عميد كلية الشريعة بدمشق: على مناهضي جرائم الشرف “مغادرة سورية”!
بسام القاضي
إنه فحوى رسالة د. محمد حسن البغا، عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق! فقد قال، حرفيا، للزميل وائل ديب في المادة المنشورة أدناه (اقرأ المادة..)،
ضمن جوابه حول موقف “الشريعة الإسلامية” من جرائم العار المسماة “جرائم الشرف”: “وعلى المطالبين بتغييرها أن ينظروا في علاجها خارج سوريا”! فهل تحتمل هذه “الدعوة” الكثير من المعاني؟!
د. البغا يرى أن المادة تتفق مع “الشريعة الإسلامية”! في أول تأكيد صريح وواضح لرجل دين في مقام عال على أن الحق الهمجي للأفراد بقتل بعضهم بعضاً “مشروع” في الإسلام! ومع كل الاحترام لشخصيات من يحمل هذه الأفكار، ولشهاداتهم الجامعية أيضاً، لا يسعنا إلا التساؤل جديا عن مفهوم “العدالة الإلهية” المرتكز كليا على “مساواة يوم الحساب”، وعن مدى استقرار هذا المفهوم حين يحاسب الناس بالمساواة على أفعال قاموا بها في ظروف مسبقة غير متساوية؟ حين يمكن للرجل أن يقتل المرأة بناء على ذكورته البهيمية (أليس الانسياق إلى المشاعر الغاضبة والفوارة هو أبلغ تعبير عن “البهيمية” في مقابل سيطرة العقل والحكمة عند “الإنسان”؟!)، ومن ثم يُحشر ذلك تحت مسمى “الشريعة الإسلامية”؟! بل أليس المبدأ ذاته، مبدأ تكافؤ الظروف لتحقيق تكافؤ الحساب، هو أساس العدالة الأرضية أيضاً؟! فإذا كان “الإسلام” يسمح لفئة من الناس مبنية على تفاصيل جنسية بيولوجية معينة من أتباعه بقتل فئة أخرى مبنية على تفاصيل جنسية بيولوجية أخرى، ويشرع ذلك، بل ويشجعه بإعفائه من أية عقوبة “أرضية”، فلم لا تنطبق القاعدة نفسها في اتجاهات أخرى: أن تقتل فئة من الناس مبنية على طول اللحى فئة أخرى مبنية على قصرها؟ وألا يعود من الصحيح أن يقوم أناس لا يعترفون إلا بـ”الدف” بقتل أناس آخرين لأنهم يسمعون “الجاز”؟!
أليست هذه دعوة صريحة للعنف؟ ليس فقط باعتبار القاتل بطلاً مدافعا عن “الشرف”! بل أيضا بدعوة معارضي هذا الرأي إلى “البحث خارج سورية”؟! وكيف يتسق أن تخرج مثل هذه الدعوة من عميد كلية تخرج آلاف الأشخاص يفترض بهم أن يحملوا راية دين لا يعلو فيه توصيف لنفسه على توصيف: دين التسامح والمحبة؟ أم أن التسامح هو “تسامح” المطيعين الصامتين القابلين بكل ما يقال لهم دون أن يعملوا فيه أعز ما منحهم إياه الله: العقل؟!
وأين ستذهب بذرة العنف هذه غدا؟ هل يمكننا أن نلوم طالبا يتخرج غدا بمثل هذه الفكرة إن اعتقد أن على من لا يوافقونه الرأي (فهو إنسان وذو شهادة وله كامل مواصفات ومؤهلات أي إنسان آخر)، في أية مسألة أن يغادروا سورية أو… يجبروا على مغادرتها!
