صفحات ثقافية

الفوتوغرافيا المحمولة في الآليات العسكرية.. هل تصنع إعلاماً؟

null
جوزف الحاج
لقاءات التصوير الصحافي في “فيزا الصورة ـ 2008”
بدأت في بربينيان “فيزا الصورة” أهم لقاءات التصوير الصحافي في العالم، محتفلة بمرور 20 عاماً على تأسيسها. جان فرنسوا لوروا المؤسس باق الى اليوم يديرها ويحرص على استمرارها رغم الانتقادات والأزمات المالية بعد انصراف العديد من الداعمين الممولين عنها. معارض “فيزا الصورة” 30، وعروضها الليلية ست بالإضافة الى الندوة.
يقول جان فرنسوا لوروا: “فيزا الصورة” طفلي المدلل، لقد سددت ديوناً عليه من جيبي الخاص، وأهدرت عمراً في سبيله، لذا لا أجرؤ على التخلي عنه. مساعدي هم أنفسهم منذ 18 سنة. نحن أنانيون. أنا من الذين يعتقدون أن الصحيفة يجب أن تتوقف عن الصدرو مع موت مؤسسها”.
تحدث عن مشاكل التصوير الصحافي: “تزداد المهنة صعوبة يوماً بعد آخر. أعداد الصحف التي تخاطر في سبيل تحقيق إنتاجات مصورة يتضاءل، وإذا فعلت فلا تعطي المصور الوقت الكافي. تحولت الصحافة ملكيات لمجموعات تجارية همّها الكسب المادي، وهي مستعدة لدفع مئة ألف يورو ثمناً لصورة مختلسة للمشاهير”.
يعبّر لوروا عن أفكاره من دون مواربة: “بين صورة مكتملة تقنياً وأخرى غنية المعاني وأقل جمالية، فإنني أفضل الأخيرة. اليوم أشعر أني في ذروة سعادتي”. يتذكر بداياته: “إنني محظوظ كوني حظيت بأبوة روحية مزدوجة، من روجيه تيرون وغوكسين سيبايوغلو. في الـ17 من عمري قصدت سيبايوغلو أول من أولاني ثقته، زودني بأفلام وبدأت العمل. أما تيرون مدير تحرير “باري ماتش” من 1949 حتى 1999 فكان بالغ التأثير عليّ لنقده البنّاء. دايفيد دوغلاس دانكين جعلني أختار هذه المهنة، في سن الـ15 اكتشفت كتابه “هذه حرب!”.
عن اختياراته يقول: “أختار الصورة وفقاً للوسيلة التي ستحملها، العرض أم النشر، وهناك اعتبار للمناسبة. هذه السنة مثلاً اخترت دون تردد صورة “الرأس المقطوع” لنويل كيدو لأن مصورتها ستكون حاضرة للحديث عنها. مثل هذه الخيارات قاسية، لكن، كيف لنا أن نتحدث عن الأحداث والحروب من دون الجثث في صورنا؟”.
إكتشف لوروا أكثر الأسماء العصرية المبدعة في الصورة الصحافية، جاعلاً المهرجان عائلة، ومكاناً، هو الأهم والأوحد في العالم، حيث تلتقي دور النشر المتخصصة في الصورة والوكالات والمصورين محترفين أو باحثين عن مكان لهم في المهنة الأخطر في العالم.
غوكسين سيبايوغلو، مؤسس “سيبا”، أثنى على لوروا ومهرجانه: “في هذا المهرجان نلتقي في أيام معدودة كبار المصورين كما نكتشف أهم الصاعدين”. ويقول الألماني هورست فاس: “عندما بلغت الـ70 وتقاعدت من “أسوشييتد برس” أصبحت أميناً على حضور هذا اللقاء الناجح الذي أعتبره صلة وصل مع المهنة وناسها بعد تقاعدي”.
يقام هذا العام معرض تكريمي للمصورة الصحاية ألكسندرا بولا عبر تقديم صورها المحببة. كانت بولا قد غطّت أغلب أحداث العالم الساخنة قبل أن ترحل عن 45 عاماً إثر معاناة قصيرة مع المرض.
يصادف متابع “فيزا” كل أسماء المصورين الصحافيين العاملين مع الوكالات أو مع المؤسسات الصحافية مباشرة (بولا برونستاين، بيار غونور، نينا بيرمان، فيليب بلنكينسوب، ماري دوريني، يان غارروب، كادير فان لويهزنن منعم واصف (أفغاني)، ستانلي غرين يوري كوزيريف، باولو بليغرين، نويل كيدو، باسكال ميتر، الفرد يعقوب زاده…) الى بعض الأسماء الرائدة (غوكسين سيبايوغلو وثورة الطلاب في باريس في أيار 1968، الأميركي دايفيد دوغلاس دانكين والألماني هورست فاس) في أكبر حروب القرن الماضي.
