مخاطر العنف في سورية
هيثم مناع
في المحصلة الأولية لانفجار سيارة مفخخة صباح السبت 27 ايلول/سبتمبر 2008، قرب مركز أمني بمنطقة سيدي قداد على طريق مطار دمشق الدولي، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن مقتل 17 شخصًا على الأقل وإصابة 14 شخصًا آخرون.
تأتي هذه الجريمة المروعة إثر عدة أحداث وقعت في سورية منذ احتلال بغداد. وإن كانت نسبة هذه الحوادث أقل نسبيا مما عرفته منطقة شرقي المتوسط في الفترة نفسها، فهي تشكل تراجعا بالنظر للاستتباب الأمني الذي ساد البلاد خلال ربع قرن بعد مجزرة حماه في 1982. جاء في الأنباء أن السيارة المفخخة كانت تحمل أكثر من مائتي كيلو غرام من المتفجرات. مما يعني تعمد إيقاع أضرار كبيرة مادية وبشرية. من حسن الطالع وقوع الإنفجار في يوم عطلة مدرسية لوجود مدرسة بالقرب من منطقة الحادث.
عند كتابة هذا المقال، لم تكن أية جهة قد أعلنت مسؤوليتها عن هذه الجريمة. ويمكن القول ان كل ردود الفعل، الرسمية وغير الحكومية، السورية والعربية والدولية، أدانت العمل الأرعن الذي استهدف القتل المجاني لأكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء. فلا يمكن تبرير جريمة بهذا الجحم، كما أنه لا يمكن تناول موضوع الدافع لتخفيف آثام الجرم.
إن وقوع تفجير إرهابي في منطقة لأن فيها مركزا أمنيا، يعني استباحة كل مكان في البلد. فعدد المراكز الأمنية في سورية أكثر من عدد المساجد. أما اختيار منطقة فيها كثافة سكانية من مذهب معين، يجعل من الجريمة مضاعفة، لأن ذلك يستهدف الوحدة المواطنية والوطنية في سورية. وحين نعلم بوجود عرب غير سوريين في المنطقة، تحديدا من إخوتنا اللاجئين العراقيين، تصبح الجريمة أكبر. فليس من أخلاق وشيم الشعب السوري استهداف اللاجئين والضيوف.. بكلمة، كل من عناصر المكان الثلاثة المذكورة أعلاه يشكل في حد ذاته جرما أقبح من ذنب. أكثر من هذا وذاك، تفجير من هذا النوع لا يحتاج لأية مهارة ذكائية خاصة أو جهد عقلي متميز أو دراسة لما يمكن أن يترتب عليه ماديا أو معنويا. يمكن تصنيفه بكل بساطة في نطاق ما يسمى بالقتل من أجل القتل والزعزعة من أجل الزعزعة.
لكل ما ذكر، يمكن القول ان احتمالات التحقيق مفتوحة. وكوننا ممن يعتقد بأن السؤال التقليدي: من المستفيد من الجريمة؟ لم يعد ذا معنى، وأنه فقد منذ قرابة القرن معناه ومبناه. حيث منذ عقود زمنية، ممارسة وسائل العنف السياسي تجعل القائمين عليه يضربون أيضا، حيث يمكن أن توجه أصابع الإتهام لخصومهم وأعدائهم وليس فقط للقائم بالجريمة. لذا، نحن أمام جريمة جنائية تستوجب تحقيقا شفافا. ومن المفيد أن تسمح السلطات السورية لشخصيات وطنية مستقلة بالمشاركة أو المتابعة على سيره. خاصة وأنه بعد عدة أحداث، لم يشكف النقاب عن خفاياها، لا يجوز استبعاد أي احتمال أو أية جهة. بما في ذلك وجود عناصر متطرفة في أجهزة الأمن أو خلل أمني. ولشديد الأسف، إن توطد منظومة الفساد جعلها تشمل كل جوانب الحياة، بما يتضمن تسهيل تجارة متفجرات أو سلاح عند من باعوا ضمائرهم لمفاسد المال. كذلك لا يمكن أيضا استبعاد الأصابع الخارجية. فثمة أطراف عديدة، صغيرة وكبيرة، تضررت من فك العزلة الإقليمية والدولية عن السلطات السورية. وليس في سقف تفكيرها فارق كبير بين القامع والمقموع والحاكم والمحكوم.
في وضع كهذا، مهمة كل القوى السياسية والمدنية إدانة هذه الجريمة وفاعليها بدون ‘ولكن’. وإن كان من موضوع نقاش ضروري وملح، فهو في كيفية التصدي لهذا العمل والوقوف دون تحوّله إلى ظاهرة. وهنا يكمن الخلاف بين وجهتي نظر مختلفتين تماما:
وجهة النظر الأولى، تقول بأن أي عمل عنيف أو اضطراب في الأمن يتطلب ردا أمنيا يعيد الاستتباب للبلد والاطمئنان للمواطنين. هذا الرد الأمني تعرفه سورية جيدا. وهو برأينا جزء من المشكلة لا من الحل. فسورية تعيش حالة طغيان أمني في الحياة اليومية والسياسة والفضاء العام وأماكن العمل والعبادة واللهو سواء بسواء. هناك ضغط أمني يتجاوز حدود التحمل العادية للناس.
أما وجهة النظر الثانية، فتطرح ضرورة وجود رد مدني يحوّل قضية الأمن إلى قضية عامة ومسؤولية جماعية. وذلك ضمن التأكيد على أن من حق ومسؤولية كل مواطن ومواطنة المشاركة في مواجهة المشكلات الكبرى التي تعيشها البلاد. الأمر الذي يمكن ترجمته بإزالة العوائق أمام قيام أوسع جبهة مناهضة للعنف في المجتمع السوري. سواء تم ذلك عبر خلق الظروف الموضوعية لهكذا تحالف عام، أو بشكل إجرائي ملموس. ففي هذا البلد أطراف عديدة عربية وكردية، إسلامية وعلمانية، ترفض أي شكل من أشكال العنف. وهي تشمل الجبهة الوطنية التقدمية وإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي والتجمع الوطني الديمقراطي والتجمع اليساري الماركسي والنقابات المهنية والجمعيات المدنية.. فالقطاع الأوسع من المجتمع السياسي السوري ضد العنف بكل أشكاله. ويمكن لمناهضة العنف أن تشكل نقطة التقاء الحد الأدنى بين أطراف متباعدة في الخارطة السياسية والمدنية اليوم.. إن وقف الاحتقان السياسي الداخلي، وكسر الحلقة المغلقة للنظرة المتشائمة للمستقبل، يمكن أن تتم بمؤشرات عملية رمزية ورسائل بسيطة وواضحة: ألا يكفي الإفراج عن قرابة عشرين شخصية سياسية ومدنية من المعتقلين، معروفين للسلطة والمجتمع، لإعطاء إشارة قوية حول وقف التدهور على صعيد الحريات والحقوق؟. وهل يوجد ضمانة أمنية أقوى من تماسك مجتمعي وسياسي داخلي؟ تماسك يقوم على عقد جديد بين السلطة والمجتمع، أساسه ضمان شروط حق الإختلاف.. هل من هدية أجمل من هذا الخيار لضحايا التفجير الأخير؟ أم أن هناك من سيجعل من هذا التفجير ذريعة لتشديدات أمنية جديدة وقيود تزيد الشرخ بين الحاكم والمحكوم اتساعا؟
القدس العربي