الإعلام.. وصناعة الإيديولوجيا
محمود حيدر
كلنا يتأمل ويرغب في أن يتلقى خطاباً ينبئه بخبر سعيد، أو بمشهد يبتعث في داخله جمال العالم من حولـه، أو بحكمة تمنحه الأمان وراحة البال وتنزع من ناظريه غشاوة القنوط والضجر والتشاؤم؛ إلا أن واحدنا لا يلبث حتى يرى العالم من حوله ممتلئاً بما لا أمل يرجى منه، أو بما لا رغبة له به. أفلا يتبدى الأمر وكأنه استغراق في التشاؤم؟
يبدو لنا أن المشهد العالمي، وبخاصة فيما يصوره لنا الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، في مستهل القرن الحادي والعشرين، يسوّغ مثل هذا النزوع إلى التشاؤم.
كأن الخطاب الإعلامي السياسي، كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي تكتسب فيه السياسة طابعاً سليماً، هو أحد المواقع التي تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. يبدو الخطاب، في ظاهره، شيئاً بسيطاً، لكن أشكال المنع التي تلاحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة. وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب، ليس فقط هو ما يُظهر أو يخفي الرغبة، وإنما أيضاً هو موضوع الرغبة. وما دام الخطاب، والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك، ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.
ما لا يُشك فيه أن التحولات التي عصفت مؤخراً بالنظام العالمي، تعطي الكلام على ماهية الخطاب والاتصال بعداً أكثر تعيناً وشمولاً. ولقد أثبت الإعلام بتقنياته الهائلة أنه دافع التحولات الكبرى في السياسة والاقتصاد والفكر والفن والثقافة. بل هو محورها ومحركها ومحرضها.
تداخل المفاهيم
وعلى هذه الدلالة سيكون لـه ذاك «الجبروت» في تشكيل المعرفة وتكوين الأفهام الإنسانية، أو على العكس في تدمير أنظمة القيم التي كانت مادة صراع، وتنازع بين المحاور، والأحلاف الدولية.
إن عالم ما بعد الحرب الباردة أو «العالم المابعد حداثي» كما تريد الفلسفة المعاصرة هو الصورة المكثفة للتحولات التي عكستها مرآة الإعلام. لقد بدا هذا العالم، عالماً ملتبساً، تحكمه فوضى لا حدود لها من المنافسات، والصراعات من دون أن يستقر بعد على نظام دولي في رحلته المتحدة باتجاه الألف الثالث الميلادي. فبقدر ما جاءنا بحقائق لا يجوز التنكر لها، بقدر ما بثَّ أوهاماً ينبغي التعامل معها بجدية استثنائية. وغالب الظن أن يظل هذا العالم رهين الالتباس بين حقائقه وأوهامه ردحاً إضافياً من الزمن.
لكن عالم اليوم صار أشبه بفضاء مفتوح على احتمالات قاسية ومثيرة للهلع؛ تتداخل فيه قيم الماضي بقيم الحاضر، وكذلك بما ترنو إليه تحيَّزات المصالح الكبرى من قيم مفترضة المستقبل. وضمن هذا الفضاء بالذات يحتل الإعلام المادة الأولى، والرئيسة في التعبير عن فوضى العالم ولا يقينه. وهنا مكمن القيم المأزومة، والعلامة التي تشير إلى اهتزاز البناء الأخلاقي العالمي وبؤسه.
لقد جُعل العالم بالإعلام قرية كونية متصلة. وهذا يعني أن حشداً من المفاهيم التي انتظمت العلاقة بين المجتمعات البشرية باتت الآن ضمن دوائر الشك. لم يعد مفهوم السيادة القومية، مثلاً، هو نفسه اليوم، بعدما تحولت الدولة القومية المغلقة إلى دولة عالمية مفتوحة بفعل الأسواق المشتركة والشركات متعددة الجنسيات، وثورة الاتصالات والإعلام والمعلوماتية. كذلك الامر بالنسبة لمفاهيم أخرى، كالعقلانية، والأخلاق، وحقوق الإنسان، والديمقراطية وحق الاختلاف.. إلخ. فهذه مفاهيم وطرائق معرفة لم تعد على صفائها الاصطلاحي البدائي، وإنما غدت أدنى إلى محمولات ذهنية تتصف بالنسبة وقابلية التأويل. لذا سنجدها مُكتَسِيةً شوائب جمة فيما هي خاضعة في الوقت عينه لسيرورات المنافسة والصراع بين قوى الضغط والتأثير والمصلحة.
كل شيء في العالم صار مفتوحاً على الأثير اللاَّمتناهي. ولسنا نجد ما يعصم الإنسان من الاستسلام لجاذبية اللغة، والصوت، والصورة، سوى انتمائه وتحصنه بممانعة حضارية وثقافية ودينية. غير أن هذا كله يتوقف على آليات صراع شديدة التعقيد، سيكون على الأقوياء والضعفاء خوض حرب لا هوادة فيها، تارة من أجل الهيمنة والاستحواذ بالنسبة للأقوياء، وتارة من أجل الحفاظ على الهوية، وحق امتلاك الحرية بالنسبة إلى الضعفاء.
الإعلام والأخلاق
لو أخذنا المعيار الغربي لمقاربة الإشكالية بين الإعلام والأخلاق، لتوفر لنا المثال الأكيد والواضح. حيث يظهر أن الإعلام لم يعد في زمن ما بعد الحرب الباردة مجرد عامل من عوامل التغيير التي تساهم في قلب، أو تثبيت موازين القوى بين الدول، أو في داخل المجتمعات بالذات. لقد غدا العامل الرئيس الذي تتجلى فيه وبواسطته، العوامل الأخرى الأمنية والاقتصادية والسياسية وسواها. ولقد تحول من وجهٍ آخر إلى وعاء كلي تُختزل فيه أدوات الصراع والمنافسة والتحدي في صورة مدهشة.
وما دمنا نتحدث في جدلية العلاقة بين الإعلام والأخلاق، فسأجيز لنفسي الكلام على ما يمكن تسميته بـ«إيديولوجيا المشاهدة». هذه الأيديولوجيا التي شُكَّلت عناصرها عبر التلفزة، ثم تحولت إلى أداة سيطرة هائلة تستحوذ على العقول والأنفس. ثم تتجه، بما تتمتع به من جاذبية، لتقبض على ناصية الأخلاق وتديرها كما يُدار الإعلان السلعي.
لقد استطاعت شبكة CNN الأميركية أن تحوز على ثقة المشاهد العالمي قبل وأثناء وبعد حرب الخليج. فكانت بذلك تتحول إلى قوة هيمنة نفسية من خلال جعل مشاهديها أسرى جاذبية الصوت والصورة التي تبثها بسرعة هائلة، فلا تترك لأحدٍ أن يرجئ شغفه بمعرفة ما يحدث في أي نقطة من العالم. وعبر أقمارها الخمسة، ومنظوماتها المؤلفة من شبكتين عالمية ومحلية، ومن مراسلين منتشرين في كل المناطق الساخنة في العالم… أحرزت الـ C.N.N صفة إمبريالية إعلامية بامتياز. ما جعل الأوروبيين يخشون نجاحاً كهذا بما قد يجره من سيطرة مطلقة على سوق الإعلان، والتحكم بآليات توجيه الرأي العام.
والملاحظة التي يوردها عدد من الخبراء والمحللين، في هذا الحقل هي أن المعلق الصحافي والمراسل صار بالنسبة للمشاهد كمن يأتيه باليقين المفقود، بل ومصدر طمأنينة حتى بالنسبة للمشاهد الذي تدور الأحداث في بلاده هو بالذات. إلى درجة أصبح الجالسون أمام الشاشات الصغيرة كرعايا ينظرون بخشوع وترهب لواعظٍ أخلاقي يعين لهم ما هو الخير وما هو الشر.
والى هذا، فقد أمست التلفزة معادلاً تكنولوجياً للأيديولوجيات الصارمة التي تُظهر جاذبيتها وسحرها في صورة محمومة، والتي تستند إلى جماهير عريضة تتكاثر كلما تطور سلطانها المعنوي. ولو أشرنا إلى العقل الذي يديرها ويشرف على بثها لوجدتنا بإزاء ميكانيزم أيديولوجي لـه استراتيجياته الثقافية، والفكرية، والأخلاقية الكاملة.
آليات السيطرة
كتمثيل لعمل هذا الجهاز الإيديولوجي لم يتورَّع أحد منتجي البرامج التلفزيونية الفرنسية الأولى T.F.I عن البوح بطريقة إدارته للإنتاج، فقال: «كلما كان مستوانا متدنياً ومادياًَ كلما جلبنا عدداً أكبر من المشاهدين. هكذا هي الحال. فهل من اللازم أن نلعب دور الأذكياء ضد المشاهدين؟ هم على الأقل لا يفكرون، فلنتوقف نحن عن لعب دور الوعاظ».
على هذا التمثيل لتقنيات الفاعل الإيديولوجي، تستهل أخلاقيات الاستحواذ رحلتها من دون نزاع. كل شيء لدى الفاعل إيَّاه يجب أن يهبط إلى دنيا التسليع، وقيم السوق. وهو يوظف نشوءا لهذه الغاية كل ما يشجع على القبول، والإذعان، والطواعية، وشغف الامتثال. الأمر الذي أدى إلى ظواهر دراماتيكية، ذات آثار مدمرة في وقائعها ومعطياتها ليس على بلدان الجنوب، وشعوب ما يسمى العالم الثالث فحسب، وإنما أيضاً وأساساً، على المجتمعات الغربية نفسها. وهذا ما لاحظه المفكر الفرنسي روجيه غارودي في بداية التسعينيات حيث بيّن أن فلسفة الإعلام في الغرب تنطوي على تحريض دائم وحاسم من أجل تجنيد المشاهدين بالإغراء، ودعوة إلى الغوغائية وإلى الخمول الدائر تجاه رأي عام تتلاعب به الدعاية، والإعلانات، وأدوات نقل الثقافة الجماهيرية. التلفزيون نفسه لا يقصّ حكاية التاريخ ولكنه يصنعها بالتلاعب بها. بمعنى أنه يستسلم إلى انحرافات السوق، وإلى تهديم كل روح نقادة، وكل فكر يشعر بالمسؤولية. وذلك بدءاً باستطلاعات الرأي العام التي لا تهدف إلى إعطاء صورة واقعية عنه، بل إلى التلاعب به. وعن طريق البلاهة الخانقة للألعاب والمسابقات المتلفزة التي تلوح بإغراء الحصول على المال بسهولة وصولاً إلى الأخبار التي تخضعنا إلى تأمل كوارث العالم بغباء، مروراً بأفلام الصور المتحركة اليابانية، وهي كلها تنحو بانتهازيتها التجارية إلى جعل الجمهور كالأطفال، دون تقديم ما يساعد على فهم نهاية الألف الثانية، إلا بالجرعات التي تعالج الداء بالداء وبعد الحادية عشرة ليلاً (أي الأفلام الإباحية).
إن المرارة التي يتحدث فيها مثقفون غربيون عن واقع الإعلام في مجتمعاتهم، مردها إلى شعورهم أنه بتقدم الحضارة الغربية تنحو بسرعة مذهلة نحو الاضمحلال الأخلاقي. حتى أن كثيرين منهم راحوا يصفون نهاية القرن العشرين بأنها عودة متجددة لعصر فساد التاريخ وتدهوره، كما كان الأمر زمن انحطاط الرومان. وإن هذا التدهور الموسوم بهيمنة تقنية وعسكرية ساحقة لا تحمل أي مشروع إنساني قادر على إعطاء معنى للتاريخ وللحياة.
ربما كان الفرنسيون من أكثر الأوروبيين تحسساً من الآلة الإعلامية الأميركية التي حولت عصر ما بعد الحداثة في الغرب إلى حقل اختبار للإجهاز على ما تبقى من ثقافة الأنوار، وتحطيم عقلانيتها، واستلاب بعدها الإنساني. فتحت تأثير التلفزيون الأميركي مثلاً، أصبح الإنتاج التلفزيوني المقرر تقديمه إلى العدد الأكبر من الناس، أي إلى الأكثرية، وفي – هو المعيار الكلي – الكوني. ومعلوم أن أوروبا التي تعيش هستيريا الجلوس مدة طويلة أمام الشاشات الصغيرة هي أكثر المستهلكين للمسلسلات الأميركية، كونها أقل تكلفة من إنتاج المسلسلات المحلية. ولقد أخذت تنتشر في أرجاء العالم طريقة نسخ الأساليب اليسيرة للوصول إلى الجمهور الأكثر عدداً. وأخذت صورة هذا العالم المثالي تغدو أليفة في عيون الجماهير. فالرياضة أمست البديل عن الهوية الجماعية. ومفهوم الفوز –ومشاهد البطولة – باتت أكثر أهمية من مفهوم التسامح، واللاعنف، وأنسنة العلاقة بين الأفراد والجماعات.
التسلية حتى الموت
حتى مؤلف كتاب «التسلية حتى الموت» «نيل بوستمان» راح يكشف عن تخطيط مسبق يمكث وراء إعداد أكثرية البرامج التلفزيونية في أميركا. فهي تعد من أجل جمهور شاب. وهي تالياً لا تخاطب إلا الجانب غير الناضج لدى البالغين. ولقد سبب هذا الخفض التدريجي للمستوى الثقافي في البرامج الكبرى الموجهة إلى أكثرية الجمهور، طفولة فعلية لديه ويسر التلاعب به.
النقد الفرنسي لما أسميه بـ«الجيولوجيا الإعلامية» التي هزت نظام القيم العالمي يبدو ضرورياً وإن كان غير حاسم ذلك أن صورته تتأتى من منطقة معرفية ذات حساسية بالغة التعقيد، من جانب الفرنسيين حيال النموذج الأميركي. فالنقد هنا ينطلق من مبدأ أخلاقي وإعادة الاعتبار للقيم، في وقت تستعر فيه حمى الاستهلاك ووحشية رأس المال، على نحو لا يدع مجالاً للسجال الهادئ في الثقافة، والفلسفة، والفكر، وقضايا البيئة ومصير الإنسان. وحين دعا الرئيس الفرنسي الراحل «فرنسوا ميتران» العالم إلى وجوب تحييد الثقافة عن الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، كان يقف يومها على أرضية قلق مقيم مؤداه الخوف من استشراء استخدام الثقافة والفكر كغطاء إيديولوجي للهيمنة وسيطرة القوة.
كان طبيعياً ألا تلقى دعوى التحييد قبولاً يذكر. ففرنسا كسواها من بلدان الغرب تستغرق في لعبة اللغة المتلفزة سواء كمنتجة أو كمتلقية لها. وما دامت هذه اللعبة هي جزء من لعبة أكبر، وأشد هولاً، وهي لعبة السوق، والاستهلاك، فستكون العودة عنها أمراً شاقاً إن لم تكن مستحيلة. والواضح أن الجهات القلقة باتت تدرك قسوة ما هو واقع، إذ إن سوق المال العالمي لن يعود إلى حدود القومية القديمة، فالمال، وكذلك الأفكار، تجتاز الحدود بأسلوب وبسرعة لم نشهد نظيراً لهما من قبل، وهذا ما أطلق عليه اسم نمط المعلومات الجديدة الذي يشكل هجوماً ضد سلطات السيادة التي تتمتع بها الحكومات. ومتى أدركنا أن سوق المال والمنافسة المترتبة على شروط عمله هو الأساس في إنتاج نظام القيم، سيكون بمقدورنا رؤية الحجم الهائل للمأساة. وسيكون واقع الحال أمرّ وأفظع حين نعلم أن اللعبة عالمية – كونية بامتياز. وأن اللعبة إياها تنتج معارف وقيماً وأفكاراً على مقاسها، وبما يخدم جوعها الضاري للاستحواذ والربح.
إن الوجه المثير للجدل، في هذا المقام، هو تحول الإعلام بأحيازه المختلفة إلى قوة أيديولوجية ضارية. هذه الأيديولوجية تتولى بدورها عمليات إقناع واسعة النطاق وبما لا يمت لمصلحة الإنسان في شيء. لقد جاء بيع أقنية التلفزيون في فرنسا إلى القطاع الخاص، تبعاً للنموذج الأميركي ليجعل «الحدث» سلعة تفصَّلُ على ذوق المستهلك. وأصبحت الأخبار والاستعراضات مسنداًَ للإعلانات التي تتحكم بتمويل البرامج وانتقاء مقدميها تبعاً لمؤشر نسبة الاستماع والمشاهدة.
والأخطر في هذا الوجه، ما يجد ترجمته في دخول الإغراء الأيديولوجي عالم الحروب المدوية. ثم «ليشرعنها» إلى درجة لا يعود معها المشاهد يهتم بما تفعله الأسلحة المدمرة للإنسان، بل ينصب اهتمامه على البراعة الفنية التي تؤدي بها هذه الأسلحة مهماتها بنجاح.
كاتب من لبنان