بين المصورين الجدد الأميركية نينا بيرمان التي نجد في أعمالها كل عناصر الصورة الصحافية: المعارك الدامية، الجثث، الجرحى… كل ذلك موجود لكن بشكل مزيّف. فالأسلحة فارغة، والدم طلاء أحمر، أما الضحايا فمتطوعون، يشاركون في مناورات للتدرب على هجمات إرهابية محتملة. الصورة المعروفة لنينا بيرمان هي لعروسين في اللقطة الرسمية: العروض بالأبيض، تغيب الابتسامة عن وجهها، أما العريس فلا وجه له، رأسه يشبه كرة، شقوق بمثابة الأذنين والأنف والفم والعينين! إنه جندي سابق في العراق. والصورة من ضمن مجموعتها “قلوب قرمزية” حيث العديد من الجرحى المعوقين العائدين من العراق الذين اعتقدوا “ان الحرب مجرد لهو، كما في اللعب الالكترونية”. نالت الصورة هذه جائزة “وورلد برس فوتو” عن فئة البورتريه في 2006.
صوّرت بيرمان حروب أميركا الخارجية من قلب الوطن. “أرض الوطن” نشرته “نيويورك تايمز” وطرحت فيه فكرة الحرب الدائرة في مكان آخر غير ساحتها، الوطن. قطعت 12 ولاية، صوّرت مدناً كبيرة وقرى صغيرة فلم تجد سوى حضور للحرب وحدها بشكل خيالي. بألوان متعددة صارخة وبتأطير بسيط، روت موجة “العسكرة” التي تجتاح الأمكنة. تردّدت صورها بين الواقع والخيال. سلاح المناورات لا يقتل، الضحايا يحيون من جديد، الثياب المموهة موضة الواجهات النيويوركية، الحروب لعب الشاشات.
بولا بورنستاين، كندية عملت 16 سنة مع “غاما”، “شيكاغو تريبيون”، “بلاك ستار” قبل أن يطلب منها التوجه الى أفغانستان بعد الحادي عشر من أيلول 2001. هناك اعتادت التعريف عن نفسها بأنها كندية: “لا توجد أي فائدة في التعريف بهويتي كأميركية لا في أفغانستان ولا في العراق” قالت. تعلقت بولا بالأفغان لذلك تركت هناك وصورها لتشهد على طيبة الناس وجمال البلد”.
نويل كيدو، مصوّرة أخرى تقول إنها أمضت عشر سنوات قبل أن تقرر المشاركة: “لم أكن أرى سوى الناحية الفنية في المهرجان. برأيي على المصور الصحافي أن لا يضع نفسه في موضع التقييم. هنا في بربينيان نشاهد المواضيع المصورة في سياقات أشمل. الأمر هنا أشبه بصحيفة عملاقة تتسع للجميع، للمحترفين كما لتعليقات الجمهور الحاضر وانفعالاته. هنا أدركت فوائد عملي. جان فرنسوا لوروا، مدير المهرجان يختار بشجاعة. المهرجان أيضاً يعود بالفائدة على الصحافة ككل”.
دايفيد دوغلاس دانكين كان دعي الى بربينيان منذ عشرين عاماً ولم يلب. لكنه عاد وقبل اليوم ليعرض أعماله الرائعة، والمرجعية الرائدة في التصوير الصحافي. لا يزال ابن الثانية والتسعين الى اليوم يبكي عندما يتحدث عن ظروف عمله أثناء الحرب الكورية منذ 85 عاماً. مشهد جندي المارينز بمعطفه الثقيل المحدّق بعيداً في الفراغ أثناء تناوله وجبته المعلّبة التقطه في التاسع من كانون الأول 1950 في ذروة هذه الحرب. “لا تزال ذكريات هذه اللحظات حاضرة صورة هذا الجندي التقطتها ذات فجر بارد. كنا جائعين لا نقوى حتى على الكلام” روى دانكن ذلك بصوت متهدّج وتابع: “آسف. لم أفهم ما كان يفعله الأطباء هناك بعد كل ما رأوه من فظائع. في هذه الحرب صوّرت لحساب “لايف” وفي الوقت نفسه كنت جندياً متقاعداً كوني شاركت في الحرب الثانية منذ 1942. ساعدني ذلك على اللحاق بالفرق المقاتلة هناك. الجنود هم موضوعي الوحيد آنذاك”. جمع دانكن صوره في كتاب “هذه حرب!” صدر في 1951 وكتب في مقدمته: “لا تعظيم، لا مبالغة ولا خاتمة مدوية. فقط رغبة في إظهار القليل مما قد يعانيه الإنسان عندما يقرر وطنه الدخول في الحرب”.
قال دوغلاس مشيراً الى صورة الجندي الممدد على الأرض وبجانبه رفاق له: “كنا نتناول طعامنا عندما اخترقت رصاصة قناص جسد جندي كان قبل ثوان جالساً بقربي. تلك هي الحياة، ضربة حظ”. ويضيف غاضباً أنه لم يتمكن من نشرها في حينه: “أن تعمل لحساب صحيفة أو مجلة وتسمع كلاماً يقول لك إنك لا تستطيع نشر صورة شخص دفع حياته ثمناً. إنهم لم يعترفوا بتضحيته”. لم تهدأ ثورة هذا التسعيني رغم العمر، ولم يتوقف عن نقده اللاذع للإدارات المتعاقبة “هناك اليوم من يريد إخفاء كل شيء”. دايفيد دوغلاس دانكين يعيش منذ سنوات في مدينة نيس الفرنسية بعد أن وهب كل سلبياته وصوره الى جامعة تكساس.
الألماني هورست فاس وحده من بين المصورين الذين غطّوا حرب فييتنام، أقام في سايغون من 1962 حتى 1974 كمصور ثم كمدير المصورين في “أسوشييتدبرس”. في معرضه مشاهد قاسية لأحداث عاشها عن قرب: “إنها صور لا نرى مثيلاتها اليوم فالمهنة تغيرت كثيراً” قال فاس.
تعتبر اليوم حرب فييتنام “العصر الذهبي للمصورين الصحافيين” ومفترق لصورة الحرب، ظهرت أسماء أسطورية أمثال لاري بوروز، دون ماكيولين لكن ذلك تم على حساب العديد من الضحايا. كانت الحصيلة 72 في الجانب الأميركي دون احتساب ضحايا المعسكر المواجه من المصورين والمراسلين.
يقارن فاس أعماله بصور اليوم، خصوصاً تلك الآتية من العراق، يتحسّر على حرية الحركة في فييتنام: “كنت أذهب بمفردي الى طياري الهليكوبتر لأقنعهم باصطحابي معهم، كانوا يشترطون فقط حيازتي على حصة غذائية وخوذة، ما يكفي لإقناعهم في كل مرة. كانوا كذلك يسمحون لنا بحضور اجتماعات عسكرية. اليوم أصبحت الحرب بيروقراطية. كنا نبلغ قلب المعارك، داخل الأدغال ونبقى أياماً من دون الاتصال بمكاتبنا، ما كان يوفر لنا تأملاً وافياً في مواضيعنا. كان يلزمنا أكثر من 14 دقيقة لتحميل صورة واحدة عبر الراديو”. ويستدرك فاس: “صور اليوم ليست سيئة، لكنها غارقة في كم هائل من الصور المتلاعب فيها، يقابلها عدم اكتراث من الجمهور. لم يعد العالم يريد مشاهدة ذلك، والإعلام يفضّل الترفيه وصور المشاهير.
ندوات بربينيان بلغت عمرها السابع. تعاود الندوة الحالية طرح ما ناقشته السنة الماضية “أزمة الإعلام ـ أزمة الصحافة ـ أزمة التصوير الصحافي؟”… “الصورة في السياق المستخدمة فيه، هل لا زالت وسيطاً إعلامياً ومعرفياً؟ آلاف الصور التي تعاقبت على “فيزا الصورة” وعروضها، خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، تعرضت للرقابة والتنميط، واجترت المواضيع نفسها ومن وجهات متشابهة. فعند هذا المستوى المتدني من الصور، تبحث “فيزا الصورة” عن أجوبة إن لم يكن عن حلول”.
“هل نحن أمام أزمة اتصال، أزمة إنتاج رموز، وبشكل أوسع هل نواجه أزمة تبادل ومعنى؟
أليست الصورة الصحافية في الخط الأمامي من المواجهة عندما تتهدد الكلمة؟
هل يجب رمي التهم على التطور التقني وعلى التمويل المريب للوسائل الاعلامية الحديثة؟ هل يعقل الوقوف بوجه التطور، بأي شرط وبأي ثمن؟ إن تقنيات التلاعب اليومي بالإعلام، الجارية تحت أنظارنا، تكثر وتتم بذكاء بالغ، تعترض كل فروع الإعلام، نصوصاً وصوراً ثابتة ومتحركة. هل يقبل المصور اليوم أن “يُشحن” مع سيارات الفرق العسكرية المشاركة في الحروب كما حصل في الحرب على العراق؟ هل “الفوتوغرافيا المحمولة” في الآليات العسكرية تولّد إعلاماً موضوعياً؟
وبعد، ماذا يبقى للمصورين الصحافيين غير “المنقولين” الشاهدين الأقرب الى حقيقة ما يجري غير “فيزا الصورة” فقط من دون أي حظوظ للنشر في وسائل الإعلام، وهل تكفي “فيزا الصورة” لأن تكون هدفاً نهائياً لأعمال هؤلاء؟
فهل ستجد “فيزا الصورة” الأجوبة وما هي قدرتها على حل هذه الإشكاليات؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى