كيف يجب أن تكون الديمقراطية؟
تهاني سنديان
يعتبر كارل بوبر (1902-1994) من أبرز الفلاسفة الحديثين الذين نظّروا في الديمقراطية، منذ اليونان إلى اليوم، ودعوا إليها، ولكن على قاعدة فهمها في الصميم، ومعاينة طرائقها، والفرز بين الإدعاء بها، والعمل بموجب شروطها، وترجمة مداليلها سياسياً وحتى كتربية اجتماعية، وكمفهوم فكري فلسفي واضح وعام.
«من يجب أن يحكم؟»، تساؤل كان طرحه أفلاطون منذ قرون طويلة وأجاب عنه: «الإنسان المتفوق، لأنه الأكثر حكمة ورجحاناً». ولكن ماذا إذا كان هذا الإنسان المتفوق غير متفوق وغير حكيم.. أو إذا كان متفوقاً وحكيماً بالفعل، وأصيب لاحقاً بمرض العظمة أو الهذيان؟
عن هذا التساؤل يجيب فيلسوف القرن كارل بربر، على الرغم من أنه والى يومنا هذا مازالت تطرح المسألة الأفلاطونية «من يجب أن يحكم؟» ونعود دوماً إلى النتيجة/ الحل التي قدمها أفلاطون، ومنذ زمان كانت الإجابة هي، إن الإمبراطور الذي تمكن من اعتلاء العرش، لم يتمكن من اعتلائه إلا لأنه هو وحده يستطيع أن يحكم، وأن يثبت في السلطة، ثم صار لاحقاً، الأمير الشرعي بواسطة العناية الإلهية.
كما تساءل ماركس لمن تحق له السلطة: السلطة الديكتاتورية، البروليتاريون أم الرأسماليون؟ وأجاب هو بنفسه: البروليتاريون الجيدون المتسلحون بوعي طبقي، وبالتأكيد ليس الرأسماليون الشريرون الجشعون، وليس ايضاً بالقطع البروليتاريا الرثة، هذه التي لا تستحق إلا الإقصاء والتوبيخ.
ويردف كارل بوبر في كتاب «خلاصة القرن»- ترجمة لخفر مذبوح والزواوي بغورة- قائلاً إن معظم المنظرين للديموقراطية يواصلون هم كذلك الإجابة عن التساؤل الأفلاطوني: «من يجب أن يحكم؟» ونظرياتهم تقتضي تعويض الجواب الذي ظهر منذ العصور الوسطى وكأنه بديهي، وهو «الأمير الشرعي بواسطة العناية الإلهية»، وهكذا نقلد العبارة: «بواسطة العناية الإلهية»، ونعوضها بعبارة من نوع: «الشعب بواسطة العناية الشعبية». هذا ما كان يقال في روما القديمة «صوت الشعب، هو صوت الله».
إننا نجد دائماً مسألة أفلاطون «من يجب أن يحكم؟» وإن لها دائماً أهمية كبيرة في النظرية السياسية، وفي النظرية الشرعية، وبخاصة في النظرية الديمقراطية، فنحن مازلنا نقول إن للحكومة الحق في الحكم مادامت شرعية، بمعنى عندما تكون منتخبة من طرف غالبية الشعب، أو من طرف ممثلي الشعب، وبالاتفاق، أو المطابقة مع أحكام الدستور، ولكن يجب ألا ننسى أن هتلر قد وصل الى الحكم بطريقة شرعية، وان القانون الخاص بتخويله جميع السلطات قد تمت المصادقة عليه من طرف الأغلبية البرلمانية. إذن إن مبدأ الشرعية لا يكفي. إنه إجابة عن سؤال أفلاطون، وعليه فإن ما يجب تحويله وتحويره وتغييره وتعديله هو السؤال ذاته.
لقد رأينا أن مبدأ السيادة الشعبية هو كذلك شكل إجابة ممكنة، وإن كان يتعلق الأمر بمبدأ خطير، لأن ديكتاتورية الأغلبية يمكن أن تكون مرعبة بالنسبة إلى الأقلية.
وفي رأي كارل بوبر أن اصطلاح الديموقراطية، والذي يعني «الشعب»، هو مع الأسف مصطلح خطير، كل فرد من أفراد الشعب يعرف تماماً أنه لا يحكم. ومن هنا لديه انطباع بأن الديمقراطية تعتبر نوعاً من الاختلاس والنصب والاحتيال. وهنا يكمن الخطر، من المهم ان نتعلم ومنذ الدراسة بأن كلمة «الديمقراطية» منذ الديمقراطية الأثينية، هي الاسم التقليدي الذي نطلقه على دستور يمنع قيام ديكتاتورية أو طغيان. الديكتاتورية هي أسوأ الأشياء، مثلما نراها في الصين الآن، بحيث انه لا يمكن التحرر منها من دون إراقة الدماء، وفي الغالب حتى مع إراقة الدماء، فإلى يومنا هذا مازالت الديكتاتوريات قوية جداً مثلما لاحظناها بمناسبة تلك المحاولة الثائرة ضد هتلر في 20 يوليو 1914.
ولكن كل ديكتاتورية هي لا أخلاقية، كل ديكتاتورية هي أخلاقياً سيئة. إنه المبدأ الأخلاقي الأساسي للديموقراطية، مفهوم على أنه شكل الدولة الذي يسمح بإقالة حكومة من دون إراقة للدماء. الديكتاتورية سيئة أخلاقياً، لأنها تدين وترغم مواطني الدولة ضد وعيهم، وضد قناعاتهم الأخلاقية للتعاون مع الشر، ولو بالصمت. إنها تحرم على الإنسان مسؤوليته الأخلاقية، وهو من دونها ليس إلا نصف إنسان، أو أقل من ذلك، وفي ظل الديكتاتورية، فإن أي محاولة من أجل تحمل المسؤولية الإنسانية تصبح محاولة انتحارية.
ويمكن ان نبين تاريخيا- من وجهة كارل بوبر- أن الديمقراطية الأثينية كانت حتى زمن «بركليس» و«ثيوكديد»، لم تكن تعنى سيادة الشعب بقدر ما كانت وسيلة لمنع قيام الطغيان. لقد كان الثمن باهظاً، وربما كان زائداً، لأنه تم إلغاؤها بعد أقل من مئة سنة. لقد كان الثمن هو النفي والإبعاد والطرد، الذي فهم في الغالب بطريقة خاطئة، بحيث إن كل مواطن يصبح أكثر شعبية،أو يتمتع بشعبية خطيرة، يجب أن يبعد بسبب هذه الشعبية ذاتها.
هكذا تم طرد وإبعاد رجال الدولة المتمكنون مثل «أرستيد» و«ثمستوكل» وسيكون من العبث القول إن «أوستيد» قد تم إبعاده لأنه كان يشكل عقبة لتوجهات أو لخطط «ثمستوكل»، أو أن كنيته «العادل» قد أثارت غيرة مواطنيه. هذه أمور لا علاقة لها بالإبعاد. إن كنيته تشير الى أن «أرستيد» كان أكثر شعبية وإن مهمة ووظيفة الإبعاد بالتحديد، كانت تقوم على منع الوصول إلى السلطة، أو الحكم لديكتاتورية شعبوية. هذا هو سبب إبعاده وهو السبب نفسه في إبعاد «ثمستوكل».
حتى «بركليس» يظهر انه تفطن إلى أن الديمقراطية الأثينية ليست سيادة شعبية، وإن مثل هذه السيادة لا يمكن أن تكون. وبالفعل، ففي خطابه الشهير حول «ثيوكديد» يقول: «على الرغم من أن هنالك قلة من الأشخاص الذين يمكن أن يكون لهم مشروع سياسي، أو يبلوروا مشروعاً سياسياً، إلا أننا قادرون على تقييمه والحكم عليه». هذا يعني أننا لا نستطيع الحكم، أو ليس كلنا قادرين على الحكم، ولكننا قادرون على الحكومة، وبإمكاننا أن نقوم بدور لجنة التحكيم.
ويعلق كارل بوبر على ذلك بالقول: هذا ما يجب أن يحدث في نظري يوم الانتخاب، إنه ليس اليوم الذي نعطي فيه شرعية للحكومة الجديدة، ولكنه اليوم الذي نعلن فيه حكمنا على الحكومة السابقة، اليوم الذي تقدم فيه الحكومة حسابها على أفعالها.
باختصار، يريد بوبر أن يبين أن الفرق بين الديمقراطية بوصفها سيادة شعبية، والديمقراطية بوصفها محكمة شعبية، لها آثار عملية وليست نظرية أو لفظوية فقط، ذلك أن مبدأ السيادة الشعبية يؤدي الى منح تمثيل نسبي لكل مجموعة رأي، وكل حزب بما فيهم الأحزاب الصغيرة لتتحقق فكرة الحكم بواسطة الشعب، أو حكم الشعب بأكبر قدر ممكن من التمثيل.
أما من وجهة النظر القائلة بأن الديمقراطية هي محكمة الشعب، والتي أدافع عنها، فإن الاشياء تبدو مغايرة تماما، ذلك أنني اعتبر تكاثر الأحزاب شؤماً، وعليه فإنني ضد النظام الانتخابي القائم على النسبية، بالفعل فإن تجزؤ، أو تعدد أو تكثّر الأحزاب، يؤدي الى حكومات ائتلاف، حيث لا أحد مسؤول أمام محكمة الشعب، لأن كل شيء يؤدي بالضرورة الى نوع من التسوية. ومن جهة أخرى أصبح من الصعب التخلص من الحكومة، لأنه يكفي إيجاد حليف أقل أهمية في الائتلاف من أجل القدرة على الاستمرار في الحكومة.
كاتبة من لبنان