قرن جديد وخيبة الآمال
طيب تيزيني
جاء في الأثر أن الله يختار على رأس كل قرن مَن يجدِّد العهود، ويعلن الوقوف في وجه الشر، ويفتح أبواب الخير والفضيلة، وفي مقدمتها أبواب العدل والسلم والحرية والكرامة. ولعل ذلك يمثل جدلية تاريخية تتجسد -في العلوم الاجتماعية- في مفهوم “التقدم”
وفي آلية التقدم التاريخي القائمة على “التراكم” وعلى “الاتصال والانفصال”، أي الاتصال انفصالاً والانفصال اتصالاً. وقد ظهر ذلك على رأس القرن الذي نعيش 2008، وذلك بصيغة احتفالية عالمية، حين اجتمع قادة العالم في شهر سبتمبر من عام 2000 ضمن مقر الأمم المتحدة في نيويورك. كان الهدف من ذلك تقديم رسالة إلى العالم بمناسبة الألف الثالث، يعبرون فيها عن آمالهم وأمنياتهم لشعوب العالم.
لقد التقى رؤساء دول ووزراء ومسؤولون، زاد عددهم على 150 شخصاً، أعلنوا في نهاية هذا اللقاء ما أطلقوا عليه “إعلان ألفية الأمم المتحدة”. وكان من أهم القيم التي ضمنوها تلك الألفية، الحرية والتسامح والاحترام المتبادل والعدل والمساواة، مع احترام نظري وعملي للطبيعة والوقوف منها موقف المسؤولية، وغيرها. وقد علق على ذلك “سيسيلا بوك” في بحث له بعنوان “إعادة التفكير في القيم المشتركة”، حين قال: إنها “مُثل لم يسبق أن كانت قيماً مشتركة بين، أو حتى معظم، المجتمعات في أي وقت في التاريخ”. (نشر البحث في: عوالم متصادمة- الإرهاب ومستقبل النظام العالمي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبوظبي، 2005). وبعد عام يحدث الأمر، الذي هز العالم مع الهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاجون في الحادي عشر من سبتمبر. وهنا يطرح الكاتب نفسه “بوك” تساؤلاً مؤداه:” هل لا يزال من الممكن التحدث عن قيم مشتركة، بينما تحاول المجتمعات مواجهة أخطار مشتركة؟ وما هي أنواع التوافق حول قيم أخلاقية أساسية؟“.
وقد جاءت المواقف اللاحقة، لتؤكد على أن الطرف الذي استُهدف في عقر داره، لم يُصب بالرعب والصمت، بل أعلن بلغة الرئيس بوش بيان المواجهة، أتى ذلك في 20 سبتمبر2001، حين قال: “نحن الليلة بلد متنبه للخطر ومدعو للدفاع عن الحرية. لقد تحول حزننا إلى غضب وغضبنا إلى تصميم، وسواء جلبنا أعداءنا للعدالة أو جلبنا العدالة إلى أعدائنا، فسيتم تحقيق العدالة”. وإلى هنا بدا الأمر مقبولاً، ولكن الرئيس أحدث في خطابه أمام الكونجرس، نقلة كبرى، حين أعلن الثنائية الخطيرة التالية: إما أن تكونوا معنا، وإما أن تكونوا مع الإرهابيين”. إنها نقلة منهجية وأيديولوجية وسياسية ليست غريبة على الثنائية المانوية، القائمة على فرز العالم إلى معسكرين اثنين: إمّا، وإمّا!
ويرى بنجامين بارير (ضمن: المرجع السابق) بكثير من الحق، حين يرى أن “أعداء الولايات المتحدة الأميركية- وعدداً ليس بقليل من أصدقائها- قد يجدون هذا الخطاب مضللاً ومشوباً بشيء من الغطرسة، لأن الولايات المتحدة الأميركية التي تدرك جيداً حقائق الاعتمادية التبادلية وترغب في ابتكار صيغة ديمقراطية لاحتواء اضطراباتها، لا تستطيع الطلب من الآخرين الانضمام إليها أو تحمل العواقب”. فـ”بنجامين باير” يكتشف سمة كبرى في المسلك الأميركي حيال العالم، وهو إصرارها على أن يكون العالم دائماً معها وأن يذهب إليها بوصفها حامية الحمى. لكن الكاتب يضع يده -في الآن نفسه- على نقطة لعلها حاسمة في تصويب الموقف الأميركي من العالم؛ تلك هي أنه “على الولايات المتحدة الأميركية بالأحرى أن تنضم إلى العالم وفق أي شروط تستطيع التفاوض عليها على أساس من المساواة مع العالم”. وليس “على العالم أن ينضم إلى الولايات المتحدة”. وبالضبط، هذا ما لم تفعله، وربما لن تفعله قريباً.
نحن هنا أمام استحقاق سياسي وأخلاقي كبير، على الولايات المتحدة أن توظف كل “حكمتها” تاريخياً وراهناً في سبيل حله، كي لا تتورط مع العالم ولا تورط نفسها، من جديد، إنها الإجابة على السؤال: لماذا تجيء المدمرة “كول” إلى شواطئ على مرمى حجر من لبنان ولكنها تبعد عنها آلاف الكيلومترات؟ حقاً، إن المنطقة تلتهب قبل “زيارة” هذه المدمرة لها. ولكنها الآن قد تنفجر. نعم،مجيء الولايات المتحدة إلى العالم أمر عظيم ورائع، لو حدث على أسس من السلام واحترام السيادات. ومن الطريف أن ننصت هنا إلى ما قاله “ستيوارت مِل” بخصوص التناقض بين مَن تغنّوا بعصرنا المستنير (القرن 19)، وبين الذين ركزوا على المظالم وفقدان الاستقلال فيه فحسب. قال: كان الطرفان كلاهما على حق فيما أكدا عليه، ولكن على خطأ فيما أنكراه”. وللأسف، لم تكن السياسة النظرية يوماً هي الحاسمة باستفراد، بل كانت المصالح وراءها. والآن، ما الذي يقال
2008 الثلائاء 4 مارس
الاتحاد الاماراتية