صفحات ثقافية

يخسر الشعر ما لا تربحه الرواية في سوريا

null
علي جازو
بناء معظم الروايات الجديدة خلال العقد الأخير، في سوريا مثلاً، خال من الصرامة الأسلوبية والعمق المعرفي والدقة الخشنة والتجربة المنعزلة. إنها صيغ طارئة في موضوعات حميمة ساخنة مغرية، لكن على وتيرة تحولات غير متلاصقة ولا ممتزجة ولا متكافئة. انتقلت حمى قصيدة اليوميات الغاضبة، باعتباطيتها النهمة واللامبالية والمتكلسة، من الماغوط ورياض الحسين مثالين بلغا حدَّ القداسة المؤذية، بعدما أفسدت الأذواق بقابلية تقليدها المعدية بحدة أقل مما خدرها، لاكَها، هلهلها وهرأها وجمدها شاعر كنزار قباني، إلى الرواية، فكان سيل هنا وهناك. ومع ذلك فإن محاولات أخرى دؤوبة ومستمرة دون انقطاع، دون كلل، ودون بريق. لا شك بأن الحاجة إلى الكلام ما تزال حية ونابضة، مستسلمة وخاملة، لكنها في الآن مشتتة إن لم تكن متخاوية ومتماثلة وعاجزة. ثمة حاجة ـ ضرورة إلى تحويل بُكْم الحياة العابثة إلى نوع من حياة متكلمة ومتماسكة، أي التحصن بالأدب الروائي من الفوضى العامة والقسوة المستفحلة. ينساق الكاتب مع تدفق رغبته في الحكي دون ضبط، دون وقف، فيتشابه المكتوب مع المحكي والخاص مع العام والفرد مع المجتمع والمقموع مع المستبد. يخسر الشاعر السوري ما لم تربحه الرواية منه بعد. ربحت مصر جزءاً من روحها الشعرية في الرواية، فيما تخسر سوريا روايتها وتتكلفها بعدما خسرت وتماثلت مع جزء غير قليل من شعرها.

مؤخراً أبدى الروائي بيتر هندكه، ببلوغه الستين من عمره، شكه في قدرة المرء على الحديث عن أي شيء. أي شيء غامض وعصي ومربك لدى أحد أهم الروائيين المعاصرين، لكنه لدينا طيع وخادم وملبٍ وصريح! رشيد الضعيف، جارنا القريب و/شقيقنا/، أحد أبناء الحرب والعزلة، يرى من الخوف ما يراه من الذكاء. يرى الرواية من أكبر حد ممكن لتقليص أدبيتها وصواتيتها لمصلحة دقتها وحذرها وشكوكها والتباسها. لكنها تستنسخ الروايةَ السوريةَ المعاصرة، الضدَّ من سابق عهدها، وهو زاخر بالكسل والادعاء والترفع، تستنسخ العكسَ لكنها لا تولده من دفن عمرها السياسي، من شظايا كسورها المحلية المهيمنة، من صفرها المتنَّعِم وخوائها المنفرين! لا نحتَ في حجر الواقع ولا كسر، لا حمل ولا توليد، لا خلع ولا خيانة، حيث الكتابة هي الملاذ الأخير لمن خان كما عاش وكتب رجل يدعى جان جينييه، ولا غرْفَ من عين الغيوم، فالحالي العجول ـ جاهلاً ويابساً ومنساقاً ـ ابن عاق لأمسه الرتيب المعتقل في اللغة أكثر من كونه نازحاً عن أثلام ووعورة الماضي المستمر كأنه زمن بلا جسم لجسم بلا زمن، لكن الأمس نفسه لا يسعفه العقوق ولا النكران ولا الهدم. عدا كونها، أي الرواية الجديدة، مهمومة بعرض الكثير والكثير من كل شيء، فهي، ربما لذلك تماماً، تفتقر للكثافة التي تحمل وتحمي أي فن من السقوط والنسيان. وهي رغم ليونتها الفائحة وانسيابها الخامل، تبدو عديمة التناسق. الواقع صلب وقاس وحصين وممزق وصموت ومؤجل وحال وثابت وصامد كقبر كقلعة لا تعرف أثراً لمرور الوقت، لكن مرآتها الناجية المتفرجة رقيقة وصورها غافية هائمة سرحانة، دون ضجر الحالم الأسير ولا عنف المكتوم الممتلئ ولا لكنة الأجنبي الغريبة، على لسان آخر وفي دروب أخرى، ثمة ما يجعلنا نرى تماثلاً بين التواري والظهور! إذا كان من رواية لا تستطيع أن تكون واقعية بالحرف فهي الرواية السورية. مثالنا الواقعي مهان ـ عنيف وصامت ـ قاهر ـ جنوني ـ عبثي وحصين، وما من رواية يمكنها تحمل وتحميل العنف والجنون والقهر والإهانة والصمت والعبث والبعث والتحصن بآن واحد. في حديثنا الروائي محل النظر، الشخوص معابر للكلام، والكلام يجاورها ولا يضيئها، يتجاوزها ولا يمسها، يغلفها ولا يلجها، يسميها ولا يعرفها. الكلام عام موضوعي عملاني إجرائي تقني مفهوم وواضح. إن شخوصاً موسومة وموصومة بالعمومية ومرادفاتها تنزع عن ذواتها وجهها ونبرتها وكيانها. إنها منهوبة للتحقق والتشابه والاكتمال في حين أن ما بقي من الفن كان نتاج عدم التحقق، نتاج اللاتشابه الرفيع، والنأي الناقص الجوعان. إنها لصورٌ ومجتزءات وقائع مكروهة، شبه سير ذاتية، طعنٌ خطابي في السياسة والمجتمع، خلط الكل مع الكل، بل ضرب الجميع بالجميع. ربما الرواية الجديدة عدا أدبيتها المختلفة والشكاكة الشاكية، هي نتيجة (حرب أهلية) بين الأبناء والآباء، بين الأبطال النموذجيين والشخصيات المهملة، بين الفرد وحيداً خافتاً ومهترئاً والبطولة قاحلة ومتعسفة وعميمة.

تعمل الرواية الحديثة على (تلطيف وتهذيب وتشفيف وتحديث) الانتماء إلى المكان الفعلي، بل هي تسوغ، ضمناً، بقاء الراهن العليل المربك في صيغ الماضي المتقدمة. يخضع التأليف للكلام الخاضع بدوره للعاطفة المسلولة والذهن العليل أكثر من تسييجه بالدقة، بالإبطاء، بالتخيل غير الممسوس، بالحذف والتشذيب والتقليل من جرعات التكلم المدمن عليه. ينتقل كلام المقهى خليطاً بكلام الشارع وكلام الكتب إلى الرواية فتغدو الأخيرة شبيهة ببُرْغُلِ النَّوَر، منوعاً مختلطاً ومتداخلاً لكن بلا قوام وبلا نبرة تنجيه من كل كلام وكل نبرة وكل ركام! ما يزال أدبنا رهين أخلاقيات رثة. نحن نعلم أن الأدب لا يعرف الأخلاق ولا الثقافة تتماثل مع السياسة. فعل حنا مينا في الرواية ما فعله نزار قباني في الشعر: تجفيف اللغة و(تطويبها) و(تلقيمها) ـ التفكر والتخيل والتغير طيَّها منسياً معها ـ بتماثلها الكامل مع متكلمها السيد الثائر الناصح الخبير وجعلها خادمة شغوفة، عالية وشاملة، مسؤولة وخرساء! ما من فرق جوهري بين نساء حنا وامرأة نزار. كلتاهما سخية، خصبة، جانحة، وقوية كما يطلب من الأم والوطنية والعشيقة والمناضلة. عملية الموازاة الرخوة المتملقة هذه فصلت الرواية عن محيطها العضوي المتحجر الزاخر والمتحول طبيعة تماماً مثلما فصل النظام الشمولي الناس عن حياتهم الحقيقية عبر تأبيد الأبطال وترسيخهم كنماذج حارسة وحابسة، جائرة ومالكة، قادرة وحائزة على خنق الشخصيات الفردية ولجمها من آفاق غير محدودة. لكننا ثابتو العهد حتى في ما نخال أننا تجاوزناه وقطعناه من سرته! ألا تشبه معارضاتنا السياسية ذوات الهمة السليطة النائحة آدابنا العامة المنومة والقاصرة؟ فلم نبحث عن اختلاف في الأدب والشعر والرواية!! لأننا على الدوام نؤجل الهدم الكلي مثلما أهدرنا أجيالاً كاملة في انتظار البناء الشامل الموعود؛ في بقائه وعداً يمنع تحول المستقبل إلى حاضر، ويحجر الحاضر في ظلام صلب استمنائي كدار عجزة متصابين، كدار تأهيل لا يتنهي ولا يؤقت على هدف وغاية سوى كتم الهدف في اللفظ وإطلاقه في اللفظ، ولفظ الغاية هتكاً وقذفاً في العمل الذي يهدم كل عمل. ربما لأننا لم نرض غير الشمولية وغير التوحيد اللذين ليسا سوى اسمين آخرين للعجز والإقصاء، لم نهدم ولم نبن، فبم نلوذ وماذا ننكر..؟ لا شيء ينسى، في الأدب لا شيء ينسى أبداً. عدا انحياز الرواية الجديدة إلى ما يشبه الخيال الشفوي، الهذر الفموي المعوض عن كل عمل عبر لعاب الفم الغريزي، فهي تفتقر إلى الحدة النفسية والعمق التعبيري والرحابة المشهدية. إنها رواية لا تعرف الصمت، ولا تعرف الخيال الذي ينجبه الصمت، لكنها كذلك ليست ابنة عفوية الكلام اللطيفة، ليست من مباهج الفوري السريع الخفيف، ليست من لقاء الفطرة النابهة مع الحاجة المحمومة ولا الذكاء المتحسر مع المتعة الخفاقة ولا الكلام الجديد مع الجراح الجديدة، ولا الغضب المكتوم مع العار الصارخ. إنها لمزيج خدر من الحنين الفاتر والركاكة السيدة، من البراءة الغافلة والتسطح الجذلان. ثمة ما ينسى داخل العين البريئة المحايدة الناشئة التي باتكالها على البراءة والحياد والبداءة كأنما تتكل على الله؛ الله الذي هو رغم جلاله بسيط ومفهوم، شائع وكلي ومطلق، ولا يحتاج سؤالاً ولا نعتاً ولا تخيلاً، لأنه في كل إجابة، وعلى كل لسان، وفي كل جهة. إنه أدب الحقيقة، زخرف الواقع المؤيد بكونه ليس سوى الواقع. إنها (الشمس التي تخصي العقل).

ثمة ما يطفو فوق السطح مع الجثث الغريقة من تحت. لعل الأدب يبنى هنا، الآن، في روح المنسي الطافية، في رفات الجثث الغريقة! حكاياتنا الحديثة موضوعة في لهاث وتوتر مستمرئين بسبب عطالتها الفكرية وهروبها من الوقوف في وجه الكلام ـ كلماتها هي بالذات، وهي بذلك وعبر كثرة كلامها تخفي رعبها المقيم وعزلتها الماضية. الإخفاء بدل تثبيت التأمل على الخوف وعلى الإهانة، فقدان التأمل الماورائي، وذلك في إحلال التذكر محله عبر نشرات من التذكر المسترخي في اعتباط مزاجي، وتصحيف توثيقي بصيغ جازمة وباتة. التذكر هنا مزيج من استحواذ ضبابي، وإسهاب غامر. التوثيق، للتأكد والثبوت، مشفوع برصد الواقع على ما فيه من تحول العزلة نفسها إلى نسيان مضاعف، وجعل العمل العام، المشترك المفتوح، أسوأ ما يمكن عمله! لسنا في معرض الثناء على الغموض، إذ ما من رواية غامضة في سوريا، باستثناء كاتب فريد كسليم بركات (أهو سوري؟!! وما المعيار الذي ترتضيه وزارة الثقافة العنيدة، (قومية ومؤمنة ومنفتحة!!)، واتحاد الكتاب العرب الأقحاح حتى نميز الروائي السوري من غيره!! بركات الذي يعد واحداً من أرهف الكتاب الغرباء وأبرعهم الذين دمرتهم لغتهم الغريبة !). الوضوح السوري مربك وغير مفهوم وغير مبرر، فدور القضاء متاهية عفنة وكذلك المدارس والجامعات والسجون وما يرادف السجون من مرافق عامة هي المرايا المرعبة للعائلات والأرياف والمدن، ناهيك عن البداوات والطوائف محمية ومعتقلة ومستثمرة ومستحدثة ومتداعمة. ثمة بداوة تتمحور وتتخفى في كل ما يخالفها. ثمة البداوة التي هي في الخلف من كل شيء، وحالما تجد السخفَ أو الضعفَ أو العنفَ تبرز وتتسيد وتحكم وتخنق. تحت سلطان العوز، سلطان الخوف، سلطان العجز الحكومي وغير الحكومي، تستنزف اللغة خوفها وعجزها وحرمانها! روايات تتوازى مع شخوصها، ترافقها لتواسيها، وتدعمها فتتآلفها بعجزها وسخافتها وضياعها. لا أحد يغني سواه، لا يغنيه ولا يتركه، لا يتركه ولا يتجاوزه، لا يتجاوزه ولا يخليه، لا يخليه ولا يثبته، لا يثبته ولا يعنيه، ولا يغنيه من فقره نفسه، من لحظة العجز التي هي ذروة تمتص من الرغبة اشتهاءها ومن الرفض حيويته ومروقه الفاتن! الصيغة السورية مرعبة ونادرة: الكل معلق في الأبدية التي التهمت من الزمن طبيعته التلقائية ومن البشر حياتهم وفناءهم معاً. الكل موظف في الأبدية كأنه موظف في رقم، وكأن الرقم وحده السلطان والبلاهة في آن، التكالب والعجز في آن، العوز والطغيان في آن! الوضوح من التبسيط لا البساطة، أي من التهميش والغفلان والسهو المهمل. البساطة من الحميمية، وهي بلا ألم، وبلا جسد، سوى كونها حميمة دافئة. ثم أليس الجنس حميماً، فعل الحب، وكذا هو الموت؟ هل هناك أكثر قرباً ودنواً وصعوبة وحسماً وجحيمية من الحب والموت!؟ لكننا مسحورون بالعاطفي الحميم، وهو بلا ألم، وبلا سماكة، وبلا مخالب. عاطفتنا من مادة الهواء، غير ممتزج ولا متداخل، غير متناقض ولا منسجم، ولا عابر ولا مقيم. عاطفتنا، مثل سياساتنا العتيدة، ليست سوى فقاعة حياتنا؟! لتكن رواياتنا الجديدة بنات الوضوح المروض والحميم المستقر والبسيط تلميذات في الناعم الهائم المقيم المستقر. لتكن أدب المدارس القادمة على إتلاف أكيد: لتكن شيئاً من تزجية الوقت، من الجرأة التي لا تعرف غير اللفظ،، شيئاً من soap drama بنسختي (نور( و(سنوات الضياع)، عوناً لامعاً لمحليتنا الجرداء، ومخيلتنا المهترئة في باب الحارة وحمام القيشاني مزيفين خاويين أعانا الرداءة على الظفر بعالم الصور، في رداءة تلبي طموح الزيف إلى كونه النفس الوحيد والطريق الوحيدة، ومن العولمة التي لسنا مستعدين بعد لنرى منها الاختلاف والتعدد والغربة والقسر. سرعان ما نقبل، سرعان ما نتراخى ونتخاذل، سرعان ما ننزوي وننسى. فهل الواضح البسيط الحميم هو الحل السحري، أهو كياننا الفكري واللغوي الجديد؟ سيرهن الأدب كله على اليومي والبسيط؟ وماذا إذا غدا اليومي الحميم، الواضح البسيط، فخّنا الجديد، سميَّنا المرفّه، اعتقالنا الحديث، سأمنا من السياسة التي خنقتنا، الوحدة والعار الشاملين؟ سيُنحّى الحاضر الفعلي عبر البسيط الأبوي ولطفه المغندر العامر إلى تاريخ آخر. ألم تضع الثورات ـ الكوارث مجتمعات بكاملها بين فكي التاريخ؛ صراطاً أبكم إزاء وحش وهمي وفي سبيله الإجباري، ألم تمسخ شعوب عدداً في مسيرة تكملة تاريخ بلا نهاية!؟ فما أرهقته ونهبته ولطخته الثورة ـ وهي أفدح وأفضح أكاذيبنا الحديثة ـ سيدمره البسيط الحنون، وما مجّده حسّنا التاريخي الصائب سيتلقفه الحاضر بسيطاً ناعماً بلا خدش ولا كرب دائماً في تصنيف خارج الزمن! بســيطنا قناعنا الجديد، قناعنا الأخطر، وبه وعليه سيُحوّل الفن إلى تسلية وجبر كسور، ومن التسلية إلى دين جديد! ثم ألا يخفي البسيط المرتاح نتيجـة مخيبة عن تعب المخيلة وخمول الفكر ونســيان الواقــع؟ ألا يحمل تحت جلده الزاهي ميتة الخلق العفنة؟

ينبغي عدم الخلط بين الطرق والغايات. في الأدب الأسلوب والغاية كل واحد. في الأدب، ربما لا شيء سوى الأسلوب، سوى (الشكل). مع ذلك كله لا يسعنا سوى التأثر والتعجب من الجهد المبذول بسخاء وكد واضحين من كتاب وروائيات مثل ممدوح عزام وخليل الرز ومنهل السراج ونهاد سيريس وسمر يزبك وخليل صويلح وخالد خليفة، على المثال لا الحصر، فالرواية بدأت (تزدهر) في سوريا، لا سيما أن هناك من بدأ يكتب قصصاً وروايات بالانكليزية والكردية وغيرهما من لغات العالم الحية. فالنموذج الأدبي السوري ذو النسيج الوطني المتنوع! مؤخراً ومتسرعاً، وقع تحت ضغط الإعجاب والتقليد. المعلوم أن السائد في العموم الثقافي الرسمي نماذج لاقتصاد الرشوة والانفتاح عبر المهرجانات والمؤتمرات التي لا تخلف غير زبد التلفزيون وغراوة التوصيات. أنتجت مصر مؤخراً (عمارة يعقوبيان) مردفة بفيلم أسوأ من الرواية. أنتجت المخيلة الطبقية المزيفة، على طريقتنا السورية، وهمَها الوطني والقومي، رقصاً وغناءً، حياً فعالاً ومتنافساً مع الرداءة ومع الحلم، فماذا ستقدم دمشق المركزية الجديدة وقامشلي الطرفية النائية؟ خراب الواقع لصق بنوك الياسمينات مسقيات ومحصنات وموبوءات بصور عاصمة الثقافة العربية (٢٠٠٨) كأسوأ عام يمر على الشعب السوري، العاصمة التي لم يبق فيها غير التلوث وعيون الفقراء تحت بهاء وسناء ووفاء وجلاء عيون الأثرياء الجدد والمعارضين الجدد؟؟! لا شك بأن أدب الفضيحة سيزدهر، أدب البورنو الجريء وأدب السجون الحديثة، وأن مجلات الثقافة ستتسارع في التشبه بمجلات سيدتي والموعد والشبكة وزهور الخلجان! لا يسعنا إلا التأثر والتعجب مِنْ، بِـ، وَمواصلتهم البحث والكتابة، بالاستمرار في هذه الجهود الواثقة بتعزيز المكتبة المعاصرة من كلام ساكنيها الفعليين في سوريا بنوعية جديدة من القص والسرد. لا سيما أن الأساليب المعتمدة لدى الكثير الغفل من الجيل السابق وغير قليل من المعاصر فقدت جاذبيها وقدراتها التعبيرية عدا كونها بالأساس ارتهنت في عمومها لخطابية آفلة وتقريرية خاملة أفقرتا الكثير من جمالياتها وخصوبتها السردية والتعبيرية، رغم أننا مثل من يعرف أن الفن لا يمكن ولا يقبل أن يحصر ضمن طرق وحيدة وثابتة. تسعى الرواية الحديثة إلى إنجاز طباقي مع واقعها؛ إنها تكمل التفكير الأفقي الواضح والشائع. إنها عامة ومفهومة وحميمة، أي إنها تلبي ضعف التفكير وضعف الواقع. إنها تكافئ وتعزز نسيان الحاجة إلى انقلاب القيم، التي انقلبت بالفعل على نحو مدمر. إنها غير متقدمة لأنها غير قادرة، وغير (متأخرة) لأنها بلا ذاكرة. إنها تكبت الأوهام لمصلحة الحقائق المخنوقة، وتقصف الخيال في خراب المعنى المستبد. في كل رواية مهمة هناك شيء لا يتحقق. في كل رواية هناك الإمكانية المتألقة لوجود الأوهام، هناك فسحة انتظار مقلقة وإرجاء رقيق وتأمل مسحور بما لم يتحقق. هناك كرب النفس ورجاؤها السحيقان. ثمة، لدينا نحن المخمليين الجدد على صهوات الموتى الخالدين، رواية تنطلق من كلية منجزة ومحققة ومؤكدة وعامرة، من كمال مرتاح بليد؛ كمال ليس سوى دمار الفكر والحلم، البحث والمغامرة والاختلاف. نعلم أنه في سوريا مثلاً، أُلغي كل فرق بين العام والخاص، بين ترهل المؤسسة ووحدتها، وبين صوت الفرد الشخصي. الوطن ـ الدولة ـ النظام ـ الأمن التهمت لمصلحتها المريضة العاجزة كامل صحة مواطنيها ورعاياها. حقاً تماماً سُحقت الروح وأتلف الجسد وأهين النظر. فيما غدت الدولة أكثر بعداً وكتامة وضبابية ونوالاً. لكن ماذا يعني هذا بعالم الرواية؟ ألا يعني أنها ينبغي أن تنهض، تؤلف مما هو مسحوق وبلا عين وبلا فم، مما هو ملغي ومكتوم وميت، مما هو متشابه وعام ومريض وصامت، ما هو أجنبي وغريب وشاذ ورافض، مما لم يعد أحد قادراً على جسر المسافة الفاصلة فيه بين اللفظ والنفس، بين الصوت والتعبير، بين الحاسة واللغة؟! لقد أرغم الفرد على ألا يترك دون عزلة قط، دون صمت قط، دون حلم ودون عمل! أرغم أن يكون رقماً في عداد عائلة واحدة كبيرة، حيث الأبناء كلهم ابن واحد، والواحد ميت، والميت هو الحي الوحيد، المثال الوحيد. الرسالة واضحة لأنها مخيفة. ينبغي على الرد اللارضوخ واللاتشابه مع مضمون الأمر الرسالي المرعب (الأليف ضمناً). على الرواية في سوريا العزيزة أن تكبح إغراء تشبهها بسلواها الجماهيرية، على الرواية ألا تخسر مجدداً عزلتها مثلما خسرتها مع حنا مينا ووليد إخلاصي ونبيل سليمان وخيري الذهبي وآخرين.

الألفة ممدوحة مطربة، وفق رخاوة استقبالنا المحلي، ما هي سوى سطحية عنيدة ومثابرة فجة معاً. تبدو الرواية الحديثة طرية معتقلة في جحور الألفة السهلة. لا شيء يتعب الفكر سوى المزيد من سرعة التخلص من حبس الكلمات؛ انعداماً في التجربة المتحولة، أو ربما لفرط الانغماس في ما هو أليف وراكد وراسخ. لعل الأكثر لبساً وإقلاقاً هو التآلف مع الحاضر المعاصر المثرثر المتهدم؛ تبلد توقعاتنا وانشغالاتنا الحصيفة بالأليف المدلل حدَّ تحوله هو نفسه إلى حجاب نفسي وخمول شعوري، صدود عن الرؤية الحسية والتفاعل العضوي. فقدت الرواية تفاعلها مع محيطها العضوي الحال والحقيقي والمرئي مشغولاً بالعطالة والندب والتسويف. تحتاج الرواية السورية إلى الخلع عن سوريتها القديمة الحديثة المتهالكة، ثقافة ونمط سلوك لم يتخلصا من ثقل التقويمات السياسية والاجتماعية، من النقد الأخلاقي الصدئ والأكاديمي الأعمى المتيبس، تحتاج إلى العفوية
وهي حيوية تعمل تحت إغراء ذهنية متقدة وصافية بانطباعات تتحرر من التقويم والتصنيف اللذين أتلفا النقد الضمني الذي يمكن للرواية وحدها، بجدارة وتفرد، أن تقدمه! ولعل أكثر التعريفات قرباً وتماثلاً بحال الرواية السورية هو ما قاله ميلان كونديرا في غراميات مرحة عن الشاعر، واصفاً الثورة والشباب والغنائية، عبر الشعر كفن رضخ للغنائية والثورة والعاطفة (الشاعر هو شاب تقوده أمه ليعرض نفسه أمام عالم لا يستطيع دخوله). ثمة أشياء، عوالم يمكن للرواية فقط أن تقولها، وإن كانت ضيقة ومختنقة، يمكن أن تبتكرها لكي تقولها. على هذا يعقد رهان الرواية الحديثة، وربما رهان الفن، أبداً، أمام نفسه! إن العنف الكتيم، العنف الصامت والصبر المتكلم ذورتا مزيجنا الوطني الرائد، يتم صقله وتشذيبه وتنعيمه في الرواية، أي تحريفه عن اليأس الضاري إلى تجربة حياكة لفظية مواربة وناعسة. يخنق الجذر نفسه فيما هو يطرح، لغاية الطرح فقط، ثماراً مريضة ستحمل المرض إلى بذورها القادمة! هكذا يتكور الفرد مثل جنين أعمى، لا هو ميت ولا هو حي، يرفعه الكاتب إلى أسطر تعقل العواطف وتحصرها في الحديث اليومي البسيط الأليف، أي في الثرثرة واللغو، خارج ماء العقم، دم الحياة الوحيدة الممكنة، حيث الجريمة تتعسف وتتعصب وتترفه وتتفسخ وتتوالد، مثل (صلاة) نامية في مزيج من التشوه والتقبل والموات، تتغذى من القبح؛ كفيلاً بجعل العقم كتابنا الحديث، بسيطنا المعتمد المباح، صداً عن الخوف عن الذكاء عن الرقة، غناءً بلا فم، عضاً بلا أسنان، عيناً بلا وجه!! إن الروايات السورية غير مزعجة ولا مضحكة. روايات ـ لغات ـ لغة لم تدمر نحوها وبناءها وفي الآن لم تحول الخراب الفعلي إلى ضيق كلامي مزعج وعميق. روايات روايات روايات في حياد ساهٍ أسير، مثل إنشاء لا يمل ولا ينتهي، لا ينقطع ولا يصل، لا يزعزع ولا يقلق ولا يغوي. الرواية السورية لا تتخيل ولا تفكر. ليست من مدار حلم صعب ولا من قوة ذهن حادة. لكنها (تعرف) فتصف، (تجهل) فتتصرف، تتقدم كأنها تتوقف: إنها تجد (مكانها النفسي) قبل أن تعثر عليه أو تصطدم به. أي إنها لا تبحث ولا تتعقب، لا تنقب ولا تفحص، لا تنحرف ولا تجتث، قدر ما تظهر بلا بروز، وتولد بلا صوت. تولد من فجاءتها أمامها، أمام صورتها هي فقط، كأنها ترى لتنسى، وتكتب لتمحو. لم تقلع ما لم ينفع أحداً ولم تنفذ في جوف وعقل وقلب ما يقع ويسقط بالفعل. في واقعيتها الكليلة صوابها المتعثر المستمر، في توجعها تطهرها، وفي تطهرها شكواها، وفي شكواها جدبها العتيق. مع ذلك فهي تسعى وتتلاقى وتتلاقح، تتذمر وتتخبط. لا شك بأنها تحاول الخروج من عنق زجاجة ضيقة (مع أولئك الذين لم تدمرهم لغتهم بعد).
(كاتب سوري)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى