اكتشاف أسباب الخلل التي أدت إلى سقوط التجربة، لكي ينهضوا بالمشروع الإشتراكي من جديد، ليس للعودة إلى النظام القديم، بل لاكتشاف الطريق الجديد الذي يقود إلى نظام أكثر ارتباطاً بقيم الإشتراكية، وأكثر تعبيراً عن طموحات الحالمين بالحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية، وأكثر احتراماً لشروط العصر وللتحولات فيه، المتناقضة في اتجاهاتها.
وانقطعت عن زيارة موسكو عشر سنين بكاملها، كنت فيها أراقب التحولات التي كانت تجري في روسيا الجديدة، وسط صراعات صاخبة بين مافيات هنا ومافيات هناك. وكنت أراقب، بحذر وقلق، بدايات أولية لتغيير ما، كانت تبدو لي ضبابية. وكانت تلك البدايات، كما كنت أتصورها، تطل على العالم وسط تلك الصراعات، مؤذنة بشيء ما. وهي كانت تعبيراً أولياً وحذراً عن رغبة في مكان ما، على أبواب الكرملين أولاً، توحي ذلك التغيير الآتي في زمن لاحق. ثم سرعان ما أصبحت هذه الرغبة أقرب ما تكون إلى سياسة رسمية عندما انتقل أحد حملتها والمعبرين عنها إلى داخل أسوار الكرملين. وهي رغبة كانت، ولا تزال، مقرونة بسياسة ذات نكهة قومية روسية، يريد أصحابها أن يعيدوا بها الى روسيا مجدها القديم، والأكثر قدماً، ويحرروها، ولو بالتدريج، وبخطوات محسوبة، مما أوقعتها فيه صراعات المافيات المشار إليها، وبعضها كان قديماً، وكان ذا نفوذ في العهد السوفياتي، وبعضها ولد فجأة، في مرحلة الإنهيار، وفي غياب الدولة. وكان الرئيس بوتين هو صاحب تلك الرغبة، وصاحب تلك الرؤية، والهدف المتصل بها. وهو ما عبرت عنه سياساته خلال عهدين من ولايته، وبرامجه، وبعض إصلاحاته التي لم تستكمل بعد أهدافها المعلنة، والمضمرة، التي ترمي إلى نقل روسيا من دولة عالمثالثية، إلى دولة عظمى من دول العصر الحديث، في السياسة وفي الإقتصاد، وفي التطور العلمي، وفي الميدان العسكري.
-2-
في زيارتي الجديدة هذه، الزيارة التي كانت زوجتي نجوى رفيقتي فيها، دخلنا إلى موسكو سياحاً لا سياسيين. لم نمض في موسكو سوى أربعة أيام، لكنها كانت جميلة وغنية استعدنا فيها ذكريات الماضي القريب وبعضاً من ذكريات الماضي البعيد، وزرنا المعالم القديمة والجديدة. كنا ضيوفاً لصديق قديم، من الجيل الجديد، كان غادر الشيوعية إلى نقيضها، من دون أن يتخلى عن أي من قيمها الإنسانية العظيمة. وهو، لذلك، يقدم نفسه، من دون افتعال، إلى أصدقائه القدامى والجدد، كإنسان يمتلك سمات الرجل الذي لم تقو طبيعة عمله كرأسمالي على إحداث تغيير سلبي في سلوكه. فهو، إشتراكي بمعنى من المعاني، حتى وهو يمارس عمله كرأسمالي. ولولا أني أعرف أنه لا يحب أن يذكر اسمه، تواضعاًَ طبيعياً منه غير مفتعل، لجهرت باسمه من دون تردد، معتزاً به وبصداقته وبسماته الإنسانية الرفيعة.
اكتشفت في هذه الزيارة لموسكو أموراً لم أرها في زيارتي السابقة. تغيرت المدينة كثيراً في أمور عديدة، لكنها ظلت، بالنسبة إليّ، هي موسكو التي أعرفها منذ أربعة وخمسين عاماً. تغير فيها النظام السياسي. وهذا أمر واضح لا لبس فيه. لكن الساحة الحمراء، وهي أجمل ساحات الدنيا، لم تتغير. والكرملين لم يتغير، حتى وإن تغيّر نوع ساكنيه، وتغير العلم الذي يرفرف فوقه. لم تتغير الكنيسة التي تنتصب بتاريخها العريق إلى يمين الكرملين. واليمين، كاتجاه وكوجهة، هو الموقع الطبيعي للكنيسة. لذلك فهي لم تتغير، ولا كان في مقدور أحد أن يغيّرها، حتى ستالين، الذي تجرأ ذات عام على هدم كنيسة كانت قائمة على ضفاف نهر موسكو، وأقام مكانها مسبحاً شتوياً، كنت من رواده خلال زياراتي لموسكو وإقاماتي المتعددة فيها. وهي الكنيسة التي أعاد بناءها يلتسين أضخم مما كانت عليه، كشكل من أشكال التعبير عن ارتداده القبيح عن شيوعيته، وكشكل من أشكال التحدي لأجيال الشيوعيين القدامى والجدد، تحت الشعار الزائف الرامي إلى إعادة الإعتبار إلى حق المواطنين الروس في أن تكون لهم كنيستهم. وهو موقف لدى يلتسين، يشير إلى أنه، إذ كان يتحدث عن حق فقد كان يريد بهذا الحق باطلاً. وكان سلوكه السياسي والشخصي يؤكد ذلك، ولا سيما في ادعائه إقامة نظام ديموقراطي. فديمقراطيته تلك كانت، تحديداً وبدقة، “ديموقراطية” المافيات التي باعت روسيا، في زمن يلتسين، من خصومها في الداخل والخارج.
ضريح لينين لم يتغير هو الآخر. لا يزال يحتل مكانه في قلب الساحة الحمراء خلف جدران الكرملين. الضريح هو ذاته يحج إليه الشيوعيون الروس من الحرس القديم. أما جثمان لينين، المسجى داخل الضريح، فهو ذاته أيضاً. لم يجرؤ أحد من أعداء الشيوعية، في السلطة وخارجها، على المس به والإساءة إليه. وهو أمر لم تعد له علاقة بالأيديولوجيا. فبقاء الضريح صار، في الزمن الحالي، شكلاً من أشكال التعبيرعن موقف قومي روسي، في مواجهة بعض الرموز الروسية البشعة للرأسمال الطفيلي، التي لا صلة تربط بين مصالح أصحابها ومصالح روسيا الحديثة، كدولة سيدة طامحة للعب دور في العالم المعاصر. يستطيع الناظر إلى عينيّ لينين المحايدتين أن يستقرئ فيهما ماذا كان يريد هذا القائد التاريخي لروسيا ولثورة أكتوبر الإشتراكية أن يقول، لو نطق لسانه المحايد المطبقة عليه شفتاه المحايدتان، لمن ورثوا ثورته ومشروعه لبناء الإشتراكية، أو ادعوا وراثتهما. يستطيع المشاهد، مثلي خصوصاً، أن يتخيل لينين وهو يلقي خطاباً نارياً يلعن فيه، بلغته الساخرة اللاذعة، وبلكنته المعروفة، كل خلفائه، القدامى منهم والجدد، الذين خانوه وخانوا “سياسته الإقتصادية الجديدة” (النيب)، التي صوّب فيها مشروعه الإشتراكي في التجربة، في أعقاب ثورة أكتوبر وبعد الإنتهاء من الحرب الأهلية. وهو المشروع الأول من نوعه، الذي كان يرمي إلى تصحيح مسار حركة التاريخ في الإتجاه الذي يحقق للبشرية الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية، في أرقى معانيها.
مسرح البولشوي الذائع الصيت لم يتغير هو الآخر، وليس في مقدور أحد أن يغير هذا المعلم التراثي العظيم الذي هو مفخرة روسيا ومعجزتها، في الأزمنة كلها، قديمها وجديدها. إلا أن هذا البولشوي هو قيد الترميم والتجديد. وقبالته ينتصب تمثال من الغرانيت لماركس، مثبت على الأرض، تظهر فيه بوضوح مدهش الملامح الأساسية لعبقري الألفية الثانية. وأنت تنظر إلى ماركس التمثال، تتخيله يقول شيئاً ما مهماً، مما اعتاد أن يقوله في حياته العامرة. والشيء الذي كان سيقوله، لو كان في مقدور الصخر أن ينطق، هو، في تصوري له، أقوى وأشد سخرية مما كان يقوله في سجالاته مع أصدقائه. ويكاد الواقف قبالة التمثال يسمع رنين الكلام الآتي من الأزمنة القديمة، ينطق به ماركس بسخريته المعروفة، معاتباً لينين على تجاوزه، في ثورة أكتوبر، الشروط التي وضعها له كممر ضروري وأساسي للإنتقال إلى الإشتراكية. وكأنه، كان ليعلن، تبرؤه من “الماركسية” التي ادعى الكثيرون من اشتراكيي الأزمنة المختلفة انتماءهم إلى مرجعيته الفكرية بأنها ماركسيته. فتلك “الماركسية” كانت ماركسيتهم هم، ولا علاقة لها بماركسيته هو. وتبدو في ابتسامة ماركس، الظاهرة جلياً في التمثال العامر بالحياة، معالم سخرية من التاريخ، الذي كان صنّفه هو وحدد له مساره، في ما يشبه الحتمية، بجملة من التشكيلات الإقتصادية الإجتماعية، كانت تخلي كل واحدة منها، بعد استنفاد دورها التاريخي، مكانها للأكثر تقدماً، وصولاً، بالتسلسل التاريخي، إلى الشيوعية، التي كان ينهي بها ماركس التاريخ. لهذه السخرية الظاهرة على شفتي ماركس، معنى راهن يشير، في تصوري له، إلى نقد ماركس للذين لم يقرأوا استشرافه للمستقبل، حتى وهو يقدّم للحقبة التي عاش فيها مشروعاً فيه الكثير من الحلم حول مستقبل العالم. يشعر المتأمل في التمثال، أو يتخيل، ماركس حياً، يفكر في ما آلت إليه أفكاره، وآل إليه مشروعه العظيم لتغيير العالم من خراب. يفكر ماركس ويتأمل ما حدث، مذكّراً الأجيال الإشتراكية الجديدة بأن التاريخ “لا ينتهي” إلاعندما يتحقق ما وعد به هو البشرية في مشروعه. وما وعد به، وهو عظيم لم يسبقه إليه أحد، يتلخص في تحقيق الحرية والسعادة والتقدم للشعوب كافة، كأقانيم ثلاثة متحدة اتحاداً عميقاً وراسخاً.
المثير للدهشة، سياسياً في الدرجة الأولى، هو ما شاهدناه في المتحف الحربي من اعتزاز قومي، روسي وسوفياتي ، بالإنتصار الذي حققه الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، التي يعطيها الروس صفة الحرب الوطنية الكبرى، الإنتصار على الفاشية، وعلى جيوش هتلر التي اجتاحت أقساماً واسعة من أراضي الإتحاد السوفياتي، وخلفت عشرين مليون شهيد، ودماراً عظيماً كان لمدينتي لينينغراد وستالينغراد النصيب الأكبر منه. إلى هذا المتحف الرائع الإتقان، ما شاهدناه من رسوخ في التاريخ والحضارة والمعرفة، في البنيان الشامخ لجامعة موسكو، المقيم سعيداًً على هضاب لينين، وسط الحدائق الغناء، التي يطل منها هذا الصرح العلمي الكبير على مدينة موسكو في أبعادها الجغرافية المتمادية في الطول والعرض. أما المقر الرائع للكنيسة الروسية، الذي يبعد ستين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من موسكو، فلم يتغير فيه سوى الإسم، الذي استبدل في العهد الروسي الجديد باسم المؤسس القديم للصرح، الراهب سيرغي العظيم.
ما استغربته واستهجنته، وشاركتني نجوى استغرابي واستهجاني، هو تغيير اسم غوركي الذي كان يطلق على الشارع الذي يقودك من ساحة ماياكوفسكي إلى الساحة الحمراء، مروراً بالساحة التي كانت تفصل بين “المانيج” وفندق موسكو الكبير، الذي يخضع اليوم للترميم والتجديد. ذلك أن إزالة اسم غوركي عن هذا الشارع، المليء بذكريات قديمة وحديثة، كانت قراراً يحمل الكثير من الإساءة المتعسفة إلى كاتب عظيم، تجاوز بأهميته الثقافية والأدبية حدود روسيا إلى العالم الأوسع. لن أتحدث، هنا، عن العديد من التشويهات التي أدخلت إلى بعض ساحات موسكو، باسم الحداثة، ولا عن ناطحات السحاب في أطراف موسكو، التي تشبه النشاز في اللوحة الجميلة. لكن المهم، في نهاية المطاف، أن موسكو لا تزال هي ذاتها، في معالمها الأساسية. إذ أن هذه المعالم لم تتغير، على رغم أن النظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي في روسيا تغير بالكامل. كون موسكو لم تتغير في معالمها الأساسية، لأمر يفرح قلب محبي هذه المدينة التاريخية، السياسيين منهم والمثقفين والسياح، الشيوعيين منهم، القدامى والجدد، وأعداء الشيوعية، على حد سواء.
-3-
لا يمكن زائر موسكو إلا أن يتذكر تاريخ هذا البلد العظيم، والرموز الكبيرة لهذا التاريخ، وفي الآن ذاته، الإنجازات الكبرى التي تحققت في عهد الإشتراكية، والأخطاء الفادحة التي ارتكبت، باسم الإشتراكية وباسم مشروع ماركس لتغيير العالم، وخانتها وخانته، وأدت إلى سقوط التجربة. التذكر، هنا، ليس عملية مفتعلة، وليس واجب كل من يزور موسكو، شيوعياً كان أم معادياً للشيوعية. التذكر يأتي تلقائياً، من دون افتعال. فليس سهلاً أن تذهب إلى موسكو، بعد أقل من عقدين، ولا يدهشك كيف تم الإنتقال بهذه السرعة المذهلة، بعد ثلاثة أرباع القرن، من نظام كان عالمياً، وكانت موسكو مركزه، إلى نظام نقيض لذلك النظام، بكل المعاني، وبأسوأ ما يكون عليه النقيض للنقيض.
إلا أن التذكر، والحنين إلى الماضي، والوهم باستعادته، والمراهنة على ذلك، والبقاء في أسر هذا الماضي، وعدم التحرر منه، وعدم الإلتفات إلى المستقبل، وعدم التفكير في كيفية بنائه من جديد في شروط العصر، في الإتجاه الأفضل والأرقى…، إن التذكر، من دون هذه الأمور والوقائع شيء، والتذكر، مع أخذ هذه الأمور والوقائع في الإعتبار، والعمل لتغييرها بآليات جديدة، وبقوى جديدة، وبأفكار ومفاهيم جديدة، شيء آخر. أعترف بأنني، على رغم مما أصابني، أسوة بالآخرين من إشتراكيي بلادي واشتراكيي العالم، من صدمة وخيبة بسبب الإنهيار، قد تجاوزت الخيبة والصدمة، منذ وقت مبكر، وانخرطت في البحث عن المستقبل، مستنداً إلى الأساسي من أفكار ماركس التي لا تزال قابلة للحياة، تاركاً للتاريخ ما شاخ من أفكاره ومفاهيمه، ومسترشداً بمنهج ماركس المادي الجدلي، على وجه الخصوص. لذلك سبقت زيارتي موسكو، وهي سياحية في الدرجة الأولى، قراءة نقدية للتجربة الإشتراكية، ولتجربتي فيها، تضمنتها كتبي وكتاباتي التي لم تنته بعد وسترافقني في ما بقي لي من عمر. إلا أنها قراءة أنتقل فيها من الماضي إلى المستقبل، آخذاً في الإعتبار أن التاريخ تواصل بين ماض مضى ومستقبل آت، وأن لكل حقبة في التاريخ البشري شروطها وأفكارها ومفاهيمها، وقواها الجديدة، وتناقضاتها الجديدة الخاصة بها، وأساليب وأدوات صراع بين هذه القوى الجديدة، على الحاضر القائم، وعلى المستقبل خصوصاً.
-4-
سبقت زيارتنا لموسكو حوادث دراماتيكية، تمثلت في العدوان الأميركي بأداة جورجية على أوسيتيا الجنوبية، الواقعة على الحدود الفاصلة بين روسيا وجورجيا. وهو عدوان أرادت منه واشنطن أن تفهم روسيا الجديدة، الحاملة همومها ووعودها باستعادة بعض مجدها القديم، من دون شيوعيتها السوفياتية السابقة المنهارة، أن طموحاتها ممنوعة باسم الهيمنة الأميركية على العالم والقائمة، من دون منازع، منذ انهيار الإتحاد السوفياتي. لذلك كان الرد الروسي على العدوان، بأهدافه الأميركية، سريعاً وعاصفاً وصاعقاً. وكان رداً طبيعياً، في ظروف روسيا وظروف المنطقة المحيطة بها، على رغم ما حمله هذا الرد من التباس، تمثل في استيلاء القوات الروسية على مناطق تابعة لجورجيا. فتدخل بلد كبير في بلد صغير، سواء كان سياسياً أم عسكرياً، يتعارض، من حيث المبدأ، مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، حتى وهي تقرر مصيرها في شكل خاطئ. لا يقلل من أهمية احترام هذا المبدأ ما يقدم من “تبريرات مشروعة”، بما في ذلك ما قدمه الروس تفسيراً وتبريراً لتدخلهم العسكري، رداً على العدوان الأميركي بواسطة جورجية، على أوسيتيا الجنوبية المتنازع عليها بين البلدين. كان الرد الروسي، على رغم التباساته، يرمي إلى التأكيد، ولو متأخراً، أنه لم يعد مسموحاً أن تظل واشنطن تمارس هيمنتها على العالم، من دون أن تتصدى لها الدول القادرة على ذلك. وروسيا هي، في الوقت الذي بدأت تستعيد بعض قدراتها الإقتصادية والعسكرية، البلد الأكثر قدرة، والمؤهل أكثر من سواه، على الوقوف، ولو بحدود معينة، في وجه هذه الهيمنة الأميركية على العالم، المتواصلة من دون رادع. وكان مفترضاً بأوروبا الموحدة أن تفعل ما فعلته روسيا، لكن القارة العجوز لا تزال عجوزاً وضعيفة ومفككة، على رغم وحدتها الواعدة. لا تزال معظم بلدانها خاضعة، بنسب متفاوتة، بسبب ضعفها وعجزها وتفككها، في الكثير من سياساتها، لسياسة الولايات المتحدة. وكان برز ذلك، في شكل فاضح ومثير للريبة و للقلق، في انصياع أوروبا لإرادة واشنطن في العمل، سياسياً وعسكرياً، لتدمير يوغوسلافيا وتفكيكها وتحويلها منطقة متفجرة. كما يبرز اليوم بانصياع أوروبا للإرادة الأميركية في الدرع الصاروخية المستهدفة به روسيا أكثر من سواها، وفي منع روسيا الجديدة من استعادة ما تطمح إليه من موقع يعود لها في العالم المعاصر.
كان من الطبيعي، أن يكون موقفي، قبل أن أصل إلى موسكو، تعليقاً على العدوان، عبر قناة “روسيا اليوم”، مؤيداً للرد العسكري الروسي، الذي يستهدف، في قراءتي له، إلى جانب تحذير روسيا للولايات المتحدة، توجيه تحذير إلى الدول المجاورة لروسيا، سواء تلك التي كانت في الماضي أجزاء من الإتحاد السوفياتي، أم تلك التي كانت أجزاء من النظام الإشتراكي العالمي الذي كانت روسيا تتزعمه. ويرمي هذا التحذير الروسي لهذه البلدان إلى جعل قادتها يفكرون ملياً قبل ارتكاب أخطاء مميتة من نوع ما فعلته جورجيا. إلا أنني، في الوقت الذي كنت أعلن فيه وقوفي سياسياً إلى جانب روسيا، كنت أؤكد ضرورة حل القضايا القومية المعقدة في منطقة القوقاز، بالوسائل السلمية، وليس بفرض أمر واقع، هنا أو هناك، بالقوة العسكرية، أياً تكن التبريرات المعلنة لذلك. فاللجوء إلى هذا النوع من الوسائل القسرية لحل القضايا القومية المعقدة، إنما يحمل معه الأخطار إلى كل الأطراف المتورطين فيه والمعنيين به، والتي لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تقود.
-5-
إلا أن زيارتنا ترافقت مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لروسيا. ولفتني في مراقبتي لوقائع هذه الزيارة، أنها اختصرت بيوم واحد، وقد يكون ذلك طبيعياً، وأنها اقتصرت على اللقاء مع الرئيس الروسي ميدفيديف في سوتشي، وأن الرئيس بوتين غاب عنها، خلافاً لتقاليده في مثل هذا النوع من الزيارات، ولا سيما مع الحلفاء، ومن ضمنهم قادة الدولة السورية. بدا لي، وقد أكون مخطئاً، كما لو أن القيادة الروسية كانت تريد أن تظهر عتباً، أو ما يشبه العتب، إذا صح تصوري بأن استقبال الرئيس السوري كان بارداً، لكون القيادة السورية انخرطت في المفاوضات مع إسرائيل من دون إعلام حليفها الروسي بذلك. وهو عتب لا أظنه يعبّر عن اعتراض روسي في المبدأ على تلك المفاوضات. فهذا أمر غير ممكن تصوره. لأن المفاوضات، إذا ما أتيح لها أن تنتهي إلى سلام عادل في المنطقة، يعيد لأصحاب الحقوق حقوقها، لا يمكن إلا أن تلقى التأييد والدعم، ليس من روسيا وحسب، بل منا نحن في لبنان خصوصاً، ومن العالم العربي والعالم. وربما يكون التصريح الذي أطلقه الرئيس الأسد، عشية زيارته روسيا، حول الرد العسكري على العدوان الجورجي، شكل نوعاً من الإحراج للروس في علاقاتهم مع لبنان أولاً، ثم مع البلدان العربية، التي تعتبر روسيا حليفاً أساسياً لها في أمور عديدة، سياسية واقتصادية، وحتى عسكرية وأمنية. مصدر الإحراج الروسي، في تصريح الأسد يكمن في أمرين: الأول أن الرئيس السوري اعتبر الرد الروسي على العدوان الجورجي تدخلاً عسكرياً في جورجيا، في حين أنه، في تحديد القيادة الروسية له، كان رداً عسكرياً على عدوان عسكري، أميركي بواسطة جورجية. الثاني أن الرئيس السوري اتخذ من هذا الرد الروسي، الذي أعطاه صفة تدخل من دولة في شؤون دولة أخرى، مبرراً له للتدخل السوري القديم والجديد في شؤون لبنان. وكان التصريح الرسمي الروسي الخاص بدعم استقلال لبنان وسيادته، في أعقاب تصريح الأسد، مؤشراً واضحاً في دلالالته، كما قرأته، بصفتي الأولى كلبناني رافض للتدخل في شؤون بلدي، من أي جهة أتى، وبصفتي الثانية، كصديق لروسيا، القديمة والجديدة.
-6-
على رغم أن الطابع الأساس لزيارتنا كان سياحياً، إلا أن الجانب السياسي في حياتي وكتاباتي أعطاني بعض الحق في أن أقول كلاماً سياسياً في بعض اللقاءات العابرة التي أجريتها مع بعض من أثق بقدرتهم على التحليل الصحيح للأمور من أصدقائي الروس، وبعمق تفكيرهم، وبسعة معرفتهم بأوضاعنا وبقضايانا العربية المعقدة. وكان ذلك الكلام الصريح والصادق هو ما قلته لأحد الديبلوماسيين الروس ممن تربطني بهم صداقة قديمة. إذ شعرت بأن عليّ أن ألفت أصدقاءنا الروس، من خلال هذا الديبلوماسي الصديق، إلى ضرورة الإنتباه والحذر من الوقوع في الخطأ، وهم يواجهون الغطرسة الأميركية، التي نالنا وينالنا منها في بلداننا الكثير. احتمال الخطأ هو في أن ينظروا إلى المواجهة بينهم وبين الولايات المتحدة بعين واحدة، وألا يحسبوا حساباً لأمور وقضايا أخرى ذات صلة بمصالح مشتركة بينهم وبين البلدان الأخرى عموماً، البلدان العربية خصوصاً، بالمفرد وبالجمع. ولبنان، على وجه الخصوص، هو واحد من البلدان العربية، الذي يتطلب من القيادة الروسية الإنتباه إلى تعقيدات الوضع الراهن فيه، وإلى القوى الإقليمية والدولية المتصارعة في ما بينها حول التدخل في شؤونه، الذي لإيران ولسوريا، خصوصاً، دور أساسي فيه. ولهذا التدخل، بأشكاله وصيغه المختلفة، أخطار، إذ تصيبنا في لبنان خصوصاً، فإنها تصيب المتدخلين أنفسهم، وتصيب روسيا الصديقة كذلك. وهي أخطار لا نريدها أن تصيب أحداً، بمن فيهم المتدخلون في شؤوننا. لذلك فإن ما نأمله من القيادة الروسية أن تعمل، من خلال علاقاتها مع كل من إيران وسوريا، لوقف تدخل هذين البلدين في لبنان، وأن تعمل، في الوقت عينه، لاستبدال هذا التدخل بإقامة علاقة ندية بين لبنان وبين البلدين، الشقيق والجار القريب سوريا، والصديق والجار البعيد إيران، علاقة صداقة وسلام وتعاون، تخدم وتحترم مصالحنا المشتركة، وهي كثيرة لا تحصى عدداً ونوعاً وقضية.
-7-
الخلاصة الأساسية في هذه الزيارة السريعة، هي أن أصدقاء روسيا القدامى، روسيا السوفياتية، وأنا وزوجتي نجوى من أكثرهم وفاء لها، يستطيعون، ويحق لهم، أن يكونوا أصدقاء لروسيا الجديدة، من دون شروط ايديولوجية. فليست الأيديولوجيا وحدها هي التي تحكم، في كل الظروف، الصداقات بين الشعوب والأمم. ثمة ما هو مهم جداً، في الوقت الراهن بالنسبة إلينا نحن العرب، وربما لزمن آت أيضاً، يتمثل في ضرورة أن تقوم الصداقة بيننا وبين روسيا على قاعدة المصالح المشتركة التي تربط بين بلداننا وشعوبنا العربية وروسيا العائدة، ولو بصعوبة، وبالتدريج، إلى الموقع الذي يعود اليها في العالم المعاصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى