خروج الفوضى من أكمام السيطرة الحديدية
فلورنس غزلان
تخاف عيوننا النوم، وتهرب الأنا من الحلم ، تلتقطها الكوابيس وتلبسها الرعب بأجساد مصلوبة على شرفات المكان، يتجمد الصبر في عروقنا تحت وقع أجراس الليل وسنابك العسكر الجوالة، لكن رذاذا خريفي الموسم يستطيع أن يغسل أجسادنا، ويلفها بعبق ماضٍ اعتقدنا أنه لطول الهزيمة فينا نَسِيَنا ومضى، مع استمرار القضبان الحديدية تقف فاصلة بيننا وبين أبنائنا، بيننا وبين طين الأرض الميت في حياة الريف والمدينة، والهلع المستوطن أفئدتنا عقودا رافقتنا كظلنا وتأبى الرحيل …فقد عرفت خواءنا وضعف مقاومتنا حين اكتشفت قدرتنا على استظهار أقوال قادة اخترقوا حصان طروادة فينا، لهشاشة ما بنيناه وما عولنا عليه، لم يفلح انتظارنا لمعجزات تنبأت بها الجدات، وأخفق الوقت في إخراج الهزيمة من ذاكرتنا، كما سيطر اليأس واستطاب الاصطياد في خرافة العزيمة وهزالة البناء الوطني القائم على الغث من شعائر وتفاصيل الأداء أحادي اللون وطائفي البضاعة السياسية الزاهية بحماسها النقدي لما يتفتق عن قرابين ترسل صيحاتها من جهات الوطن الأربع ومنافذه على البحر والجبل ، في السهل والوادي.
الكل يلقى حتفه أمام هندسة الواقع الكثيف بأقنعة أمنية لا تفسح مجالا سوى لأيادٍ ملطخة بدماء المدينة وبسفاح الياسمين وبانكسار العذارى على أبواب الأقفاص الذهبية المحصنة بأبواق السلف الصالح.
تندلق شهوة السطو ولغة القهر من أحقاد اختبأت طويلا تحت عتبات البيوت وفي أجنة التربية المنزلقة من سنوات الإجحاف وعقود الاضطهاد طبقي النشأة تطور عكسياً ليصبح طائفي البدعة، ويركب سلم الضراوة في الثأر وارتعاش الأجساد والقلوب عند أبواب العقل ونفضها من آفاق المنطق أو حتمية التاريخ، لتصبح براكينا لا توقظ سوى المشحون والمأفون والمدفون من عناصر الغموض وعناصر التذرر ونشوة الانتصار الآني على المُختلف، واجترار الموت ليرافق الخطوات المتأرجحة في تصديق الذات الحاضرة في بهاء الاهتياج وحماس الفرح المضروب بنفسه وبأهله، والخارج عن رطانة لا ترى في الغيم سوى رعودا وعواصف تحطم أحلام الحقد، ولا تخلف سوى أنهار دماء في شوارع مدن اختارت الياسمين عطرها المفضل، والجوري شعار محبة تاريخية بنت عليها أمجاداً تنقرض اليوم تحت مقاصل جرذان خرجت من جحورها ولم تعد سموم العلم تقيد اقتحامها، أو تحد من سطوتها، فأطلقت حشودا من فئران اختبأت طويلا تحت عباءآت الشيوخ ومآذن الضواري من أصحاب الإفك والفتك والتنكيل بالحب وبالعشق والعاشقين.
رقصت طويلا موسيقى الأقدام الملتهبة فرحا والصدور المنتفخة بأوسمة الانتصارات المفتونة بأنفسها والصور الملتصقة فوق جدراننا رغما عما يسود عيوننا من حزن وقلوبنا من فجيعة، وانطلقت مواكب الحَجاج ( نسبة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي) تقصف أذهان أبنائنا بأناشيد الفوضى وتكميم الأفواه وتعتيم المدن وتغليف البهجة بثياب مفضوحة الستر تخفي وجوهها الحاقدة وتكشف عن عوراتها ، لتصعد فوق سطوح البيوت العالية وتنشر رايات طقوسها ذات التاريخ الأسود ، واعدة أن ضوء الغد وأشعة الشمس ستكون ملك يمينها،
وأن المدن المريضة بحضورها…تسجل الطاعة وتصلي لبقاء القدرة الطاغية على الحاضر والمستولية على المستقبل، ولم تدرِ أن ما اختفى تحت شياطين العباءات والبيوت، التي أذعنت لها مخلصة، ستخرج
عن الطاعة وتلهب الأرض وتفتك بأيد قبلتها طويلا باسم الولاء، وهاهي تنقلب عليها…لتمد بعمر الفوضى وتنشر أشرعة الخراب وتشعل النيران في زعفران الشام وبخور حلب وبيارق غسان.
كل الكلام يصبح هزيلا ، وكل البكاء لو انقلب نواحا فهو عديم الجدوى أمام صرخة القتيل الأخيرة تحت سياط العنف وانتصاره على العقل وعلى المحبة العامة بين أبناء مجتمع واحد تفرقهم شيع وسنن سياسية المظهر تحتقن بعفن الفكر وانحلال الإنسان ،/ الذي أصبح كتلة من التفاهة مرتلة بأقانيم صلوات صنعها سيده ويريد توريطنا فيها ليجعل من تراتيله ميراثا للجميع وتراثا لتاريخ الوطن، عقيم كل قول وكل تحليل وكل دعوة أو استجداء لاستدرار عقل يعيش بعين أعور الدجال السياسية، ويريد أن يخط بها مصلحة الوطن فيمزقه بمتاهات يهرب منها العاقل لينجو بمن يحب، لكن سلطة الموت أقوى، وسلطة العنف لا تميز.
فهل يستطيع الساحر أن يدرك أن أرانبه التي يخرجها من كمه وقبعته…لم تعد تضحك الصغير ولا تنطلي على بعض الوعي فينا؟ .
.وهل يدرك السياسي والمثقف بيننا، أن صرخاته لو مزقت الكون، فإنها في هذا الوطن المُغَيَّب لا تصنع سوى رفاته؟!….
أمام الموت وأمام دهشة المرآة لما تراه فينا…أمام مآتم ابتدأت بسبعة عشر تابوتا في دمشق يسبقها الكثير من الأحداث ، التي انطوت واختفت تحت عباءة انعدام الشفافية والاستمرار في غناء وحدة الصف وقبضة الأمن وأن سورية محصنة، اكتسبت مناعتها بفضل تناولها لعقار المناعة والممانعة، لكنها نسيت أن مفعوله لا يسري إلا على المواطن .
ــ باريس 29/09/2008
خاص – صفحات سورية –