صفحات الحوار

أندره فيلتير :لستُ شاعراً سمعياً لكني لستُ من أتباع الشعر المؤتمن على الرسالة الفلسفية

null
الشعر لا يسعه الإنعتاق من الواقع
أنا جزءٌ من عالم اليوم لكنه لا يروقني في معظم الأحيان
مروّسة الذهن ومغتبطة حسيا وفكريّا، هكذا تتراءى قصيدة الشاعر الفرنسي اندره فيلتير. صديق درويش وأدونيس وسارتر ودوبوفوار، وصديق قصيدة تنحاز الى حيث تململ آخرون. تناصر الشفوية والصوت العالي الخافتين في فرنسا منذ مالارميه، يستبدّان بفيلتير لأنهما ليسا من فصيلة الآثام. الى لبنان حضر فيلتير ليقدم امسيتين شعريتين بين بيروت وطرابلس، فرّج خلالها رجل الإذاعة والكاتب الذي حاز “غونكور الشعر” في 1996، عن الكامن بين القراءة والقول. في شأن رؤية سقفها ارتقاء يجعل الداني بعيدا والبعيد قريبا، التقينا فيلتير المشرف على منشورات “غاليمار” الشعرية، وكان هذا الحوار:
• من أفغانستان الى المجر، ومن روسيا الى اليمن والهند والتيبت والشرق الأوسط وسواها لم تكفّ عن التنقّل في العالم أكاد أقول قبل ان تعرف باريس…
– في الواقع قصدت باريس مبكرا. ولدت في أردين غير ان أبناء عمّي أقاموا في باريس حيث اصطحبني والدي وأنا في الرابعة. عرفت المدينة مبكرا وجيّدا، أحبها كثيرا. يقال لي إني دائم السفر وأني أحسّ بالراحة خارجا. هذا صحيح لكني أرتاح كثيرا في فرنسا كذلك. أعشق باريس ولا أزال منبهرا إزاءها، أجوبها على دراجة صغيرة، عندما لا يكون الطقس ماطرا. أحاذي ضفاف السين وأفكّر ان العالم برمته راغب في أن يحلّ مكاني. أظن أن فرنسيين كثرا لا يعون حظهم الاستثنائي. اغتبط لوجودي في باريس، لكنه يصعب عليَّ الاقامة فيها دوما، أحتاج الى الحركة. صار السفر بالنسبة إليَّ حياة ثانية.
• يتراءى ان السفر الدائم منحك أيضا فرصة مواجهة الأشكال الشعريّة الفسيحة. الحركيّة والتجريب أخذا بكَ الى ماهية الصوت الشعري، الى “الصوت العالي” الذي يعزّ عليك.
– هذا أمر أساسي. منتصف الستينات من القرن الماضي، كنت في العشرين، وساد في باريس شعر فرنسي شديد التركيب، ولغويّ، يسأل عن دراسة معاني الكلمات وعن تقنيّات الكتابة. لم يكن هذا تصوّري الحَدسي للشعر. لم يكن هذا المنحى ليستوقفني في شبابي، وإنما نمط شعر باقي العالم لأني قرأت في تلك الحقبة أوكتافيو باث وأدونيس وسليمانوف ولوكينات باتاشاريا. يمكنني أن أعدّ قائمة بخسمين إسما تضمّ لوركا ونيرودا وناظم حكمت أيضا. لأني إطّلعت على هذه الأصوات ولأنها كانت موجودة، شرعت آنذاك بما يشبه المقاومة. مقاومة لم تكن موجّهة ضد ما كان يكتب في فرنسا، لأن هذا لا يعني شيئا، وإنما الى جانب ما كان ينتج. شكّلت قراءتهم أسلوبا لأتعلّم، في السادسة عشرة أو الثامنة عشرة، كيف أقول لا، لن أكون مثل الرائج. رحت أبحث عن هذه الأصوات خارجا، وأردت على نحو طبيعي أن أجوب العالم.
