صفحات العالم

عربة التسريبات

فالح عبدالجبار
لو كان الكاتب الدرامي تنيسي ويليامز حياً، لوجد في عربة التسريبات سرقة ادبية لعنوان مسرحيته «عربة اللذة»، او «عربة اسمها اللذة». الواقع ان «عربة التسريبات» يكاد ان يكون ترجمة حرفية لاسم الموقع الالكتروني Wiki-Leaks. لم اجد مفردة Wiki في اي معجم متاح. ثمة مقال غفل يفيد بأنها تعبير محلي مرادف لباص او عربة. وهذه العربة تطوف مخلفة وراءها خيطاً متصلاً من الوثائق المحرمة، آخرها 391 ألف وثيقة عن حرب العراق مؤرخة بين 2005 و2009، وهي مرحلة ملتبسة، دامية، مغطاة بدثار سميك، من طبقة متراكبة من التمثلات المتعارضة، والزيف المتبادي والتكتم المقصود، من القسوة اللامتناهية، والسياسية المرائية.
كلنا نعرف الاحداث البرانية لهذه الحقبة: اول انتخابات تأسيسية على وقع المارشات الطائفية، وأول دستور، يتأرجح بين العمائم والخوذ، واستفتاء عام، ثم انتخابات ثانية اشد طائفية من سابقتها، ثم حرب اهلية تركزت في بغداد، تخللها صعود رئيسين للوزراء، الجعفري لعام، والمالكي لأربعة مع تمديد، وانتهت بعودة الجنرال الساحر بترايوس.
ابطال هذه المرحلة كثر. جنود وجنرالات، سياسيون وميليشيات، لصوص نفط، وفرق موت، شيوخ وأيديولوجيون، ارهابيون وقتلة، وعسكر وحرامية، من كل شاكلة يمكن تخيلها.
الوثائق المدونة بأسلوب التقارير والبرقيات العسكرية: لغة مقتضبة، مكثفـــة، تكاد تلصق بالحدث الموثق، منظمــة في الزمان والمكان، ومصنفة الى غابـــة من المواضيع، تفوق عدد «الأبطال».
والمؤلفون عساكر، محض تروس في جهاز محكم، يسجل، مثل ابرة الحاكي، كل نأمة، آلة صماء لا تحس بالجمر الذي تنثره في الكلام: أحياء يتحولون الى أشلاء، رصاص يسدد الى صدور عزل، أقبية تعذيب تحت أديم مدينة سادرة، سياسيون يتصرفون كإرهابيين، وإرهابيون يصيرون قادة دولة، مافيات في كرنفال اللصوصية.
كنا ننظر الى جذام السياسة في العراق، آملين ان تستعيد المدن سيماء العافية. هي ذي تقارير اكبر مؤسسة عسكرية في العالم تكشف لنا ان الجذام مستشر في احشاء الكل، اميركيين وعراقيين، في القمة كما في القاع.
المؤسسة الرسمية الاميركية، اعني الادارة والبنتاغون، قد تشعر قدراً كبيراً من الحرج، وإن يكن بقدر متفاوت. ففي وسع ادارة اوباما ان ينضو عنها الحرج الاخلاقي، فالحرب لم تكن حربها بأية حال، بل حرب بوش والجمهوريين، مع انها تتحمل الأوزار المعنوية عن الولايات المتحدة بأسرها.
اما البنتاغـــون، فحاله مزرِ. فهذه المؤسسة ترتدي منـــذ الحرب العالميـــة الثانية في الاقــــل، رداء المــــدافع عــــن العـــالـــم الديموقراطي. وهي حريصة علـــى ان تضع المآثر، كالتضحية والإقـــدام، والبسالة، والذكاء، والابداع، في قلب التمثلات الرائجــــة عن ذاتها، حتى لتبدو الحرب عموماً مغامرة مشوقة، اما البشاعات التي تكتنفها، فمجرد منغصات عابرة.
