في خصوص الحروب الوشيكة: بديهيات يجري تناسيها
نهلة الشهال
قيل إن مجموعات من الشبان خرجت في بعض أحياء بيروت الغربية تهلل لخبر وصول القطعة الحربية الأميركية قبالة العاصمة، مرددة الأهزوجة البدوية «هلا هلا باللي جاي». قيل انه جرى تداول دعابة في مدينة طرابلس، حينما حددت بيانات الإدارة الأميركية أن «يو أس أس كول» ترسو قبالتها، وهي الأقرب جغرافيا إلى سورية من جهة البحر، تقترح رفع يافطة كبيرة على الشاطئ تحمل سهما يشير إلى الشمال، أي إلى سورية، في دعوة «للضرب» هناك، على ما فسر لي محدثي حينما واجهته بصمت لعله ظن انه نابع عن عدم فهم للنكتة!
هؤلاء، شبان بعض أحياء بيروت الغربية وسكان طرابلس، هم أحفاد وأبناء مناضلين ضد الانتداب الفرنسي ومن أجل الوحدة العربية ودفاعاً عن المقاومة لفلسطينية… لطالما فخرت طرابلس أن الزعيم عدنان القاوقجي الذي قاتل في فلسطين هو احد أبنائها…
ليس في هذا المآل سر، وليست الميول والأفكار والمواقف مرتبطة بمحدِّد جيني يمنعها من التغير. كما انه ليس صحيحاً أن تلك المواقف التحررية والعروبية السالفة نابعة عن نزوع طائفي مستور، رأى في العروبة تعويضا عن أفول السلطنة العثمانية، ثم في المقاومة الفلسطينية ركائز وتعزيزات للنفوذ السني في المنطقة، وفي لبنان. فهذا تفسير مجزوء أولاً، كما يقوم على استعارة وعي راهن لتأويل أحداث ماضية، وهذا مسلك يعرف المؤرخون والسوسيولوجيون خطره المنهجي ودلالته الرثة في آن. لقد حدث انهيار في منظومة القيم والأفكار التي سادت لفترة طويلة وحددت مواقف الناس وحرّكت أفعالهم. يحتج البعض قائلاً انه انهيار عالمي، وهذا صحيح، فيما يرى البعض الآخر في التغير مؤشرا على صحوة تتخلص من اليوتوبيات والأوهام وتسمح أخيراً ببناء مجتمعات ودول عقلانية. وربما جاز البدء من هذه النقطة. فأصحاب هذا الرأي الأخير لم ينتجوا حتى اليوم سوى ردود فعل مفككة ومتناثرة على وقائع موضعية. كما أنهم يلجأون إلى مواقف ذهنية خالصة غير ذات صلة بالواقع. فليس المطروح أمامنا خيار تبني تصور أو مشروع متماسك يتولى رسم طريق، وفق الايدولوجيا الليبرالية، للنهوض بالمهام غير المنجزة، أي بكل شيء: الاستقلال والمنعة الاقتصادية والتقدم الاجتماعي… ولو كان الأمر كذلك، لوجب بالتأكيد تقديم مثل هذا المشروع للنقاش العام، ولكان حاز على تأييد تيارات عريضة، وشكّل بديلاً ملموساً عن الأفكار الماضية التي هيمنت ردحاً وانتهت مهزومة عاجزة.
إن المشروع الوحيد المتبلور إلى حد ما صادر عن الإدارة الأميركية، وقد أسمته «الشرق الأوسط الكبير»، وهو نفسه دخل في بازار السجال السياسي المباشر بحيث لم يتجشم أحد، لا من معارضيه الشرسين ولا من مؤيديه الخجولين أو المستترين، عناء شرحه وتفنيده. وهو على أية حال مطروح من ضمن وضعية عامة حربية، أو كتتويج وتبرير لها، مما يجعله يفقد بسرعة صفة وجهة النظر لصالح صفة الأداة في الحرب، ملغياً نفسه، لأنه من المستحيل تأصيله محلياً إلا كعنوان على هزيمة واستسلام أمام محتل. وكذلك القوى التي تنادي بالخلاص من «القومجية» و»الثورجية» و»الممانعة» وفق نعوتها، دون أن تتبنى بالضرورة المشروع الأميركي، لا تقترح في العمق سوى ارتضاء الواقع الراهن (بل أن بعض أقسامها يعمل مع قوى الواقع بكل انسجام وإخلاص، وينطبق ذلك على ليبراليين كما على يساريين). وبما أن الواقع القائم منسوج من احباطات وانحطاطات، فكيف يكون موقفها بديلاً، وعمَّاذا هو بديل؟
وفي لبنان تحديداً، وقع النقاش الدائر (إذا صحت تسميته كذلك، وهو أقرب إلى المهاترات) ضحية «آنيةٍ» لا يمكن أن تستقيم، آخر عناوينها انتخاب رئيس للجمهورية… فيما البلد مشطور عمودياً، وفيما تختفي خلف العنوان ملفات كبرى تحتاج إلى معاملة، إما بالتوافق أو بالحرب الأهلية، وهما الآليتان المألوفتان لتسيير الأمور في هذا البلد. ولعل الترحيب بالمدمرة الأميركية يؤشر إلى مقدار سطوة منطق الغلبة على التوافق، فتعود إلى الانعقاد تلك المعادلة المبتذلة القائمة على التوظيف المتبادل، ما بين الدائرتين الخارجية والمحلية، مما يعتقد اللبنانيون أنهم يجيدونه فيما نراه ممارسا في كل مكان: أليس ذلك ما ترتكبه الأطراف العراقية مثلاً، حيث تتقاطع إلى حد الالتباس الخطوط ما بين مؤيدي إيران والاحتلال الأميركي والطائفيين الشيعة الطامحين للامساك الاستئثاري بالسلطة، وبعض الليبراليين واليساريين ممن يلتقطون الفتات ويزينون المشهد، مقابل مناوئيهم ممن لا تقل خطوطهم التباسا، فبعضهم مؤيد للاحتلال ومرتبط بجهات إقليمية ويسعى لاستعادة الاستئثار بالسلطة أو لحصة سخية فيها، وبعضهم الآخر ينهج التدمير الشامل بحجة مقاومة الاحتلال والهيمنة الشيعية… والحصيلة أن استتباب الأمر غير ممكن لأي جهة، للاحتلال (هل يكفي ذلك للرضا؟) كما لأي طرف محلي، وأن العراق يعيش جحيما مدمراً ويدفع ثمناً يفوق الخيال.
ولا يوجد ما يبرر لأي طرف لبناني أن يظن أن بلده وهو نفسه بمنأى عن مصير مشابه. فكل تدخل عسكري خارجي سيستحث مقاومات متعددة الاتجاهات، وهذا ما ليس بقدرة أحد منعه، مما يجعل التدخل منطلقاً لمستنقع من الدماء وليس وسيلة للحسم. أما الحرب الأهلية التي خبرها اللبنانيون مرات عدة، فلا توفر لأي كان فرصة حسم الأمور لمصلحته. وقد يعتقد البعض أن ذلك بديهي، ولكن مجريات الواقع تدل إلى غير ذلك، والى توطن وشيوع فكرة الذهاب إلى الصدام الأهلي، أو مناداة التدخل العسكري الخارجي بما يشبه الفرح!! ولعل كل طرف يعدد أنصاره وحلفاءه الخارجيين، بينما الحصيلة الوحيدة الممكنة لمثل هذا المآل هي خراب مديد ومعمم. ومن المرعب أن تكون الإدانة الوحيدة للانزلاق نحو حرب أهلية تصدر اليوم عن شخصيات قليلة جدا وعن أوساط محصورة جداً، بينما قيل في الحرب الماضية، والتي ليست بعيدة حتى تُنسى تفاصيلها، انه كانت هناك أغلبية صامتة من اللبنانيين هم ضحية قرار لا ناقة لهم فيه ولا جمل. فأين هم اليوم؟
يدافع المبتهجون بـ «يو أس أس كول» ورفيقاتها عن أنفسهم باستحضار، ليس فحسب تهمة اغتيال الرئيس الحريري، بل إرث الفظاعات التي ارتكبتها سورية في لبنان على امتداد عقود– ولعل نصيب طرابلس كان مضاعفاً. ويسجلون استفادة سورية من تعطيل لبنان، وذلك على كل الصعد، وأولها الصعيد الاقتصادي، حيث تمتلئ الفنادق والشقق الاصطيافية والأسواق السورية بالسياح العرب الذين يفترض أن وجهتهم الأصلية كانت لبنان، وقد حدث ذلك في سنوات الحرب الأهلية، ثم عاد إلى التكرار بفظاظة في السنوات الأخيرة، وأن سورية تبني اقتصادا ليبرالياً لا يتلاءم والحروب والمواجهات التي تدعو إلى ممارستها… من لبنان، فيما لم تطلق رصاصة واحدة عبر جبهتها الممتدة. ويشيرون إلى الاستحواذ الشيعي على العراق، والى أطماع الهيمنة الإقليمية لإيران، فيسجلون – عن حق- غياب مشروع مقارعة الاحتلال في العراق عن الأجندة الإيرانية المنظِّرة لـ «العملية السياسية»، وهي الأداة المدنية لإرساء الاحتلال. ولم تفعل زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى العراق المحتل وكلامه هناك غير تعزيز موقف مهادنة الاحتلال ذاك، أو الشراكة معه. ويرون أن قوة حزب الله موظفة في خدمة هذه وتلك، فهل صيف وشتاء على سطح واحد؟
تلك أسئلة لم يعد من الممكن تجنب مواجهتها بوضوح واستقامة، وتقديم تصورات لكيفية التعامل معها، ليس بسذاجة ولا بسجالية مهاترة، ولا بعناد بليد أو فظ، بل وفق كل التعقيد المعلوم. وكلما ازداد الوضع تأزما، وكلما ارتفع خطر وقوع حرب – ليس كخيار ذاتي فحسب بل كواقع حال مفروض أميركيا – أصبح الأمر ملحاً بالنسبة لكل القوى الداعية لعدم الاستسلام للواقع، إسلامية كانت أم يسارية. وهو موقف لا يمكن لحزب الله مثلا، الواقع في نقطة الوسط من تلك التقاطعات، تجنبه. ومعلوم أن المعالجة والإجابات ترتب نتائج، منها ما يتعلق بالمخططات السياسية القائمة، ومنها ما يتعلق بالاستعدادات والتحالفات الخ… ومن دون ذلك يسود منطق الغلبة (والغلبة مستحيلة للجميع، فهو إذاً الخراب)، والاستقطاب التنابذي والاقصائي (أي الحرب الأهلية، باردة أو ساخنة). وليس للنوايا دخل في ذلك!
الحياة – 09/03/08