العرب أمام ضرورات الإصلاح الديمقراطي
شمس الدين الكيلاني
لعل القضية الرئيسية التي باتت تفرض نفسها بإلحاح على المشهد السياسي العربي برمته، هي مسألة الإصلاح، بكل تفرعاته ومعانيه، بعد أن غدا واضحاً للقاصي والداني عمق الأزمة التي تضرب النظم العربية لدرجة فقدت معها تلك النظم بطرائقها الاوامرية المتبعة، المقدرة على الاستجابة لتحديات التنمية والتحديث، ناهيك عما يفرضه الانخراط في العولمة من متطلبات، أو للارتقاء إلى مستوى متطلبات العصر وقيمه وشرعته، وفي مقدمتها شرعة حقوق الإنسان، والمشاركة الديموقراطية للشعوب في تقرير مصائرها، ولا سيما أن الحرب الباردة التي ساهم قطباها في تدعيم أنظمة الاستبداد قد انقضت، وفقدت بانقضائها الدعم الدولي المناسب لها، فبانهيار نمط الدولة السوفياتي الشمولي، فقدت الدولة (الراديكالية التقدمية) سندها المادي ومرجعيتها في بناء دولة الحزب الواحد منجهة، ولم يعد الغرب يجد نفسه مضطراً إلى دعم الطابع الاستبدادي في النظم التقليدية، مع اختفاء عدوه الأكبر الاتحاد السوفياتي، وزوال مخاطر النظم الراديكالية، إلاّ إذا وجد في ديموقراطية هذا البلد أو ذاك ما يهدّد مصالحه الكبرى مباشرة: البترول، إسرائيل، أو فقدان موقع استراتيجي.
وهكذا، عندما أتى يوم الحساب، في ظل النظام العالمي الجديد، وجدت النظم العربية نفسها أمام خيارات صعبة لتجاوز اختبار البقاء، فهي لم تعد قادرة على إدارة الحكم بالطريقة القديمة أمام تدفق الطلب على الديموقراطية من قبل شعوبها، ولا قادرة على توفير شروط الاندماج في المجتمع الدولي بحقائقه الاقتصادية والسياسية والثقافية، فالثروة التي كانت تقتطعها من المجتمع لتعيد استثمارها وتوزيعها لفتح منافذ للعمالة ولترشي فيها شعوبها خسرتها في التبذير والفساد، وخسرت معها المرجعيات وقيم الحكم البائدة التي أطاحها الزمن، ولم يعد لها سوى إدارة زمن الركود الذي بات يتحكم بآليات عملها، أو أن تقدم على إعادة النظر بالطرق القديمة والبدء بعملية الإصلاح التي لن تعطي نجاعتها وفاعليتها إلاّ إذا ترافق فيها الإصلاح الاقتصادي والإداري، بإصلاح سياسي ينال من طريقة تحكّم تلك النظم بالوطن والمواطن، تلك الطريقة التي تتحمل مسؤولية تدهور الدولة والمجتمع العربيين، وتدهور موقع العرب إقليمياً وعالمياً حتى أصبحنا أضعف الأمم.
لا شك أن الفترة الطويلة من تاريخ هذه النظم، أورثت مشكلات عميقة لا تمس التنمية وحسب، بل ان أخطرها هو ذاك الناتج عن المظالم السياسية والإنسانية التي حفرت لها أخاديد عميقة في الجسم الاجتماعي، إلى درجة باتت تهدد معها الوحدة الوطنية، وهو ما يتضح جلياً الآن في العراق، وفي الجزائر، ومن هنا تأتي الحكمة الذهبية التي تُوجب عليها أن تقوم بتغيير مأمون العواقب آخذة بالاعتبار الدمج بين عملية التغيير والإصلاح الشاملين، والحرص على الاستقرار الاجتماعي، ولقد أظهرت المعارضات العربية في أقطارنا العربية المختلفة ـ باستثناء التيار (التكفيري) الإسلاموي ـ حرصاً شديداً على نجاح عملية الإصلاح بدون زعزعة الاستقرار، ومخاطر الفوضى، كما أبدت استعدادها للمصالحة الوطنية، فهي تريد الثمار وليس استهداف الناطور، كما أظهرت رغبتها في توفير الشروط السياسية السلمية لعملية الإصلاح فضلاً عن أنها أبدت معارضتها الحاسمة لخيار الاعتماد على الأجنبي لإجراء التغيير، أو الاستقواء به على حكام بلدها، حيث تنبهت إلى ما يكتنف هذا السبيل من مخاطر على الوطن والمواطن، ولم تتردد في إدانة سلوك بعض أطراف المعارضة العراقية التي ضحّت بالوطن تحت وهم تحرير المواطن من الاستبداد، فدخلت بغداد وعلى دبابات الغزاة فخسرت الوطن، والسيادة ومؤسسات الدولة العراقية، ومعها الأمن والثروة، على مذبح الوعود الأميركية بالحرية.
فالبيئة السياسية ملائمة لإجراء التغيير دون خوف من هزّات اجتماعية كبرى، والمسألة برمتها تتعلق أولاً وأخيراً بالإرادة السياسية للحاكمين، وعلى إدراكهم أن عملية الإصلاح لن تعود بالنفع على المحكومين فحسب ولا على عملية الإنتاج والاقتصاد وعلى زيادة الثروة، بل ستعزز أيضاً من مكانة المبادرين بها وصانعيها وستجدد من النخب الحاكمة وتجدد البناء السياسي للمجتمع والدولة بوضعها على سكة واحدة، هي سكة السلامة، من المخاطر المحتملة من تفجّر غير محسوب في الداخل سيدفع ثمنه الجميع، ومن تهديدات الخارج، وهي تهديدات تبدو جدية، مع صعود نجم اليمين المسيحي والصهيوني في أميركا، وبقاء “إسرائيل” وأطماعها في الجوار، وعلى هذا الأساس، يصبح الإصلاح هو الطريق الأوفر حظاً لتأمين الاستقرار، والوحدة الوطنية، ولتحصين بلداننا العربية أمام ما يلوح من مخاطر العدوان، في الخارج، أما الاستقرار المبني على ركام من المظالم، وإهدار الحقوق، فهو استقرار زائف، يهدد بالنكبات، وما أكثرها في دنيانا العربية.
المستقبل