• يتّضح هذا في التزامك شفويّة جديدة تعيد ابتكارها على نحو منتظم في أمسياتك الشعريّة في رفقة ممثلين وموسيقيين وفي توافق وتناغم متعدّد النطاق.
– كانت الشفويّة حيّة خارج فرنسا فحسب. أعطيكِ بعض الإشارات من سيرتي الذاتية. جرى ظهوري العلني الأول ووقوفي أمام ميكروفون في “المركز الأميركي” في باريس عام 1965. كنت في العشرين، وكنت أقيم في باريس منذ سنتين بعد مغادرتي بروفانس وكنت انطلقت أنشر في مجلّة “الأزمنة الحديثة”. وجدت نفسي في ذاك اليوم أقرأ نصوصي أمام الشاعر الأميركي آلن غينسبرغ، الذي كنت سمعت عنه لماماً من دون أن أعي حجم الشخصيّة الموجودة الى جانبي. يومذاك، كان الشعراء الأجانب على صلة بالشفوية، بـ”الصوت العالي” تحديدا، فانخرطت عفويا في هذه الفئة. بعدذاك، سعيت الى تنميط هذه النزعة. قرأت كثيرا الشعراء الأجانب أو الفرنسيين الذين كانت لهم هذه العلاقة مع الشفوية، واللافت ان الفرنسيين منهم لم يكونوا المعاصرين وإنما شعراء القرن التاسع عشر، من قبيل أبولينير وساندرا. لحسن حظي، ربطتني صداقات بشعراء التقينا على هذه الأرض المشتركة، ليس لندافع عنها وإنما لنبتكرها. لم أشعر يوما بالعداء إزاء الأنماط الأخرى، لم أتعذّب، في حين امتلكت أخرى قدرة ابتكارية تلاشت أو تيبّست تماما، لأنها رضخت لما لم تكنه، لأنها انصاعت لما قيل لها انه ينبغي لها فعله.
• يعدّ بول فاليري الشعر ترددا مديدا بين الصوت والمعنى. هل يمكن هذا الصوت في رأيك أن يجيء من خارج النص نفسه؟
– يفضّل أن يكون في كنف النص أيضا. أجد أن أي قصيدة تفتقر إلى الإيقاع ولا تسكنها الغنائيّة، غير مؤهّلة الى حدّ كبير. الشعر هو توافق شديد الدقّة بين الصوت والمعنى، وكل شعر يقدّم جرعته في هذه المعادلة الخيميائية. أرى نفسي في منطقة وسطيّة، لست شاعرا سمعياً في المعنى الفرنسي للمصطلح حيث تختزل اللغة بالمحاكاة الصوتيّة، ليس هذا مكاني. في المقابل لست من أتباع الشعر المؤتمن على الرسالة الفلسفيّة حيث يتضّح المعنى من خلال الكلمات فحسب.
• أنت إذاعي أيضا. أمّنت من خلال “الشعر وفق الكلام”، حضور الكلام الشعري على أثير إذاعة “فرانس كولتور” بين عامي 1987 و2008. إزاء مطلق قصيدة، هناك فعل القراءة وفعل القول. ماذا يحدث عندما يُمنح صوت لنص أدبي، وتاليا هل تعدّ نفسك ملقياً جيدا لشعرك؟
– ستأتين للحكم على ذلك! بغضّ النظر عن شعري، كنت المبادر الى اقتراح تناوب الشعراء الفرنسيين والأجانب على أثير الإذاعة الفرنسية، أسبوعا تلو أسبوع. لا أقول هذا بداعٍ من غرور، كان الأمر في رأيي، تدبيراً ضرورياً للمحافظة على “صحّة” المستمعين. من خلال اقتراح الشعر العالمي، أردت أن أبرهن للشعراء الفرنسيين الغياب المأسوي للشفويّة في قصائدهم. بثثنا أدونيس وهو يقرأ شعره بالعربية في فرنسا، طيلة ثمانية أيام، وهذا أمر يدعو الى التفكير. أذكر أدونيس لأنه صديق حميم، لكننا أيضا فتحنا المجال لشعر سليمانوف وآلن غينسبرغ والشاعر البنغالي باتاشاريا. اتقن أوكتافيو باث أيضا قراءة قصائده. كان على قدر من غبطة وهو يلقي شعره. أتقن الجميع ذلك باستثناء الفرنسيين! هذا عارض منوط بـ”الما بعد مالارميه”، بالحقبة اللاحقة لزمن مالارميه، في حين لا طائل له في ذلك. تعرفين الجملة الأثيرة “مالارميه هو تلميذ نقّاده”. إنه شاعر هائل ساهم في التفكير في فعل الكتابة، لكنه صار بعدذاك حجةً لفرض الهيمنة، احتمى بها الآخرون، ليصير إرثه، وليس هو طبعا، غير محتمل. كان على أبناء جيلي ان يعترضوا على ذلك لكي يتركوا العنان لطاقتهم. غير اني لم أفعل ذلك على نحو فئوي وعنيف. في الثامنة عشرة، نشرتُ في “الأزمنة الحديثة” وفي العشرين لدى “غاليمار”. لم أواجه المشكلات. لم أكن لأقدّم نفسي تاليا، كالملعون في العالم في حين فتح لي الجميع الأذرع.
• لنتوقف عند باكورتك “عايشة”، التي صدرت في 1966 لدى “غاليمار” بفضل دعم جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. استقبلت هذه القصيدة كظاهرة. كيل لها المديح وتم البناء عليها كأول قصيدة للتنقيب المدرك منذ بروتون. نُسب اليك، من طريقها، كشف الواقع، لكن أليس من دعوى الشاعر التحرّر من تخوم واقع شديد الضيق؟
– لا أظن أنه يسع الشعر الانعتاق من الواقع. لست البتّة شاعر الحدث اليومي. أنا جزء من عالم اليوم، وفي معظم الأحيان لا يروقني عالم اليوم، لكني لا أضع نفسي جانبا. كتبتُ “عايشة” مع سيرج سوترو، عند نهاية الحرب الجزائرية، حين حدث أمر محوري في وعي جيلي. أتمنى الا يكون شعرنا قد سقط في الواقع الصحافي. كان شعرا يقول من خلال وسائل الشعر اللامحتمل في التعذيب، والعالم الاستعماري…
• وليس خفة الكائن التي لا تحتمل..
– لا أؤمن بذلك. هناك مسؤوليّة في الكتابة ولا رغبة لي في ان أنعتق منها. حدث مرة أو مرتين ان فُهم نصّي على نحو خاطئ، وهذا وضعني في حرج شديد. حدث ذلك بسببي لأني لم أقم بجهد كاف، على الأقلّ على مستوى المعنى، لإيصال ما أريده. لست ساذجا، أدرك ان الشعر متعدّد المعنى. لكني أرغب في أن يكون واضحاً معنى واحدٌ أردته، في الحدّ الأدنى. بعدذاك يمكن أياً كان أن يتلقّاه كما يريد. أستطيع أن أشرح نصوصي كلمة بكلمة، لست من نصراء الضبابية للضبابية. ثمة مناطق ضبابيّة في المرء، بلا ريب، وهناك متاهات في الليبيدو الانساني، لكني أرغب دوما، في إيجاد المخرج!
• أشرت الى تعاونك مع سارتر ودو بوفوار في مجلة “الأزمنة الحديثة” حيث نشرت نصوصك الأولى. ما الذي تحتفظ به من هذا التماس مع عاشقي مقهى “فلور”، مع هاتين القامتين في الأدب الفرنسي؟ في حين صارت الوجودية في حكم المتوفاة، كيف يستوقفنا سارتر ودو بوفوار في هذا القرن؟
– إلتقيت سارتر ودو بوفوار وأنا في التاسعة عشرة، ولحسن الحظ ان المرء في هذه السن شديد العجرفة. لم آبه لكونهما معروفين. أمضيتُ ساعات مع سارتر في أحد مقاهي شارع راسباي، حيث كان يقيم. كنت طالب فلسفة وكنت أجالس رجلا يعدّ أهم فيلسوف في العالم، في حين لم يكن يظهر ذلك على الإنسان الماثل أمامي. أكنّ لسارتر الكثير من الحنان، لأنه لم يستخدم إزاء الشاب الذي كنته حجج السلطة. كان في وسعه أن يقول لي إقرأ مجددا “الكائن والعدم” أو “نقد المنطق الجدلي”، لكنه لم يفعل. أجاب عن كل أسئلتي، وحاول إقناعي بإجاباته أحيانا حتى. مع دو بوفوار كان الأمر مماثلا تقريبا. أشعر بحنان هائل وعاطفة غامرة تجاههما لأنهما استقبلاني واستمعا اليَّ. لم أجد نفسي يوما أمام مشاهير. في العمق أظنهما بقيا مدرّسَين، على نسق والدي الذي عمل استاذا خلال الجمهورية الثالثة وكان يجيب عن تساؤلات تلاميذه دوما. بقيت على علاقة بهما الى وفاتهما، لم نكن نتقابل دوما، غير اننا كنا نتواصل عبر الهاتف. كان يروق لدو بوفوار ان أقصّ لها أسفاري، أن أخبرها عن الحملايا وسواها من الأماكن. في موازاة ذلك تابعت مساري الشخصي، من دون أن ابتعد كثيرا عن جرعة التمرّد التي للفلسفة السارترية، مكثت على خطى هذا الفكر. لكن الغريب اني كنت أخبر سيمون دو بوفوار والى النهاية، عن تجارب عشتها في آسيا وفي الشرق. لا أظن انها كانت لتستمع الى أحد غيري يخبرها عن الروحانيّة البوذية أو التاوية. كنت يافعا عندما تعرّفت اليهما. كان فارق السن كبيرا جدا بيني وبينهما، وكنت أصغر أفراد المجموعة التي أحاطتهما وتشكّلت من ريجيس دوبريه وجورج بيريك. كنت في الثامنة عشرة فحسب والآخرون في الثالثة أو الرابعة والعشرين. وشكّلت تلك السنوات القليلة هوة شاسعة في مثل هذه السن. كنت الأكثر يفاعا دوما، وهذا منحني الإنطباع بأني محميّ، في مكان على حدة. تلقّيت خبر موت سارتر وأنا في طريق العودة من قمة افرست، عام 1980، وكنت في تلك الحقبة أقيم نحوا من أربعة الى ستة أشهر في الحملايا.
• وصلكَ نبأ غياب أدبي آخر وأنت خارج فرنسا. كنت في خيريث دي لا فرونتيرا بإسبانيا، عندما أدركت في العاشر من آب 2008 عند الظهيرة، وفاة الشاعر محمود درويش لتكتب “علمتُ على حين غفلة. ها قد توفّى محمود درويش، صديقي القريب جداً، في مكان ناء جداً. محمود، تضيق الحياة بنا. أفكّر في قلبك الأخويّ الذي تعطّل. ينبض الزمن في مزيد من زيف، في المتاهة حيث تغرق مصائرنا”. هل في وسع الشاعر الإقرار بحاله الهشة، بقابليّته للموت؟
– أستطيع ذلك. ذكرتُ سالفا الفلسفات الشرقية مثل البوذية والتاوية التي تبشر بفكرة الهشاشة، لكن على نحو عميق جدا، ذلك ان الهشاشة ليست فكرة كئيبة. يعجز الغرب عن وعي ذلك. أتحدّث إليكِ منذ ربع ساعة، وقد شاخ جسمي وخلاياي ربع ساعة. أسعى لكي يمرّ الزمن فيّ على النحو الأكثر تناسقا وسلما. أحتفظ بفلسفة خاصة في هذا الشأن مصدرها قصيدة للشاعر الفارسي سعدي يقول فيها ما معناه ان نسيم الشرق سيمرّ تكرارا ليحمل كل خليّة من خلايانا الى مكان مختلف. أنا ماديّ غير اني أؤمن بإعادة توزيع هذه المادة الى ما لانهاية. لا أؤمن بالجحيم والجنة، لكن أظن ان ثمة نمطا مسالما وسلميا لعيش ماديّة الجسد في حال من المشاركة الكونيّة. هذه رؤيتي ولا أفرضها على أحد. في ما يخصّ محمود درويش، كان يعاني من القلب منذ سنوات، وكان يعيش مع فكرة أن الأمور قد تسوء. وافق على الخضوع للجراحة في هيوستن لأنه خشي ما هو أسوأ من الموت، أي الهزال الجسدي. اتخذ القرار بالجراحة وهو يدرك تماما المخاطرة التي تنطوي عليها. لا أقول ان موته كان مختارا ذلك انه لم ينتحر، لكنه موت رجل أراد أن يعيش بكرامة. وصلني خبر وفاته وأنا منغمس في الاحتفال في جنوب إسبانيا. كنت غارقا في مناخ من سعادة وهذا منحني لحظة للتأمل في القدر الإنساني. كتبتُ هذه السطور على دفتري الشخصي، كانت لي فحسب، لم أخطط لنشرها، غير انها وضعت على موقعي الإلكتروني، عند عودتي الى باريس، لأن الجميع كان يعرف علاقتي الأخويّة والقريبة من درويش وكنت التقيته قبل فترة قصيرة من غيابه. هذا النص ليس تأملا في مصير الشعراء فحسب وإنما في مصائر الجميع، لأقول ان رحيله خسارة رهيبة بلا ريب، غير اننا نستعاد جميعا على نحو أفسح. أتحسّر على أمر وحيد ألاّ يكون قد رقد تحت شجرة لوز في الجليل، كما أراد.
• تتّضح ملامح صلاتك بالشرق من طريق مقالاتك في صحيفة “لو موند” التي تحوم في هذا المناخ أيضا، وترجمتك لشعر أدونيس الى الفرنسية من خلال Désert  وتعاونك على نقل قصائده في Mémoire du vent.
– ترجمتُ أدونيس ولكن معه. لم أوقّع يوما وحدي ترجمة لشعره. إذا حاولتِ محاورتي بالعربية لأدركتِ حدود موهبتي! أدونيس يتحدّث الفرنسية جيدا ولكن ليس ما يكفي لكي يترجم شعره. ترجمة الشعر هي ترجمة من لغة الى أخرى، لكنها ترجمة من شعر الى شعر أيضا. كان محالا أن أعكف على شاعر عربي كبير لأجعله شاعرا فرنسياً رديئاً. كان دوري المتواضع ان جعل قصائد أدونيس المترجمة قصائد فرنسية جيدة، أتمنّى ان أكون وفّقت. لم أكن الأول في اتباع هذا المسار الثنائي. المثالي طبعا أن يكون ثمة لغويّ يتقن تماما اللغة الأصل ولغة النقل ويكون شاعرا بهذه اللغة. حصل هذا الأمر في فرنسا مرات نادرة مع جاك لاكاريير الذي ترجم عن اليونانية، وكلود استيبان عن القشتالية. هذان شاعران كبيران يترجمان لغة يتقنانها. عندما لا تتاح فرصة مشابهة، أؤيّد إقامة ورش ترجمة ثنائية تجمع شخصين، أحدهما يعرف اللغة الأصل وآخر لا يكون رديئا في لغة النقل. المثال الذي لا يمكن تجاوزه في هذا الشأن هو نيرفال الذي نقل في السابعة عشرة “فاوست” لغوته الى الفرنسية، وكانت النتيجة محشوة بالأغلاط لأن لغته الألمانية كانت سيئة. غير ان غوته في نهاية حياته، ما عاد يقرأ “فاوست” سوى في نسختها الفرنسية!
• ربما تكون الترجمة القراءة الأشد عمقا لنص أدبي، وهذا بلا ريب ما شعرتَ به وأنت تقترب الى هذا الحدّ من نص أدونيس.
– صحيح. الترجمة رفقة حقيقية تصل الى حد يشبه الحسيّة. الشخصان على دنو، هناك حميمية عميقة تجمعهما، لأن كلاً منهما مجبر على الدخول في منطق ليس منطقه وإلاّ أتت الترجمة ركيكة. نتعرّى من الشخصانية لكي ندخل كنف شخصيّة سوانا. إنه تمرين فكرّي مذهل وبالغ الإفادة لأنه يفرز انفتاحا لافتا. أظنّ ان كلاً منّا ينتظم بحسب هيكلة لغته الأم، وعندما يتسنّى لأحدنا أن ينفتح بعض الشيء، أن يرفع الحواجز، فهذا يرفد لغته الأم بنفس ووحي جديدين كان محالا الوصول اليهما بمعزل عن اختبار الترجمة. أظنني وصلت الى ذلك بفضل ترجمة أدونيس ولكن أيضا الآخرين.
• من قبيل البرتغالي بيسوا؟
– أجل، تلك كانت تجربة تزحلق جليدي! ذلك ان “فاوست” لبيسوا نصّ مضعضع ويجعل “الخلايا الدماغيّة تنقلب رأسا على عقب”. عند الخروج من تجربة ترجمة مماثلة، ثمة أمر يصيب الكتابة الشخصية بلا شكّ. إنه لحظِّ مذهل أن استطيع دخول لغة الآخرين وذهنهم لكي أوسع نطاقي رؤيتي ومقاربتي. نعيش في عالم تجارة، لا يكفّ عن محاولة تقزيمنا وجعلنا مستهلكين مثاليّين، وليس من دور للشعر سوى إعاقة ذلك.
• تجربتك الشعرية مرصودة للتمرّد والغبطتين الجسديّة والذهنية. بلغت هاتان التيمتان ذروتهما في Extases حيث تعاونت مع الفنان ارنست بينيون ارنست. أنت على الأرجح أحد أكثر الشعراء المعاصرين اهتماما بجمع الكلمة والتصوير والتموضع المكاني. كيف تصير كلمات الشاعر صدى ليد الفنان، وأي حوار يجمعهما عندئذ؟
– كانت تلك تجربة فريدة. إرنست بينيون إرنست صديق حميم تعاونّا معا على مجموعة من المؤلفات. عندما راودته فكرة تناول موضوع الانتشاء الصوفي في المسيحية، تذكّر قصيدة توحيدية كتبتها – هي اليتيمة في مساري ذلك اني لست أحادي الإله البتة – أهديتها الى القديسة تيريزا الأفيليّة. وصلت القديسة تيريزا كما القديس يوحنا الصليب في لحظة معينة من التصوف الانساني الى الانتشائية، الى تلك الحال حيث تلتقي كل أنواع الروحانيات تقريباً. يطأ عندها المتصوّف منطقة مشتركة أكان مسلما أم يهوديا أم مسيحيا أم تاويا أم هندوسيا، لأن الانسان يصير آنذاك خارج نفسه وتقليده. تعرّض متصوّفون كثر للمحاربة من سلطات تصرّفت إزاءهم كإدارات، لأنه صعب عليها احتمالهم. طلب مني ارنست ان أضع نصوصا عن سبع متصوفات مسيحيات كان يرغب في رسمهن، بدءا من نصّي عن تيريزا الأفيلية. أنا متأثر بالمتصوفين الشرقيين، بالتاويين والبوذيين، من حيث المنحى الذهني والفلسفي الذي له تبعات جسدية، وهذا الجانب هو الذي اهتتمت له خصوصا. أعجبت بالمغامرة، بفكرة نساء مجسّدات على نحو مذهل يسكنهن هاجس اللاتجسد. أتى ارنست في هذا السياق بفكرة عبقرية هي ابتكار منحوتات خاوية ومسطّحة ولكن ثلاثية البعد. ثمة فضاء وتاليا تجسّد، وفي الوقت عينه هناك لاتجسّد. وجد الحلّ التشكيلي لهذه المعضلة وأنا حاولت أن أفعل مثله، من خلال الكلمات.
رلى راشد
(roula.rached@annahar.com.lb)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى