المواربة الفكرية
حنا عبود
قال عمر بن أبي ربيعة:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
ولمجنون ليلى وكثّير عزة وجميل بثينة وابن الدمينة… الكثير من هذا التحايل لإخفاء العشق الحقيقي. وكما يكون التحايل العاطفي يكون التحايل الفكري، أو المواربة الفكرية، فعندما لا يريد المفكر أن يدلي برأيه في قضية مركزية يلجأ إلى الجزئيات، فينكش في ترابها ليكشف الأعشاب السامة فيها. وقد تكون سامة حقاً، ولكنها لا تؤثر في الحقل الكبير.
واليوم نرى مؤيدي السياسة الأميركية يتجنبون إبداء أي رأي مباشر، ويعمدون إلى النظر في الجزئيات، وهي كثيرة يمكن بها الانقضاض على أطروحة الخصم من الباب الخلفي. وبذلك يصلون إلى ما يريدون من الطريق الطويل.
الأطروحة اليوم أن الولايات المتحدة تختبئ خلف ذريعة الإسلام والتعصب الديني المؤدي إلى الإرهاب. وهي ذريعة فقط، لا أساس لها، لسبب بسيط وهو أن معظم حكام البلدان الإسلامية يسيرون في ركاب السياسة الأميركية. لكن أصحاب المواربة يتجنبون هذه الأطروحة المفصحة عن مصالح مادية، وينتقلون إلى الطرف المناوئ (هذا إذا لم تكن المناوأة زعماً ملفقاً) ويوجهون إليه سهام النقد، حتى يظهروه بصورة مقززة. ولهم في ذلك أدوات أهمها: الحداثة والحرية والمرأة والثقافة…
يركزون على الحداثة، ويرون أن من يبتعد عن الحداثة هو الطرف الخاسر، لأنه يفتقد أساليب التطور والتقدم. إنهم لا يحسمون الموقف فيما إذا كانت السياسة الجارية صحيحة أم خاطئة، إن كانت لمصلحة «السلم العالمي» أم لمصلحة جهة معينة على حساب جهات كثيرة، بل ينهالون بالنقد على أولئك المبتعدين عن الحداثة. والحداثة في رأيهم تنحصر في الأدوات والأجهزة والمخترعات الجديدة. فالقنبلة «النظيفة» التي اخترعتها أميركا حداثة، لأنها تقتل البشر من غير أن تهدم منزلاً واحداً. والغاز المشل للأعصاب حداثة، لأنه يبقي الخصم مشلولاً حتى يحقق أصحاب الغاز أهدافهم. إنهم يغفلون كل الجوانب السلبية الأخرى، ولا يطرحون أهداف «الحداثة» المتجسدة في هذه الآلات والأدوات، من تخدم وضد من تستخدم، وما الغرض الذي تريد تحقيقه؟
في رواية «الملهاة الإنسانية» لوليم سارويان مشهد معبر عن هذه «الحداثة»، وهو أن زبوناً دخل متجراً لبيع مصائد الدببة والوحوش البرية. شرح التاجر كل مزايا هذه الآلة الحديثة جداً، والتي تحمي الممتلكات من غزوات الحيوانات الضارية. وهي لا تؤذي الحيوان، بل تسجنه فقط، بحيث يستفيد منه شاري الآلة، فيبيعه ويكسب مالاً بحسب أهمية هذا الحيوان. ومع أنها آلة حديثة إلا أنها سهلة الاستخدام، لا تحتاج إلى كبير جهد لصيانتها، كما أن معها كفالة ضد أي ضرر يحدث في ميكانيكها.
وبينما كان التاجر يتحدث مع الزبون علق صبي في المصيدة، فقال الزبون إن عاملك علق في المصيدة، فيجيبه التاجر بأنه ظنه صبياً يخص الزبون. فيطلب الزبون من التاجر إنقاذ الولد، فيحاول التاجر فلا يفلح، ويقول إنه سيتصل بمدير المصنع حتى يرسل اختصاصياً يفك الولد من الأسر… وهكذا.
غرض سارويان إظهار التناقض الكبير بين النخبة المبتكرة والوعي العام، بحيث تكون المخترعات الحديثة عبئاً على الناس وليست حلاً لمشاكلهم، فللحداثة جانبها السلبي المخيف.
ومن الأدوات الأخرى التي يستخدمونها «الحرية» فيصورون خصوم السياسة الأميركية بأنهم مستبدون لا يعرفون قيمة الحرية، بل إن الحرية تخيفهم، لأنها تطلق الفكر وتحرجهم في مواقفهم القمعية. ويقارنون العالم الشرقي بالعالم الغربي، من دون أن يحددوا مسار المقارنة، فيرون الحرية قيمة أساسية لكل تطور وتقدم وحداثة، في مواربة فكرية مفضوحة.
ومن الأدوات المستخدمة «المرأة» فينتقدون وضع المرأة وتخلفها وجهلها، والظروف التي يفرضها هذا النظام الشرقي أو ذاك على المرأة، ويعلقون الآمال الكبيرة على تحرر المرأة ويزعمون أنه لا يمكن أن يتقدم بلد من بلدان العالم من دون حرية المرأة ودخولها ميدان العمل والنشاط اليومي العام.
ومن الأدوات المستخدمة «الثقافة» فيرون في ثقافة المناوئين للسياسة الأميركية تخلفاً وبدائية، فهي ثقافة تبعدهم عن دخول العصر الحديث. ومن هذه الثقافة القيم الدينية التي يرون أنها قيم بالية، لا يمكن أن تمنح ولو فرصة صغيرة للتقدم، فهي رجعية جامدة منغلقة على نفسها.
ومن الأدوات الأخرى تلك الروايات التي يسردونها عن الجماعات المناوئة لأميركا، فقد روى أحدهم أن هؤلاء المتطوعين إنما يعملون عند عصابات، ويقومون بتصفية كل من يقف في وجه العصابة التي يعملون لحسابها. أو أنهم يعملون في مزارع الحشيش، يتعلمون طبيعة هذه العشبة وطريقة زراعتها ومعالجتها وتسويقها وتحقيق الربح الوفير من تهريبها وبيعها في الأسواق العالمية. ولو كان هؤلاء هم من يحمل السلاح في وجه الغزو، لما قتل جندي أميركي أو أطلسي أو من التحالف المزعوم، ولاحتلوا البلاد بأيسر من نقل محفظة حشيش إلى سواحل فلوريدا.
ويروون الحكايات عن عمل «المجاهدين»: اقتحام المنازل واغتصاب النساء وخطف الأولاد، أو احتجاز الكبار من أصحاب المناصب، أو الأجانب… للحصول على فدية… وهكذا.
إنها خطة منسقة ومرتبة ومدروسة بوعي وإتقان. والمعلومات التي يوردونها قد تكون صحيحة وواقعية، كظاهرة فردية، بل لنقل إنها كلها صحيحة وواقعية… لكن هذا لا يعني بالضرورة السكوت عن التناقض السياسي الأساسي، وتقييم سياسة أميركا أو غيرها من الدول… الخ. وهم لا يفعلون هذا لخدمة الواقعية، وإنما للتغطية على موقف لا يريدون كشفه، فيستخرجون الفلز من الزوايا المعتمة ويصنعون منه مادة للدعاية، ونقاباً يغطي وجه السيدة العجوز.
تذكرنا هذه الأدوات بما كنا نسمعه في النصف الأول من القرن العشرين، حيث يواجهون كل من يهاجم السياسة الأميركية بـ«حقائق» عن الاتحاد السوفييتي وحالة البؤس التي يعاني منها الشعب، ودكتاتورية الحزب على الشعب، ودكتاتورية القيادة على الحزب، والأوضاع الاقتصادية المزرية… كما كانوا يروون الحكايات من أمثال مصاحبة فتاة بقلم حبر أو بنطال جنز… كأن مواخير أميركا التي كان يديرها آل كابوني وورثتها المافيات اللاحقة صوامع للرهبان والراهبات المتبتلات.
الوجه الجميل لأميركا رسمه النشاط الأدبي والفني والعلمي، ولم ترسمه السياسة. ولا نظن أن المواربة الفكرية قادرة أن تجعل من وجه العجوز بدراً منيراً، مهما أتقنت وأكثرت من الأوشحة التي تخفي غضون الشيخوخة.
كاتب من سورية