لعل ادب الحرب هو اول من كسر صورة العسكر عن الحرب، من عساه ينسى «الساعة الخامسة والعشرون» رواية كونستانتان جورجيو، او رواية رايمارك «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية». ثم جــاء المؤرخون، الذين توجهوا الى اوروبا لتسجيل وقائع الحرب العالمية الثانية وهــم ممتلئون حماسة وافتتاناً بالروح العسكرية، وعادوا ممتلئين قرفاً من رؤية الجنود وهم يتحولون الى قتلة، ونهابين للبنزين والمعلبات والاطعمة، وتجار سوق سوداء، وسراق تحف ولوحات فن.
ولكن ينبغي اخفاء ذلك كله باسم حماية المعنويات، اسوة بإخفاء القرارات الكبرى باسم حفظ اسرار الدولة والدفاع عن «الامن القومي». ذات مرة قال تشرشل: في الحرب تجب احاطة الحقيقة بكتائب من الاكاذيب. والويل لمن يعترض. في الديكتاتوريات كان المعترضون يشنقون بكل لطف. في الديموقراطيات كانت الاسرار القومية تشكل تناقضاً مع الديموقراطية في التعريف، فهذه الاخيرة تقوم على حرية الاختيار، وحرية الاختيار لا معنى لها من دون حرية المعلومات. ولم يكن من باب المصادفة ان يبتدع المفكرون الالمان، الذين اكتووا بنار التوتاليتارية، مفهوم «الشفافية» و «العلنية» بمثابة العماد للحضارة الحديثة.
ولعل الموقع الالكتروني «ويكي ليكس» هو الابن الشرعي لتقاليد الليبرالية التي اختنقت باشتراطات الحروب وقيود الامن القومي طويلاً، مثلما هي الابن الشرعي للتوق الى سرديات «غير معقمة».
ولعل هذا الموقع ما كان له ان يرى النور لولا نهاية الحرب الباردة. ولبقي الكشف عن المستور مادة محدودة مقصورة على الادب، والافلام الوثائقية، لكن «تقاليد العلانية» استمدت نسغاً قوياً من انتهاء الحرب الباردة، واكتسبت قدرة اكبر من الفضاء الجديد: الانترنت. فهذه الوسيلة الاعلامية الرخيصة التكلفة، عصية على الضبط، ومباحة للجميع. بل ان اساطين المال الذين احتكروا الصحافة المطبوعة، المكلفة، طويلاً، فقدوا احتكارهم. ومثلما اشاعت الكاميرا ديموقراطية التصوير، عمم الانترنت ديموقراطية المعلومات.
والموقع الالكتروني «ويكي ليكس» حديث العهد، فقد تأسس عام 2007 ليكمل ما بدأه الجنود الاميركيون من تغطية فردية خاصة للحرب، بكاميرات الهواتف النقالة، او الكاميرات الرقمية الصغيرة. وهو يندرج في سياق حرية الافراد والجماعات في انتاج تمثلاتهم الخاصة، وتحدي التمثلات الرسمية للمؤسسات، عسكرية كانت ام سياسية. وبفضل ذلك نستطيع ان نرى الى حالنا وحال الآخر بقدر اكبر من الوضوح.
لم يتأسس موقع «ويكي ليكس» عام 2007 إلا كجزء من تيار الشفافية الجارف، في مجتمع يستطيع ان ينتج طبقة سياسية ومؤسسة عسكرية قاسية وتدميرية، ولكنه يستطيع ان ينتج مؤسسات معاكسة تتشوف الى ضمير حضاري، وأدوات لضبط المجتمع السياسي (الدولة) ولجمه.
لم يتأسس موقع «ويكي ليكس» للتآمر على سين او صاد في العراق او غيره. واذا كان يسهم في ازالة الإعتام والإبهام في عالمنا المزري، فما ذلك الا ناتج عرضي. وينبغي للمجتمع العراقي، وغير العراقي، ان يحتفي بهذه المصادفة التي ترغم صانعي القرار في الغرب على الاحمرار وجلاً وخجلاً، عسى ان يصاب اصحابنا بقليل من العدوى.
اكثر من ذلك: بدل الشكوى النرجسية من «ويكي ليكس»، ينبغي للطبقة السياسية في العراق ان تؤلف هيئة برلمانية – قضائية لابتكار نواظم تلجم النزاعات البدائية لمؤسسات الدولة، لا بهدف الانتقام، بل لارساء قواعد قانونية للمدنية. فهذا اضعف الايمان.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى