دكتاتوريون بالميلاد ديموقراطيون بالتجنس!
فيصل علي سليمان الدابي
دون الدخول في تعقيدات تعريفية مثيرة للجدل، فإن الديموقراطية الليبرالية المطبقة كلياً أو جزئياً في أغلب دول العالم في هذا العصر تشتمل بشكل عام على حزمة من الحريات التي تتمتع بها أو تتطلع إليها كافة شعوب العالم وهي الحرية السياسية التي تنطوي على حقوق الترشيح والانتخاب، الحرية الإعلامية التي تتمثل في حقوق التعبير والنشر، الحرية المالية التي تتجسد في حقوق العمل والاستثمار والحرية الشخصية التي تتضمن حرية التفكير والاعتقاد والتنقل … الخ، هذه العناوين النظرية الكبيرة أصبحت مضمنة في مواثيق الأمم المتحدة ومنصوص عليها في دساتير وقوانين أغلب دول العالم وتتكفل بتطبيقها على أرض الواقع ثلاث سلطات مستقلة تراقب بعضها بعضا وهي السلطة القضائية، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.
وعلى الرغم من كل التحفظات الايدولوجية أو العقائدية التي تثار من وقت لآخر ضد الديموقراطية الليبرالية من هنا وهناك، فإن مفهوم الديموقراطية الليبرالية قد أصبح ألمع مفهوم سياسي على وجه الأرض في العصر الراهن خصوصاً بعد تراجع المفهوم الإشتراكي، المفهوم القومي ومفهوم الإسلام السياسي بدليل أن أغلب الدول في كل قارات العالم الست قد تحولت كلياً أو جزئياً إلى النظام الديموقراطي خلال العقود القليلة الماضية!
أما الدكتاتورية وهي النقيض الفكري والسلوكي للديموقراطية فتقوم بشكل عام على مصادرة الحريات السياسية، الإعلامية، المالية والشخصية وتجميع السلطات القضائية، التنفيذية والتشريعية في يد واحدة وهي لا تخرج عن كونها محاولة غاشمة لفرض السلوك الفرعوني المتمثل في رغبة الفرعون المستبد الذي لا يريد أن يرى الناس إلا ما يرى، والملاحظ أن ازدياد الوعي الشعبي والضغوط الدولية السياسية والاقتصادية في هذا العصر قد أجبرت الأنظمة الدكتاتورية في دول العالم الثالث على التمسح بفكرة الديموقراطية على مضض وبطريقة مكشوفة لا تخفى على أحد كأن يقوم الإنقلابيون القابضون على مفاصل السلطة والثروة والإعلام بتنظيم انتخابات شكلية معروفة النتائج رغم أنف الجميع أو تنظيم انتخابات نخبوية بعد تزويد مراكز الاقتراع السري بكاميرات مراقبة سرية بغرض التجسس على خبايا نفوس المصوتين الغافلين ومن ثم محاسبتهم لاحقاً بأثر رجعي على حرية اختيارهم وهذا السلوك المتسم بالأنانية السياسية المفرطة هو تماماً مثل سلوك الرجل المعتوه الذي يصفق وحده، يغني وحده، يرقص وحده، يبشر وحده وياخد الشبال من نفسه!
ولعل أسوأ مظاهر انعدام الديموقراطية في دول العالم الثالث هي الرقابة القبلية على الصحف والتي مفادها لا اترككم تقرأون إلا ما أريدكم أن تقرأوه إضافة إلى بعض الممارسات الذميمة الأخرى مثل الإقذاع في سب الخصوم السياسيين وسلب حرياتهم وقطع أرزاقهم أو حتى اعناقهم إذا دعت الضرورة الدكتاتورية إلى ذلك!
الآن حينما يقع أي انقلاب عسكري في دول العالم الثالث وقبل أن يقوم الانقلابيون بقراءة البيان رقم واحد سيء الذكر، تسارع المنظمات الدولية والإقليمية إلى إدانة الإنقلاب وفرض العقوبات الاقتصادية على الانقلابيين وهذا مؤشر جيد يدل على أن عصر الانقلابات العسكرية التي ينفذها حملة العصي المسكونون بجنون العظمة قد ولى أو أوشك على الرحيل في كل الأحوال!
في العهد النازي حينما طغى الدكتاتور هتلر في المانيا النازية وأراد فرض دكتاتورية عرقية تمجد الجنس الآري وتفضله على كل الأعراق الأخرى، كان وزير الدعاية النازية جوزيف جوبلز يقول: كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي، هذه المقولة الفاشية هي التي تسببت في نشوب الحرب العالمية الثانية وأدت إلى مقتل ملايين البشر ثم أدت في نهاية المطاف إلى إنهيار ألمانيا وانتحار هتلر وجوبلز بطريقة مخزية، وفي هذا العصر فإن الدكتاتوريين الذين يتم تضييق الخناق عليهم شيئاً فشيئاً يهمسون لأنفسهم: كلما سمعنا كلمة ديموقرطية أو حقوق إنسان تحسسننا مسدساتنا ولا يُوجد فرق بين الحالتين المرضيتين سوى فارق التوقيت فقط لا غير!
لكن مما لا شك فيه أن معركة ترسيخ الديموقراطية في أي مجتمع إنساني هي من أكبر وأشق المعارك الإنسانية على الإطلاق، فالشعب الذي لا يعرف ولا يمارس الديموقراطية العائلية، الديموقراطية الأكاديمية والديموقراطية الدينية لا يستطيع أن يخرِّج مواطنين ديموقراطيين لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن كل إناءٍ بما فيه ينضح، ولأن الإنسان الذي رضع حليب الدكتاتورية وتربى وترعرع في أحضانها وشب وشاب على استبدادها لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى إنسان ديموقراطي يمارس أسلوب النقد الذاتي ويحترم الرأي الآخر، الأنظمة الدكتاتورية في دول العالم الثالث هي مجرد انعكاس تلقائي للدكتاتورية الشعبية فالمزاج الشعبي الدكتاتوري هو الذي يصنع الأنظمة الدكتاتورية وهو الذي يستطيع أن يطيح بها لو أراد ولكنه قد لا يريد ذلك لشيء في نفس يعقوب الدكتاتوري الغارق حتى أذنيه في أجواء وممارسات الاستبداد الشخصي والعائلي والمنهجي والديني!
ومن الملاحظ أن الشعوب الجنوب أمريكية قد غيرت عقليتها السياسية ومن ثم نجحت عبر وسائل الضغط الشعبي وعبر لجان المحاسبات والمصالحات في تصفية الأنظمة العسكرية الدكتاتورية في قارة أمريكا الجنوبية حتى تحولت كل القارة في الوقت الراهن إلى قارة ديموقراطية بعد أن كانت تعج بعشرات الأنظمة الدكتاتورية الغاشمة في العقود القليلة الماضية، فالتغيير الحقيقي الفعلي الراسخ الجذور لا يأتي إلا من الداخل ولا يمكن استيراده مع المواد التموينية القادمة من وراء الحدود!
حتى الشعوب الأفريقية التي استيقظت مؤخراً بدأت في فرض ثقلها الشعبي في القارة السمراء وأطاحت بكثير من النظم العسكرية الدكتاتورية عبر قوة الصوت الانتخابي وسطوة صناديق الانتخابات ولم يتبق في القارة الأفريقية سوى جيوب دكتاتورية صغيرة تكافح من أجل بقائها القبيح ولكنها حتماً في طريقها للإنقراض ولعل آخرها الجيب الانقلابي الموريتاني الذي حوصر دولياً من قبل الأمم المتحدة وإقليمياً من قبل الاتحاد الأفريقي ومازال يتنفس بصعوبة بفضل انبوبة الاكسجين الصغيرة التي زودته بها جامعة الدول العربية!
ومع ذلك يصح القول أن لا أحد يستطيع فرض الديموقراطية المستوردة على شعوب استبدادية النزعة، فكل الأجهزة الإدارية والسياسية المتطورة وجميع الجيوش الأممية المدججة بأحدث الأسلحة لم تستطع كسب عقول وقلوب الأفغان والعراقيين، كل الجبروت الإداري والسياسي والعسكري الأممي لم ينجح في كسر شوكة المقاومين الاستبداديين الذين يمارسون هواية تفجير أنفسهم بغرض قتل جندي واحد من جنود الاحتلال حتى لو أدى ذلك إلى قتل العشرات أو المئات من المواطنين الأبرياء، ذاك الجنون الاحتلالي وتلك المقاومة المجنونة يثبتان أن شجرة الديموقراطية لا يمكن أن تنمو إذا سقيت بدماء الاستبداديين وإنما يمكنها فقط أن تزهر وتثمر إذا غُرست في النفوس المستبدة وسُقيت بقنوات الاقناع والاقتناع بالتي هي أحسن!
أما أسوأ أنواع الدكتاتوريين فهم أولئك الدكتاتوريون بالميلاد الذين نشأوا وترعرعوا في كنف الشعوب والحكومات الاستبدادية ثم أصبحوا ديموقراطيين بالتجنس بعد أن سنحت لهم فرصة الإقامة الدائمة في الدول الراسخة في الديموقراطية الليبرالية، هؤلاء البشر يبشرون بالديموقراطية بطريقة دكتاتورية إن جاز التعبير عبر احتضانهم لفكرة استجلاب مفهوم الديموقراطية الليبرالية بحذافيره إلى الدول التي ينتمون إليها بالميلاد دون مراعاة لاختلاف الظروف السياسية والفكرية والحروب التاريخية الكبرى التي ساهمت في صنعه في الدول التي أصبحوا ينتمون إليها بالتجنس، وغني عن القول أن الديموقراطية لا يمكن أن تأتي إلى موطن الدكتاتورية على ظهر الدبابات الأجنبية ولا يمكن أن تتأتى عبر تحريض الأجنبي الديموقراطي ذي الإجندة السياسية الخاصة على الوطني الدكتاتوري عديم الإجندة، ولا مجال لتعميق جذور الديموقراطية في المجتمعات الاستبدادية إلا بخوض حرب مفاهيم طويلة الأمد تبدأ بتغيير المناهج وطرق التفكير وأساليب السلوك ومنح الرجال والنساء والأطفال والشيوخ كافة حقوقهم الإنسانية واحترام الرأى الآخر والايمان بالتداول السلمي للسلطة والثروة والاعلام والتخلص من الصراعات الدينية العبثية التي لا تولد سوى العنف والعنف المضاد، هذا المخاض العسير هو وحده الذي يفرز الديموقراطية الواقعية في نهاية المطاف، أما الديموقراطي بالتجنس الذي يريد أن يطيح بنظام عسكري جاثم على صدر البلد الذي ينتمي إليه بالميلاد عن طريق الوسائل العسكرية القادمة من وراء الحدود فهو ضيق الأفق بشكل مروع وقصير النظر بصورة خطيرة وهو مدعي بطولات أخرق ومتعجل لقطف الثمار وحارق للمراحل التاريخية التي تصنع التغيير بعد جهد جهيد ومكابدات إنسانية متواصلة قد تمتد إلى عقود وأجيال متعاقبة وهو يفكر بنفس الطريقة التي يفكر بها شخص يريد أن ينسف محلاً تجارياً لعدوه اللدود عن طريق نسف السوق الذي يقع فيه ذلك المحل، هذا الصنف من البشر هو صنف غريب الأطوار حقاً فهو دكتاتوري بالميلاد ديموقراطي بالتجنس وهو يستغل هامش الحريات الواسع الموجود في موطنه الجديد ويضر ببلده القديم من حيث لا يدري، وسلوكه هذا لا يشبه سوى سلوك براقش تلك الكلبة التي جنت على أهلها بدون قصد، فحينما أغار قطاع الطرق على مضارب أهلها وتخطوها بسبب الظلام الدامس، نبحت براقش بعد سماعها لصيحات المغيرين وعندها تنبه الغزاة إلى مضارب أهلها فقفلوا راجعين إليها ونهبوها وسلبوها وقتلوا رجالها وسبوا نسائها وأطفالها حتى صار يُضرب بها وبهم المثل المشهور: على أهلها جنت براقش!
فيا أيها الدكتاتوريون بالميلاد الديموقراطيون بالتجنس، ارحموا شعوبكم في الأرض يرحمكم الله في السماء، وقبل أن تنادوا بتطبيق الديموقراطية في بلادكم القديمة الغارقة في وحول الاستبداد الشعبي والرسمي طبقوها على أنفسكم وعائلاتكم في بلادكم الجديدة ولا تكونوا كمن غير موقعه الجغرافي ولم يغير طريقة تفكيره ثم اسعوا بعد ذلك إن شئتم إلى تغيير النظم الشمولية في بلادكم الأصلية بالوسائل السلمية الديموقراطية ذات النفس الطويل، فلا أحد، من الذين يتمتعون بكامل قواهم العقلية، يرحب بإعادة تجربة اسقاط نظام صدام الدكتاتوري عن طريق الصواريخ والدبابات الأجنبية وقتل آلاف المواطنين ونهب المتاحف والثروات من أجل الإطاحة برجل واحد ركبه جنون العظمة السياسية، لم يعد من المنطقي أو المقبول لدى متوسطي التفكير محاولة قتل الناموسة باستعمال المطرقة، ولا أحد من أنصاف العقلاء أو أنصاف المجانين يرحب بنسف كامل المسرح السياسي في أي بلد بغرض التخلص من أحد الممثلين السياسيين السيئين، لأن هذا السلوك نفسه هو أسوأ أنواع الدكتاتورية على الإطلاق!
كاتب من قطر