بل وكيف اتسق للدكتور البغا أن يقول ذلك وهو من قال في تصريحه ذاته أن القتل “اشد فسادا”؟! وهل يصح ان يكون الأكثر فسادا مشرعا ومقبولا بحجة أنه: “من أجل الشرف”؟! فماذا إذا خرج علينا غدا من يرى أن “الشرف” كامن وظاهر في “حف الشوارب”؟ أو في “لبس البنطال”؟ أو في “ارتداء الحجاب”؟! افلا تنطبق هذه القاعدة عليه أيضا؟! ألا يمكنه أن يحشرها أيضا في “الشريعة الإسلامية” ويشرعها على أنها “أقل إفسادا من القتل”؟!
وليس للآراء التي أكدت تعارض هذه المادة مع “الشريعة الإسلامية” أي مكان في رأي د. البغا! وهي آراء أكدت تناقض المادة الكامل، كمادة وكحق وكتفكير، مع الإسلام ومع كل اعتقاد سام مهما كان اسمه. هذا التصور الإنساني لم يكن موقف د. أحمد حسون، مفتي سورية، فقط، وهو الذي أكد أن إعفاء القتلة من العقاب “الأرضي” إنما هو يضرب في صلب الإسلام، بل كان أيضاً موقفاً واضحا للكثير من رجال الدين في سورية وخارجها، بينهم د. محمد حبش (الذي أكد أنها تخالف الإسلام في ثلاثة هي من الكبائر)، د. محمد سعيد رمضان البوطي (الذي قال حرفيا: أنا مع إزالة هذه المادة فورا، لكن والله، والله، والله لن يتغير شيء في هذه الجرائم لأن أسبابها في مكان آخر)، الشيخ حسين شحادة… عدا عن العديد من رجال دين أديان أخرى، ومن رجال دين في بلدان أخرى،! (اقرأ قسم المقالات في الحملة الوطنية المناهضة لجرائم الشرف!) إذ يبدو أن هؤلاء جميعا ليسوا ممن يعرف “الشريعة الإسلامية” فلم يعرفوا مدى اتفاق القتل الهمجي باسم الشرف معها!
ولا يهمنا هنا أن نناقش د. البغا في استشهاده الوارد في مادة الزميل ديب. فقد عرفنا جيدا كيف أن الاستناد إلى هذا الشاهد أو ذلك لم يكن يوما إلا مجال تنازع بين رجال الدين! تنازع رأينا جيدا كيف أنه استطاع أن يخدم آراء الجميع على اختلافها!
ما يهمنا هو أن نشير إلى أن هذا “الاتفاق” مرفوض جملة وتفصيلا، أيا كان “مؤيده”. وما كان لمبدأ سام كالإسلام أن يمنح الأفراد حق قتل بعضهم بعضا لأي سبب كان. ولو كان هذا المنح قائما لما كان لمجتمع يحمل هذه العقيدة أن يستمر لأكثر من أيام قبل أن ينهش بعضه بعضاً. ولا يغير بالأمر شيئا حشد الاستشهادات أو حشد الشهادات.
أما أن د. البغا قد قال إن اتهام المادة هو احتيال لاتهام التشريع، فإنه لموقف سبق لنا أن امتنعنا عن الرد على مثل هذه الاتهامات. فليس للدكتور البغا، ولا لغيره أن يتهمنا في نوايانا. وحين نرى أن التشريع هو المتهم سنقول ذلك علنا دون أدنى خوف أو تلطي وراء أسباب أخرى. ولسنا نحن من “حشر” القتل العار هذا تحت مسمى “الشريعة الإسلامية”! بل كنا أول من رفع الصوت عاليا مناهضا هذا الإرجاع، ومؤكدا أنه لا يمكن للإسلام أن يقبل مثل هذا القتل الحرام. ولذلك فإن أول ما قمنا به حين إطلاق الحملة المناهضة لهذه الجرائم القذرة هو نفي الفكرة السائدة أنها جرائم “دينية” أو ترتكب باسم الإسلام. وأكدنا أن سوريين من جميع الأديان والمذاهب على اختلافها يرتكبون هذه الجريمة. وان المبادئ السامية في الإسلام والمسيحية واليهودية، وفي جميع العقائد السامية، لا يمكن لها أن تقبل أو تشرع مثل هذا القتل (وذلك كله مثبت في القسم الخاص ب”جرائم الشرف” على مرصد نساء سورية).
