سوريا الملعب أم سوريا اللاعب
مشاري الذايدي
لا نعرف على وجه الحسم إلى الآن من أرسل سيارة الموت التي تفجرت في دمشق مؤخرا، مخلفة القتلى والجرحى.
وزير داخلية سوريا يقول إنه عمل إرهابي، وهو كذلك بلا ريب، وكالة الانباء السورية أعلنت أن من قام بالتفجير شخص ينتمي لتنظيم تكفيري.
بعض الصحافيين السوريين سارع إلى الاتهام التقليدي لإسرائيل، لأنها غير مسرورة بتقارب سوريا مع فرنسا والغرب، غافلين أو متغافلين أن سبب قرب إسرائيل لفرنسا، أو الغرب ـ إن صح هذا التوسع الوصفي ـ هو بسبب بدء التفاوض بين سوريا وإسرائيل، فكيف تغضب إسرائيل من مسار هي سبب بدايته؟
لكنه الاتهام التقليدي البليد والجاهز والمقبول لدى المتلقي العربي.
وحتى بعد الإعلان السوري عن توجيه التهمة للتكفيريين كما اسمتهم الا ان حاصل التوقعات الجدية حول تفجير طريق المطار الدولي على مفرق السيدة زينب، ثلاثة:
* إما أن يكون هذا العمل من تدبير القاعدة، وتيارات السلفية الجهادية بشكل عام.
* وإما أن يكون من تدبير أطراف محسوبة على إيران بسبب قلق الأخيرة من الانفتاح السوري على الغرب وإسرائيل وثمن هذا الانفتاح ومردوده على إيران.
* وإما أن يكون هذا التفجير نتيجة تصفيات داخلية تخص أجهزة الأمن فيما بينها، كما جرى أكثر من مرة.
ترتيب هذه التوقعات في الأولوية هي كما سلف، الجهاديون الأصوليون السنة، أو إيران، أو الأجهزة الأمنية الداخلية.
في السطور التالية، نتوقف عند الاحتمال الأول قليلا، أولا بسبب قوة ووجاهة هذا الاحتمال على غيره، وبسبب شح المساحة عن تناول الاحتمالين الآخرين.
فيما يخص اتهام القاعدة بهذه العملية، لدينا عدد من المؤشرات التي يجب أن لا نغفل النظر عنها، فعلاقة النظام السياسي والأمني في سوريا مع التيارات «الجهادية» السنية علاقة غريبة ومعقدة، فليس بخاف على أي مراقب كرم النظام السوري الذي تمتع به مقاتلو القاعدة المتسللون إلى العراق تحت عنوان المقاومة، ثم انضموا إلى المجموعات الأصولية المقاتلة في العراق، تحت إمرة الزرقاوي أو غيره من قيادات القاعدة في العراق، وهناك اعترافات عديدة لمن تم تسليمهم إلى السعودية أو غيرها من البلدان تحدثوا فيها عن أن سوريا كانت محطة استقبال واستراحة وتفويج إلى العراق، ذهابا وإيابا. ويذكر تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية في 22 مايو 2007 نقلا عن مصدر أمريكي عسكري: إن ما بين 80 إلى 90% من المقاتلين الأجانب «الجهاديين» في العراق يدخلون عبر سوريا».
طبعا ظلت سوريا عن طريق مسؤوليها الرسميين تنفي أن تكون ضالعة بهذا الاشتراك في تمرير المقاتلين إلى العراق، أو حتى أنها تغض الطرف عن ذلك، وهذا شيء طبيعي، فمن غير المنتظر أن تعترف سوريا الرسمية بذلك، ولكن السؤال الذي كان يفرض نفسه دوما: كيف يصل المقاتلون إلى العراق عن طريق سوريا دون أن تدري بهم المخابرات السورية الشهيرة بتشغيل كل حواسها لملاحقة أي همسة أو لمسة تعكر صفو النظام؟ فكيف بعشرات بل مئات الانتحاريين والمقاتلين الداخلين والخارجين، يسرحون ويمرحون في المدن والأحياء والطرقات السورية؟
دع هذا، كيف استطاع شخص مثل أبي القعقاع السوري أو «محمود اغاسي» من أن يخطب جهرا، في جوامع حلب، بالخطب الرنانة التي تحث الشباب على الذهاب إلى العراق للقتال، ويرسل بالفعل الشباب إلى هناك، وهو يتحرك بجلبابه ولحيته الطويلة، وخطبه التي تضاهي خطب الظواهري، وهي موجودة على الانترنت، كيف استطاع أن يتحرك هكذا بكل حرية ورشاقة؟ هل كان هذا دليلاً على ديمقراطية النظام واتساع صدره لكل الآراء؟ أم أن ذلك كان يتم بتواطؤ ضمني مع القاعدة على طريقة «ما أمرت بها ولم تسوؤني»!؟ حتى وإن قيل إن أبا القعقاع كان مجرد أداة، حين انتهى دورها تم بترها، وقتل الرجل في وضح النهار أمام مسجده في حلب أواخر سبتمبر 2007.
ربما وقع النظام السوري في الوهم الشهير، كما وقع فيه غيرهم، وهم أنهم يمكن أن يلاعبوا الدب الأصولي الإرهابي أول النهار، ثم يتخلصوا منه أو يدخلوه القفص آخر النهار، وهذا وهم تكرر، ويتكرر دوما في منطقة الشرق الأوسط، ولا من طرف يريد أن يستفيد من تجربة غيره. إن اللعب مع الدين ومحاولة تثويره او تثوير بعض جوانبه، ومن ثم الاستفادة من نتائج هذه الثورة في محفظة السياسي، دون أن يكون لذلك تبعات، هو وهم الأوهام الأكبر، بل هو الخطأ الأول… والأخير! إذا ارتكبته مرة واحدة، فهي القاتلة، لأنه ليس ثمة مرة ثانية!
لقد رأى النظام بأم عينيه مقدمات هذا الثوران الأصولي خلال السنوات القريبة، وسبق أن أعلنت الداخلية السورية عن تفكيك خلية إرهابية في يونيو 2005، تطلق على نفسها اسم «تنظيم جند الشام» أعدت خطة لتنفيذ اعتداءات ضد أهداف في دمشق ومحيطها أبرزها قصر العدل.
ولا بأس هنا من التذكير بأن شاكر العبسي، قائد مجموعة «فتح الإسلام» الأصولية التي اشتبكت مع الجيش اللبناني في معارك مخيم نهر البارد، كان يسرح ويمرح في سوريا، وهو قادم من فتح الانتفاضة التي يديرها من دمشق أبو خالد العملة. كما لا بأس أن يتذكر النظام أن «بلاد الشام» والتي تمثل الأراضي السورية جلها، تعتبر في فكر وخيال القاعدة هدفا استراتيجيا يجب الوصول إليه، فأرض الشام هي ارض «الرباط» وهي ارض مباركة، وهي مقر الخلافة الأموية، وهي مهد السنة ومنها خرج ابن تيمية، رمز الرموز للتيارات السلفية، وهي الأرض المجاورة للقدس، وأخيرا فهي، أي سوريا، محكومة بنظام علماني طائفي، حسب رؤية التيارات الأصولية السلفية، ولا بد من منازلة هذا النظام، كما هي أدبيات أبي مصعب السوري، وغيره، وكما هي نصيحة أيمن الظواهري التي وجهها إلى الزرقاوي قبل مقتل الأخير، حيث ذكره بأن المعركة ليست في العراق فقط، بل هي في بلاد الشام أيضا.
يقول البعض إن الرئيس بشار الأسد متنبه لهذا الخطر الأصولي عليه، وأنه من أجل ذلك حرك قواته باتجاه طرابلس، حيث المرجل السني يغلي، وان بشار الأسد، اخذ مباركة من فرنسا وتركيا، والغرب من خلفهم، بضرب هذه التيارات السلفية، حسب تحليل جريدة الأخبار اللبنانية القريبة من حزب الله وسوريا، في عددها الصادر أمس، غير أن خصوم النظام السوري في لبنان يرون أن هذا ليس إلا تهويشا وتمثيلية من سوريا لخلق ذريعة العودة من جديد إلى لبنان، هذه المرة من بوابة الخطر الأصولي القاعدي.
بكل حال، فإن الاحتمالين الآخرين اللذين قلنا إننا لن نتوقف عندهما طويلا، وهما احتمال اليد الإيرانية من خلال خلاياها المزروعة داخل الأجهزة، أو احتمال التصفيات الداخلية، فلم يكشف لنا إلى الآن عن كامل أسماء القتلى او الأشخاص المهمين الذين كانوا يوجدون في المبنى الأمني الواقع في قلب مسرح التفجير، هذان الاحتمالان لا يجوز إلغاؤهما، فلربما كان الهدف اغتيال ضابط معين يملك بعض الأسرار الخطيرة، كما جرى مع غازي كنعان ومحمد سليمان، أو يكون الهدف من العملية إرسال رسالة إيرانية ساخنة، من تحت الطاولة، إلى ساكن قصر الشعب في دمشق، بأن للمناورة حدودا، وللبعد عن طهران ثمنا، وأي ثمن.
سواء أكانت القاعدة أم مخابرات طهران أم دببة النظام الأمني، فإن العبرة التي يجب أن يستخلصها أهل القرار في دمشق الفيحاء، أن زمن الهدوء قد ولى، وأن النار التي كانت تشتعل في الخارج، وقد يسر النظام بمنظر توهجها وتطاير شررها من حوله، بدأت بالتحول الى أطراف الرداء الدمشقي. وأخطر شيء يجب ان يخافه النظام هو إن كانت هذه النار تتغذى بوقود طائفي.
الشرق الاوسط