مرشد الأمة وتأسيس الطغيان
ياسين الحاج صالح
يتوجب عليّ شكر الزميل ياسر عبدالعزيز الذي حفّزتني مقالته «القرضاوي والغزو الشيعي» («الجريدة»، 14/9/2008) إلى العودة إلى حلقتي حوار منشور مع الشيخ يوسف القرضاوي في صحيفة «المصري اليوم» المصرية يومي 8 و9/9/2008. يهتم عبدالعزيز بما قاله القرضاوي عن «غزو شيعي» مفترض لـ«المجتمعات السنية»، ويمر سريعا على نهي الشيخ النجم أن «يأتي إنسان لا يحسن قراءة سطرين من كتاب من كتب أصول الفقه أو التفسير، [و] لا يعرف في النحو والصرف والبلاغة، ليجتهد في الشرع»، وكذلك على تساؤله المستنكر: «هل يستطيع مهندس أن يتحدث في الطب… أو طبيب في المحاسبة، أو عالم ذرة في طب الجراحة، لماذا إذن جعلنا من الدين مجالاً لكل من يعرف ومن لا يعرف، وشأن مباح، بل باب من غير بواب». وإنما هذه الفقرة هي التي ستتوقف عندها هذه العجالة، لا تتعداها إلى غيرها من أقوال الشيخ.
الشيء الذي لا يبدو أن شيخنا يتبينه حين يعادل بين الفقه أو «الاجتهاد في الشرع» وبين الطب أو الهندسة أو المحاسبة أو علم الذرة… هو أن السلطة التي يستمدها الأطباء والمهندسون… من تخصصاتهم سلطة خاصة ومقيدة. فالطبيب يصوغ نصائحه لمرضاه في صيغة شرطية: إن كنتم ترغبون في الشفاء، فعليكم فعل كذا واجتناب كذا وتناول كذا. ليس لنصائحه صفة ملزمة، ولا يسعه بحال من الأحوال أن يتوسل الإكراه لفرضها. والحيز الخصوصي لسلطة أصحاب الاختصاص هؤلاء (لا يحكمون دولا…) من جهة، وانفصال ممارساتهم العملية، ومن باب أولى معارفهم النظرية، عن العنف من جهة ثانية، خصوصيتان جوهريتان لسلطتهم الاجتماعية.
هل الفقيه أو «عالم الدين» مثلهم في ذلك؟ تقوم إيديولوجية الشيخ القرضاوي بالذات على العكس. في كتاباته الوفيرة، كما في حواره المومأ إليه ينكر «مرشد الأمة» (هكذا وصف تطلعه الشخصي) تمايز الدين والدولة، ويقرر أن «الإسلام عقيدة وشريعة (…) عبادة ومعاملة، دين ودنيا، دعوة ودولة»، ما يعني المطالبة بولاية عامة للقائمين على الإسلام، وما يقتضي بالضرورة ممارسة العنف. من أول ما يأخذه الشيخ على القوانين المصرية الحالية مثلا «تعطيل الحدود».
جلي أن سلطة الفقيه ليست مثل سلطة الطبيب… فالأول وحده يطمح إلى سلطة عامة (على جميع الناس، بمن فيهم غير المسلمين)، لا تستبعد العنف. هذا يعني أنها سلطة سيادية، مثل سلطة الدولة. ولعلها لذلك بالذات تصارع الدولة وتطمح إلى السيادة. وليست دعوى «الحاكمية الإلهية» التي دافع عنها الشيخ مرارا في نصوص مكتوبة وحلقات مشاهدة (وإن لم تذكر في حلقتي حواره مع «المصري اليوم») غير تطلع إلى سيادة مطلقة، لا منازع لها يتولاها الإسلاميون (أو بعض الإسلاميين، فالشيخ غير راض عن أصناف منهم، الشيعة والوهابيين بخاصة).
لدينا من جهة اختصاص محمي جيد ضد غير المؤهلين، وفي الوقت نفسه يطلب أهل هذا الاختصاص لأنفسهم سلطة عامة ومطلقة. أليس هذا هو الطغيان بعينه؟
وإذا كنا نروم التحرر من الطغيان، فما من سبيل أمامنا غير منع أي تخصص اجتماعي من المطالبة بولاية عامة، أو بصيغة منطقية منع الخاص من تولي العام. وفي سياقنا، هذا لا يتحقق بغير واحد من توجهين. إما حصر الفقه أو العلم الديني في مجال الخاص مثل أي تخصص، بحيث يحوز «العالم» أو المفتي سلطة اجتماعية خاصة (مقصورة على طالبيها من المسلمين) وغير قسرية؛ أو بالعكس نزع طابع الاختصاص عن العلم الديني بحيث يكون كل مسلم مؤمن فقيه نفسه، لا سلطة عليه من غيره، أو أن يرتضي المؤمنون ولاية العلماء عليهم كأن ينتخبوهم بحرية. هذا هو مؤدى التحليل العقلاني الذي يفترض الناس عاقلين ومؤهلين للحرية. فإن أنكرنا على الناس العقل والحرية، فتحنا بابا لن يغلق للطغيان، حتى قبل أن نحاول الجمع بين الاختصاص الديني والسلطة العمومية. والطغيان بالتعريف لا ينضبط بحد، عقليا كان أم دينيا. قد يستخدم الطغيان الدين، لكن لا يمكن أن يخدمه. وقد يناسب الدين أداة لفرض حكم مطلق، لكن الدين لن يكون شريكا، بل سيدا، في حكم مطلق. (لكن هل الناس في بلداننا عقلاء ومتحررون فعلا؟ أليس في تدني العقلانية وضعف تطلب الحرية ما يفسر انتشار تفكير استبدادي، يجد سنده في الدين مرة وفي القومية مرة…؟ بيد أن هذا موضوع آخر).
هناك شكلان أساسيان، إذن، لفك الارتباط المفضي حتما إلى الطغيان بين العلم الديني والسلطة العمومية. رد العلم الديني إلى اختصاص مثل الطب والهندسة… وهو الصيغة العلمانية لعلاج التنازع المحتمل بينهما. أو إلغاء الاختصاص الديني بإذابته في جمهور المؤمنين الأحرار في ضرب من طوبى تحررية إسلامية (من المؤسف ألا نجد ولو بذور تفكير في هذا الاتجاه عند الإسلاميين بجميع أصنافهم…)؛ ولهذا الشكل الأخير صيغة فرعية تتمثل في انتخاب المؤمنين قادتهم الدينيين، وانضباطهم تاليا بأوامرهم ونواهيهم، مع ما ينبغي أن يكون معلوما من أن الانتخاب لا يكون انتخابا حرا إن كان لمرة واحدة. باختصار، إما الاختصاص أو الانتخاب. من يحوز سلطة عامة ينبغي أن يكون منتخبا، فإن لم يكن منتخبا فلا سلطة له.
في كل الحالات لا مجال في العقل لسلطة دينية تفرض نفسها بالقسر على الجميع وتتخذ من العلم الديني أساسا حصريا لشرعيتها، هذا بالطبع إن كنا نرفض التعسف في التفكير، والطغيان في السياسة. أما إن كنا لا نأبه لهما، فلا فائدة من أي نقاش وتفكير، وستدين الغلبة إلى الأقوى إلى أن يأتي من هو أقوى منه. ولن يكون الدين غير وسيلة في هذا الصراع الأبدي.
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –