عفن جارف
حازم صاغيّة
كأنّ أحداث مصر، في غرابتها، من طينة انهيار جبل المقطّم. كأن طبيعة جارفة وهيوليّة تهاجم طبيعة ساكنة مستسلمة، فتتركنا حيال خليط من الخارق والعجائبيّ، المأسويّ والملهويّ، مما يمتدّ نطاقه ليشمل كلّ شيء، من تدمير الحياة إلى تحطّم العقل.
لكن ثمّة عفناً يقف وراء ذلك ويكاد يفتك بكلّ شيء. ففاجعة الدويقة في جبل المقطّم أضاءت، في وقت واحد، مآسي اقتصاديّة وديموغرافيّة مسكوتاً عنها باتت ظاهرة «العشوائيّات» تلخّصها. إلاّ أنّها، بالقدر نفسه، نمّت عن ضعف الكفاءة في عمليّة إنقاذ الضحايا، بعد ضعف التوقّع واستشراف الكارثة، سيّما وأن انهيار الصخرة الكبيرة الأولى يرقى الى 1993.
وفي موازاة مأساة المقطّم، أدلت نقابة الأطبّاء المصريّين بدلوها في «الطبّ» و»العلم»، كما في شؤون النسيج الوطنيّ، فقضت برفض تبادل نقل الأعضاء بين مختلفي الديانة أو مختلفي الجنسيّة. وللعلم، فإن العلاقات المسلمة – القبطيّة البالغة التردّي لم تجد حتّى الآن علاجاً يفوق فيلم «حسن ومرقص»، الطفليّ من دون البراءة المنسوبة إلى الأطفال. وللعلم أيضاً، فإن نقابة الأطبّاء جزء طبيعيّ مما اصطُلح على تسميته «المجتمع المدنيّ» البارع في حرق الأعلام وتلويح القبضات ضدّ كلّ بارقة سلام في المنطقة أو انفتاح على آخر (والكراهيّة التي تبدأ هناك تنتهي هنا، والعكس بالعكس).
وفي موازاة مأساة المقطّم، جاء القتل المروّع للمطربة اللبنانيّة سوزان تميم ليطرح، من خلال اتّهام رجل الأعمال النافذ هشام طلعت مصطفى، مسؤوليّة نخبة القطاع الخاصّ وصلة رموزها بالسلطة، وكيف أن حمَلة الشنطة ليسوا الرأسماليّة التي يناط بها تحديث مجتمع ما ونشر قيم وأفكار. وفي المناسبة، لم يفت المتذكّرين، أو بعضهم، أن يتذكّروا مأساة «عبّارة السلام» لشركة «السلام للنقل البحريّ» التي غرقت في شباط (فبراير) 2006 وغرق بغرقها مئات الضحايا الأبرياء.
إلى ذلك، لا تكفّ المؤسّسة الدينيّة عن مفاجأتنا بفتاوى عجيبة تظهر بين الفينة والأخرى، كما لا تكفّ مؤسّسات الفساد الكثيرة، وهو ما دلّت إليه أحداث المحلّة، عن إضافة ارتفاع السعر المصريّ الى ارتفاعات الأسعار العالميّة. ويلوح، في المقابل، كأنّ حكمة السلطة السياسيّة كناية عن «حقيقة» كسولة مفادها عدم القيام بأيّ شيء، ما خلا القمع المتقطّع. ذاك أن تجنّب الأسوأ لا يتمّ إلاّ بالحفاظ على السيّء رعايةً وتعهّداً. فحيال تحدّي «الإخوان المسلمين»، يترافق الردع والمنع مع المداواة بما كانت هي الداء، أي الإمعان في نشر الوعي الإسلاميّ إيّاه!
بطبيعة الحال، ليس هناك حلّ سحريّ أو بسيط لمشاكل مصر، وليس هناك طرف واحد يملك حلاًّ كهذا أو يستطيعه. بيد أن المؤكّد أن ما يجري اليوم استبعاد لكلّ احتمال حلّ أو إبعاد. فمزيج الأحزاب الهرمة والصحافة المدّاحة والأفكار الشائخة التكراريّة وتحوّل مسألة الوراثة الى أبرز الشواغل «السياسيّة» في نظام جمهوريّ…، وصفات لغرق سريع مُحكم. ووسط تعفّن متعدّد المصادر كهذا، لا يعود غريباً ولا مستغرباً أن نصل الى يوم تتداعى فيه مصر، بحيث يناشد المصريّون «إخوانهم» – المتعفّفين ظاهراً عن طلب السلطة – أنْ تعالوا وأنقذونا. والإخوان، مثل سائر التشكيلات التوتاليتاريّة المشابهة، فرسان لليأس بواسل.
الحياة – 16/09/08