ولم نخش أيضا أن نقول إن مصطلح “الشريعة الإسلامية” مصطلح مطاط يتمدد ويتقلص وفق رؤية رجل الدين هذا أو ذاك. وهو غير صالح بالإطلاق لغير “الاستئناس”. ولذلك نعارض بشدة الاستناد إليه في التحفظات على اتفاقيتي حقوق الطفل ومناهضة كافة أشكال العنف ضد المرأة، كما جميع الاتفاقيات الدولة والبروتوكولات. فـ”الشريعة الإسلامية” هو مصطلح تاريخي يضم جزءا يسيرا من النصوص المقدسة، وجميع الأجزاء الأخرى هي قراءات واجتهادات لأناس نكن لجهودهم كل الاحترام، ولكن أحدا منهم لا يحمل صفة “القداسة”! فهو تجميع لأراء بشر فانين وخطائين مثلهم في ذلك مثل د. البغا، ومثلي، ومثل أي إنسان آخر على وجه الأرض.
ومعارضتنا للمادة 548 من قانون العقوبات السوري، ولتطبيق المادة 192 على جرائم القتل البهيمي المسماة بـ”جرائم الشرف” (أليس العقل ما يميز البشر عن البهائم؟ فما لنا نقبل هنا ردود فعله “البهيمية” ونشجعه عليها عبر مكافأته لسفحه الدم وهتكه الروح؟!)، هي معارضة أصلية لا لبس فيها. فهي معارضة تثبيت الهمجية الصريحة المقنونة عبر تثبيت حق الأفراد بقتل بعضهم لأي سبب كان. والأفراد هنا هم الرجال حين يذبحون النساء، كما لو كانوا يذبحون الدجاج!
نعيد ونؤكد منعا لأي لبس: إن “جرائم الشرف” هي جرائم متعارضة مع أي مبدأ سام سماوي كان أم أرضي. وسورية لم تتحول بعد إلى “إمارة إسلامية” على طريقة “الإمارات” التي رأينا بأم العين أي ظلام جرت البشر إليه! ولن تتحول! ولكن، حتى إن تحولت، نود أن نطمئن د. البغا، كما نطمئن أي شخص أو جهة أخرى تفكر التفكير نفسه، أننا باقون هنا، فوق ترابها أو فيه، باقون هنا بآرائنا التي سنبقى نعلنها ونحاور فيها من أجل مجتمع أفضل وأرقى. مجتمع يحمل كل قيمه الجميلة والسامية، ويتخلى عن كل شذرات الانحطاط التي ورثها من المراحل المنحطة في تاريخه، مهما تسمت وتلونت
بل وباقون هنا بمعارضتنا الصريحة والواضحة لجرائم القتل الهمجي باسم “الشرف” كانت أو باسم “الدين”! ولن نتوقف عن تبيان مدى الانحطاط في هذه الجرائم، وفي قنونتها وتشريعها حتى تصير أثرا بعد عين، ويصير كل قاتل في محكمة لا يستل فيها “حقا” ممنوحا له مسبقا بناء على عضو في جسده! بل محكمة عادلة ينظر فيها إليه كقاتل عمد، ومن ثم ترى هيئة المحكمة إن كان هناك ما يستدعي أخذه بالحسبان أثناء اتخاذ قرار الحكم، شأنه في ذلك شأن أي قاتل آخر!
نحن باقون هنا يا سادة! وليس لأحد خيار في إخراجنا منه! نحن باقون هنا لأنه بلدنا! ولأن ما نفعله ونعمله ونقوله هو لمصلحته المتثملة في تطوره الإنساني، وليس في انحطاطه باتجاه العنف! فعذرا!
نساء سورية