في الإصلاح الديني والإسلام وأفق النهضة هواجس الأمل الجريح
عبدالله أمين الحلاق
من الطبيعي في ظل حالة الانحطاط التي تعيشها المجتمعات العربية على كل المستويات، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، أن يكون هاجس النهضة وأسئلتها وافقها للخروج من الراهن حاضراً في فكر الإنتلجنسيا وأطروحاتها، وهو ما قد يكون من المفيد تبسيطه بالسؤال القديم الجديد الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان ذات يوم: لماذا تخلف المسلمون وتقدّم غيرهم؟ طبعاً لن يكون السؤال مطروحاً هنا بصيغة تحاول تحميل غيرهم فقط كل مسؤولية تخلفهم بما هو استعادة لنفس قومي وإسلاموي متعصب ساهمت نظرته الى الآخر في تكريس الراهن الذي ذكرناه.
إذا أردنا الحديث عن ثقافة السواد الأعظم من البشر المقيمين داخل حدود هذه المجتمعات، فسيكون من الأنجع الحديث التحليلي عن الإسلام كمكوّن رئيسي وأول لهذه الثقافة، وتاريخه بالجانب السلفي والإصلاحي، وأفق طرح خطاب ديني مستنير ومنفتح على الآخر، الذي كانت نظرتنا اليه نحن معشر العروبة (مع بعض الاستثناءات) نظرة إشكالية ورافضة للحوار معه وقبول ثقافته وأفكاره في الليبيرالية والانفتاح على عالم شق طريقه في اتجاه نجوم المجرة، بينما لا نزال نقطن تخوم الصحراء العربية الكبرى والربع الخالي وعلاقاته البدائية، أي علاقات ما قبل المواطنة.
لو عدنا الى تاريخ الدولة العربية الإسلامية، لما كان من الدقيق تقويمها بالشكل النمطي الذي يختصر الموضوع بعصر ذهبي في عهد بني أمية وبني العباس، وعصر انحطاط مملوكي وعثماني تلاه، بل إن الأمانة التحليلية للإسلام السياسي ستجعلنا نشير الى الموضوع من زاوية تنطلق ربما من الاسم الإشكالي، “الدولة العربية الإسلامية”، بما في ذلك من ربط بين الإسلام والسياسة التي اصطبغت بصبغة هذا الدين، وهي كانت في طبيعة الحال دولة تسلطية اوتوقراطية لا يمكن فصلها لجهة الفعل التاريخي التراكمي عما وصلت إليه الحال الآن من دول تسلطية وإن بخلفيات فكرية وإيديولوجية مختلفة، لعب الموروث الإسلامي من أنماط الحكم دوره فيها، إلى جانب الغزل غير العفيف بين الدين والسياسة الذي يصل حد التماهي والتوحد بين الاثنين حتى في القرن الحادي والعشرين، وهو ما غذى وخلق فكراً تبعياً في ذهنية الملايين ممن يشكل الإسلام عصب عقلهم الجمعي ومحركهم الميداني إذا لزم الأمر عندما يتعلق الأمر بالتابو/ المقدس ورموزه السياسية والفقهية على امتداد هذه الرقعة العربية.
لذا، هل من الممكن أن اعتبار العلاقة الحميمة بين الإسلام كدين والسياسة كأنظمة حكم، هي التي تستعيد الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي والحسين بن منصور الحلاج على صيغة محاكم تفتيش إسلامية تلاحق الكتّاب والمفكرين وإنتاجهم الفكري والثقافي؟ ولماذا استمرت وبلا انقطاع مسيرة الجبرية في الممارسة والعلاقة بين المحكوم من جهة والحاكم بأمر الله الذي استمد هذا الاسم من الجبرية نفسها، بما هي نمط من العلاقة تعتبر طاعة الحاكم واجبة كإطاعة الرب، وعصيانه من عصيان هذا الرب ويستوجب إقامة الحد على مرتكب هذه المعصية!
وإذا كانت الجبرية والاستسلام للقدر ومشيئة الله والحاكم في عباده قد لاقت تياراً فكرياً معارضاً لها، فإنها سادت هي في النهاية، وتمثل هذا التياران بانقسام حول بعض الآيات القرآنية وتفسيرها، وهي آيات ساهمت في هذا الانقسام، كأن يأتي احدهم بآية مثل “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، أو “ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين” وغيرها، فيردّ عليه آخر بآية: “كل نفس بما كسبت رهينة” أو “قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وهلمّ.
هذا الانقسام الاجتماعي – الفكري لم يكن خلافاً اتخذ الحوار الفكري والسياسي أسلوباً لحسمه، بل أفضى بشكل دموي وقسري إلى سيطرة جبرية تمثلت بالخليفة، ظل الله على الأرض وخليفته في البلاد والعباد، وبذلك بدأت مرحلة ستؤسس عميقاً بالفكر والممارسة لواقع اليوم الذي تعيش الشعوب العربية انعكاساته بشكل جبرية وسلطات استبدادية قد تتجاوز الشكل الإسلامي إلى خطوط حمر وسقوف ومصير قد ينتظر كل من يعارض الخليفة/ الحاكم الذي لن يكون إسلامياً غالباً في أيامنا هذه، بل ربما حمل بعض النفَس العلماني القومي منه واليساري ليحوله ديناً وتابواً في ذاته.
لماذا طرح الإصلاح الديني في الخطاب النهضوي والى أين أفضى هذا الإصلاح؟
إذا كان مسار الحكم في العالم العربي ارتكز على الخلافة الى ان قوّض مصطفى كمال أتاتورك دعائمها، وأعلن الجمهورية في تركيا، فإن من الطبيعي ان يسود الركود الثقافي والاجتماعي والسياسي المجتمعات العربية التي تعاقبت عليها خلافات بأشكال مختلفة وممارسات متشابهة الى درجة كبيرة، ومن الطبيعي أيضاً ان تكون بعض التغيرات الإدارية والثقافية في مركز السلطنة العثمانية دافعاً لبروز خطاب تغييري بنفس إصلاحي غير جذري، ستلعب التغيرات السياسية والثقافية في أوروبا وقدوم الحملة الفرنسية على مصر أو ما يشير إليه البعض “بمدافع نابوليون التي أيقظت الشرق من سباته العميق”، وتقادم نمط الحياة بما يستوجب جديداً وتغييراً في نمط الحياة بكل جوانبه ومجالاته، ستلعب دوراً فيه، وهذا ما دعا إليه من صارا رمزاً من رموز الإصلاح الديني في مصر والعالم العربي، ومن ارتبط اسمهما بمشروع قديم عرف بالنهضة الاولى التي انقطع مسارها في ما بعد، عنينا الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده.
سيحلو للبعض من الكتّاب والمفكرين ان يقاربوا مسألة الإصلاح الديني في أوروبا ويعتبروها نموذجاً لدخول العالم العربي ومجتمعاته ما يسمّونه ربما بـ”عصر الأنوار الإسلامي”، ويستعيدوا رأي شكيب أرسلان في ان “نهضة أوروبا وبزوغ فجر الأنوار لم يبدأ إلا بخروج مارتن لوثر وجون كالفن عن الكنيسة”، في تشبيه به لما سمي عندنا بمشروع الإصلاح الديني المنكفئ بعد محمد عبده في صيغة ارتداد عن قيم هذا “الانفتاح” وأفكاره لكي لا نقول الإصلاح باعتباره لم يفض إلى النتائج المرجوّة منه، بل بقي محصوراً ببعض الأفكار التنويرية، وهذا الارتداد مثّله محمد رشيد رضا المؤسس نظرياً لأفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وغيرهم من السلفيين.
العبرة في النتائج كما يقولون، ولذا فإن هذه النتائج المعنوَنة بفشل مشروع الإصلاح والتنوير ستطرح أسئلة أبعد من تحميل الاستعمار الكولونيالي فقط وقدومه إلى المشرق العربي مسؤولية ما حدث، ليصبح التساؤل عن إمكان نسخ التجارب الأوروبية والخروج عن الكنيسة متعلقاً بالواقع العربي من جهة، وبمضمون خطاب التنويريين ودعاة الإصلاح ومنهم الأفغاني ومحمد عبده، وهل ارتقى إلى درجة يمكن ان يحدث فيها إصلاحاً ولو نظرياً على مستوى الفكر، ويؤسس إلى الخروج من نفق التقليد والجمود والانحطاط الثقافي والسياسي على كل المستويات.
فإذا كان الأفغاني قد حمل النزعة والأفكار الإصلاحية في مناهضة الأصولية والاستبداد، واطلع على أفكار الفلاسفة والمفكرين والمنظّرين الأوروبيين، ووصل الأمر إلى حد اتهام الخديوي له بالماسونية، فإننا لا بد ان نمر عند بعض الأفكار والأطروحات التي تقاطعت موضوعياً مع بعض الإسلاميين التقليديين، أقلها هوسه الدائم وانشغاله بما يمكن ان تعنيه ثنائية الإسلام والحكم في حال تصديرها كنموذج إلى أوروبا وسائر الغرب، فبقيت فكرة الخلافة والرسالة قائمة في من يفترض به ان يطرح طرحاً مغايراً لهذا كله، ويترك الدين شأناً وطقوساً للعبادة والقناعات الشخصية بعيداً عن البحث عن مجد الفتوحات الإسلامية، وإن يكن هذا المجد نظرياً في كلام الأفغاني وليس بحد السيف وفرض الجزية كحال تلك الفتوحات.
وهو هاجم مثقفي عصر الأنوار وفلاسفته وديمقريطس وداروين، وهذه مفارقة في ذاتها، واليهودية والهندوسية والمسيحية، وأبقى الإسلام بذلك محصوراً في غيتو متمترس في مواجهة الآخر، وإن خاض مناظرته الشهيرة مع الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان.
على ان الحوار وقيم الانفتاح الشكلية والإشكاليات في العلاقة مع الآخر ستنتقل إلى تلميذ الأفغاني، الشيخ محمد عبده، الذي اعتبر ان المسيحية “أصولية” وهاجم المتصوفين، وقال إن استعانة المسلمين بـ”الكفار وأهل البدع”، بحسب تعبيره، هو فقط لحفظ صورة الأمة ونصرة الملّة الإسلامية، وإذ أبدى استعداده للتعاون مع البريطانيين فلهذا السبب فقط، وهم الذي يساعدونه في تحقيق هدفه، وقد وقف كرومر إلى جانبه عندما أراد الخديوي عزله من منصب المفتي.
وليس من المفيد اعتبار موقفه ورأيه في ان الإسلام يتيح اقتباس العلوم الحديثة نمطاً للانفتاح والبحث عن إسلام معاصر، لأنه يقع بهذا الكلام في فخ طرح البعض بأن الدين الإسلامي أسمى وأرقى من هذه العلوم الحديثة لو لم يتح هذا الاقتباس طالما جعل في إتاحة هذه الفرصة في اقتباس العلوم تقديماً للإسلام على تلك العلوم.
في العودة إلى المقارنة العبثية بين الإصلاح الديني وبزوغ فجر الأنوار في أوروبا والأفكار الخجولة التي طُرحت وسمّيت بمشروع الإصلاح الديني والنهوض وبوادره، فمارتن لوثر قاد الخطاب البروتستانتي الخارج عن كاثوليكية الكنيسة، وهو استطاع أن يطرح أفكاراً هزّت في العمق الخطاب الديني والاجتماعي البائد الذي أعطى أوروبا طابعها الإقطاعي الكنسي البطريركي المتخلف، وكسر فكرياً مع آخرين بأطروحاته ذلك الحاجز والجدار الفاصل بين الكنيسة والعلم، وتلا تلك المرحلة التأسيسية سلسلة انفتاحات ورموز فكرية وعلمية رافقت عصر الأنوار وساهمت في صناعة أوروبا النهضة.
ولكي لا يبقى الكلام مجتزءاً وناقصاً، لا بد من الإشارة إلى ان ضرورة أي فعل تغييري، إصلاحي او جذري، لا تتعلق بالذات فقط، بل تتخطاها إلى الظرف الموضوعي الذي يلعب دوراً رئيسياً في خلق الشرط التاريخي الملائم لهذا التغيير، وأوروبا الأنوار والنهضة خير مثال على ذلك، حيث ان الخطاب الإصلاحي عند لوثر وأمثاله كان من الممكن ان يبقى حبراً على ورق، وكلاماً في الهواء، لو لم تكن أوروبا برمتها وممالكها وإقطاعاتها تعيش إرهاصات الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، ومن تشكيلة اجتماعية – اقتصادية إلى أخرى تليها وتقوم على سابقتها، فالإقطاعية المتهالكة والمتقادمة كانت الدافع الى خلق خطاب التنوير والنهضة وتطبيقه على أرض الواقع، الأمر الذي صبغ أوروبا بطابع الانفتاح والعلمنة منذ تلك الفترة مروراً بالثورة الفرنسية ومبادئها في الحرية والإخاء والمساواة وحتى اليوم الذي نرى فيه أوروبا ليبيرالية منفتحة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وتشارك في صناعة تاريخ البشرية اقتصادياً وعلمياً وثقافياً وسياسياً، وفي صوغ ملامح عالم اليوم على كل المستويات.
عطفاً على ذلك وفي عالمنا العربي، فإن الشرط الذي يحكم الراهن والماضي هو شرط التخلف الثقافي والاجتماعي (والسياسي في الضرورة)، بل إن السياسي على مستوى الأنظمة هو السبب الأول في منع أي خطاب وشرط تاريخي وفعل تأسيسي يمكن ان يتيح للنهضة إبصار النور، ولذا رأينا الخطاب الإصلاحي الذي طرح في القرن التاسع عشر عند الشيخين وغيرهما، والذي اصطدم بحاجزين، أولهما أنه لم يكن قادراً وبحكم الشرط الموضوعي والظرف الاجتماعي والسياسي المهيمن على خرق المجتمع وهز البنية الفكرية ونمط التفكير السائد المتخلف الذي يصبغ الوعي الجمعي، في مجتمعات غير متطورة. والثاني ان الطرح المسمى إصلاحياً في خطاب التنوير وعلى رغم اتساع مساحة النقد فيه، كان بحسب حازم صاغيّة في كتابه “قوميو المشرق العربي- من درايفوس الى غارودي”، “من الضعف والجبن بحيث لا يقارن بما فعله لوثر في القرن السادس عشر، واليابانيون في القرن التاسع عشر”.
لذا، فإن الخطاب الديني المتنور نسبياً سينحسر وينكفئ ليصعد بدلاً منه وبعد استقلال معظم الدول العربية ما سمّي بحركات التحرر الوطني وليبرز الخطاب القومي بعد نكبة فلسطين قوة إيديولوجية سيعتبرها البعض حاملة لمشروع النهضة الثانية المنهارة في حزيران 1967، وإن بقي دعاة هذه النهضة القومية موجودين حتى اليوم على رأس أنظمة حكم استبدادية وشمولية ستلعب دوراً كبيراً في مصادرة الفكر والمجتمع وحلم النهضة والخروج من الانحطاط ووقف او على الأقل تأخير إمكان تطور المجتمعات العربية وانخراطها في عالم اليوم.
في العلاقة بين الدين والسياسة
لا نعني ونشمل بها طبعاً الصدامات الدموية التي جرت بين السلطات العربية والفصائل الإسلامية المسلحة في هذا البلد او ذاك، وهي أصلاً لم تكن مدفوعة بالقلق من شبح الأصولية والإرهاب وأثره في المجتمع بقدر ما كانت منهجية في التعامل مع المعارضين، والإسلامويين طرف في النزاع والمعارضة للسلطات الاستبدادية في معظمها، وخصوصاً ان الاستبداد السياسي ذو دور كبير في إعادة إنتاج العنف والتطرف بشكله الإسلامي.
إذاً لا بد من التوضيح أن المقصود بهذه العلاقة هي العلاقة التي تدفع احدهما إلى التماهي مع الثاني الى درجة كبيرة، وتضع خطاب احدهما وسيلة لمحاولة تأبيد خطاب الثاني وتكريسه على مستوى المجتمع، ثنائية الفقيه والسلطان، بحسب محمد علي الأتاسي، العمامة والجنرال، الملاّ والمستبد، ليس تماهياً فقط، بل ربما وصل تحالفاً وعلاقة بنيوية بعيدة المدى، طالما ان استمرار خطابهما ووجودهما على رأس الهرم السلطوي او الفقهي مضمون.
ففي مصر حيث الأزهر والحزب الحاكم، ولكل منهما سلطته وصلاحياته، وإذا كانت التعديلات الدستورية أعطت الدولة حصرية تمثيل الدين، فليس من البساطة اعتبار أن إعلان مواقف الإسلاميين المتشددين غير ذات دلالة على نمو الصوت الأصولي، وان نمرّ مرور الكرام على موقف احد الإسلاميين محمد العمدة الذي أبدى خوفه من رغبة الحكومة في تحويل مصر الى دولة علمانية، كما أيد عبد المنعم سعيد ذات يوم موقف المتشددين الإسلاميين، وهو العامل في مركز “الأهرام” للدراسات الاستراتيجية، حيث انضم إلى ثلة تضم محمد عمارة وفهمي هويدي ومحمد الغزالي الذين كتبوا وسوّقوا في منابر السلطة نفسها وأبرزها “الأهرام” خوفهم مما سمّوه “الحرب الأهلية بين العلمانيين والإسلاميين”، ودعوا الى الكفّ عن البحث والتفكير والمناقشة وخلق ما سمّاه الأستاذ نصر حامد أبو زيد في سياق رده عليهم بـ”المناطق الفكرية الآمنة والحدود التي لا يتناولها النقاش أو النقد”.
هذا ليس بغريب طبعاً في بلد كمصر يطلق فيه العنان لفتاوى الأزهر التي قد تصل إلى تكفير كاتب وتخوينه وهدر دمه وبشكل مقونن أحياناً، او منع كتاب وسحبه من الأسواق، وإذا كانت محاكم التفتيش الإسلامية في مصر تفعل فعلها، فلا بد لنا ان نعترف ومن باب الأمانة بحرص الأزهريين على حصانة النساء، بحيث يتنطح للتصدي لهذا الموضوع الدكتور الأزهري عزت صافي، صاحب الفتوى الشهيرة المسماة “فتوى إرضاع الكبير”، وإن يكن الخوف على حياة المسلمين سيدفع بأحد نواب “الإخوان” في البرلمان المصري علي لبن إلى الدعوة لإصدار فتوى تطالب وزير النقل بدفع ما يعادل قيمة 995 ناقة عن كل قتيل من ضحايا حوادث القطارات…!
طبعاً قد يعتبر البعض هذه الأمثلة عرَضية، وهذا خطأ لأنها إن دلت على شيء فعلى ما وصلت إليه الأمور في بلد كمصر ساهمت السلطة في خلق المناخ الملائم لنمو حمّى الفتاوى والإلغاء والتكفير والهيمنة على حياة المجتمع المصري وهي تقف موقف المتفرج والمشجع ربما عليها، وتقف مكتوفة الأيدي أمام القرار الأزهري بسحب كتاب او نشرة من الأسواق (وهذا طبيعي عند السلطات العربية القامعة للحريات).
على ان هذا النفس الإلغائي يجد صداه في سوريا، البلد الذي يبدو ان انفصاله عن الوحدة مع مصر لم يكن ليفصله عنها في هذا الموضوع بالذات، حيث ان استلهام هذا النموذج يتجلى في محمد سعيد رمضان البوطي، الشيخ المعروف والحائز رصيداً ثابتاً من الوقت من على الشاشة السورية أسبوعياً في برنامجه التلفزيوني “دراسات قرآنية”، فها هو البوطي ينطلق من الهجوم على كتاب “الكتاب والقرآن – قراءة تمهيدية” ليعتبر “كل قراءة تمهيدية هي تهديمية آتية من الغرب ويجند لذلك أناسا من أبناء جلدتنا”، ولسنا بحاجة إلى ذكاء ونباهة كبيرين لنعرف ان المقصود هو محمد شحرور الذي اتهمه البوطي بتنفيذ “بروتوكولات حكماء صهيون” والعمل لصالح جمعية صهيونية في النمسا.
وها هو يثني على تكفير سلمان رشدي وهدر دمه بعد روايته الشهيرة “آيات شيطانية”، ويصف المثقفين المدافعين عن حرية التعبير والرافضين لما حدث للكاتب بمجموعة من صعاليك الأدب، حتى نصل إلى اعتبار الإيمان بالجن والسحر ضرورة لاستكمال الإيمان والإسلام عند البوطي. فلنتأمل إلى أين وصلت الحال بالفتاوى والتخوين والموقف من الحريات والمثقفين والثقافة والخطاب الديني البائد في الدول العربية (في ما يخص محمد سعيد رمضان البوطي يمكن مراجعة كتاب عبد الرزاق عيد المعنون “سدنة هياكل الوهم – البوطي نموذجاً”، والدراسة المهمة التي نشرها محمد علي الأتاسي في “الملحق” عدد 662 بعنوان “الفقيه والسلطان”.
إسلام أم ديموقراطية؟
لو نظرنا إلى السؤال الذي كان يطرح بقوة ولا يزال: هل يتفق الإسلام مع الديموقراطية السياسية؟ فإن الجواب سينطلق من اعتبار الطرح والسؤال مغلوطين من الاساس، لأنه إنما يحيلنا على إمكان ان يتفق الدين مع السياسة وان يكون خلفية ومرجعية لها، باعتبار الديموقراطية نموذجاً من أنماط الحكم، وتندرج في سياق الأحلام والمشاريع التي نتمنى ونعمل بالفكر والممارسة لنصل إليها في عالم الاستبداد العروبي الممتد من المحيط إلى الخليج.
فباعتبار الدين مجموعة قناعات وأفكار وروحانيات يؤمن بها الإنسان، ويجد فيها تعبيراً عن راحة وانسجام مع الواقع والحياة، وحاجة ضرورية وملحة وذات طابع أفيوني بانعكاساتها السيكولوجية، أياً يكن هذا الدين، فلِمَ الإصرار على الفكرة التي صارت هاجساً وقاعدة في بلادنا والقائمة على إشكالية يرفضها المنطق العلماني ألا وهي اعتداء الدين على السياسة، لا بل واغتصابها بكل صراحة؟
لو أراد البعض الاستسلام لمنطق هذا السؤال العبثي فلن نجد رداً عليه إلا باستلهام كثير من النصوص القرآنية التي يطالب السلفيون الإسلاميون بتطبيقها حرفياً في يومنا هذا، ثم إننا لم نر حتى الآن حركة من حركات الإسلام السياسي أياً تكن أهدافها السياسية والفكرية إلا وكانت كارثية عندما وصلت الى السلطة، ولم تستطع الفصل بين ما هو ديني على مستوى الفرد وما هو سياسي ودنيوي على أرض الواقع، ولا نعتقد ان تجارب تنظيم “القاعدة” وعلاقته بالإنسانية وتعامله معها انطلقت من اعتبار الدين قناعة وحريات شخصية، كما لا نعتقد ان انقلاب “حماس” واجتياحها غزة في حزيران 2007 كان عبارة عن خلاف سياسي مع حركة “فتح”، ولا علاقة لها بنظريات حركة “الإخوان المسلمين” في فلسطين، وأن احتمالات النصر الإلهي المقبل مع المهدي المنتظر سيكون مفصولاً عن ممارسات “حزب الله” وإن دخل اللعبة السياسية والبرلمان واللبناني وهوس نظام ولاية الفقيه الإيراني بالتوسع السياسي. في العودة إلى “حماس”، لنفترض ان الديموقراطية التي أوصلت “حماس” إلى السلطة لم تتوّج بالأسلوب الذي عومل به الشعب الفلسطيني والكنائس والمدارس المسيحية من حكامه الإسلاميين، فهل كانت “حماس” لتكفل حقوق الفلسطنيين المدنية والسياسية والاجتماعية، ومن هذه الحقوق الاجتماعية مثلاً ان يتاح للمسيحيين من الفلسطينيين (ومن يشاء من المسلمين) ان يشربوا المشروبات الروحية ويمارس المسيحيون طقوس العبادة في كنائس كان لأحدها نصيب ذاخر من صواريخ الحركة المظفرة؟ باختصار: يجب الا تكون هناك مساومة على عودة الدين إلى داخل المساجد والممارسات والقناعات الشخصية البعيدة والمفصولة عن الدولة، مع التشديد على احترام حرية المعتقد والعبادة، كأي دين من المفترض ان يعود إلى الجانب الفردي وليس العام الذي سيحاول ان يصبغ المجتمع بلون واحد، وببساطة فإن الحرية السياسية (لا نعني المفارقة الديموقراطية التي أوصلت هتلر و”حماس” إلى السلطة بالوسائل الديموقراطية)، عندما تسود في المجتمعات ستكفل حقوق الأفراد في ممارسة معتقداتهم وأفكارهم الدينية وغير الدينية، فالأزمة إذاً هي أزمة غياب الحريات وبروز استبداد سياسي وأنظمة أحادية ساهم الإسلام السياسي في تكريسها احياناً، وإن يكن ابنها البار في أحيان اخرى.
وإذا صارت أمثلة قادة “حماس” معروفة ومكررة فإنها تجد مثالاً آخر يعبّر عن هذا النمط من الإسلام السياسي وعلاقته بالسلطة، احد زعماء الأفغان الأصوليين، قلب الدين حكمتيار، وهو كان من كبار المستفيدين من الدعم اللوجستي الذي قدمته اليه المخابرات الأميركية والباكستانية أثناء مواجهة السوفيات والجيش الأحمر في أفغانستان، فها هو يقول: “الإسلام والديموقراطية لا يتوافقان أو يتماشيان أحدهما مع الآخر، افغانستان ستكون دولة إسلامية متشددة، وستقوم فئة من الرجال الحكماء بتكييف قوانين البلاد مع الإسلام، وستحظر المشروبات الروحية كلها وتعود المرأة الى البيت مجدداً ويتسلم الملاوات السلطة”. فلماذا الحديث ما دام البحث عن توافق بين الإسلام والديموقراطية سيفضي إلى حائط مسدود هو التوافق بين الدين والسياسة وتدخله فيها؟ ولماذا يفترض بثنائية الأرض والسماء ان تكون بديهية ومتلازمة في عالمنا وفكرنا العربي؟
في نهاية المطاف
لم يمر التاريخ السياسي لهذه المنطقة إلا بالقليل من النماذج الديموقراطية في الحكم، وهي إن قامت في بعض البلدان فإنها انتكست وأفل نجمها ولم تكن كافية للتأسيس، وصار الاستبداد السياسي والديني هو الناظم للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، إلى جانب غياب أي مشروع نهضوي لم يتبلور أصلاً بشكل يمكن أن يؤسس لنهضة، مع قدوم الاستعمار الكولونيالي وممارسات اسرائيل واحتلالها الأراضي العربية من جهة، ونمو الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات التي قمعت الثقافة واحتمالات النهضة من جهة ثانية. لذا، فإن التطرف والعنف ونمو الإسلام السياسي والأصوليات كانت البديل من الدولة الديموقراطية المدنية، دولة الحريات المنشودة، وسيبقى العالم العربي يقبع في مستنقعه الحالي إلى أمد غير قريب، ولن يكون هناك في الأفق المنظور أي هزات بنيوية يمكن ان تحرر العقل العربي من حواجزه وقيوده التي تم تدجينه عليها على يد فكر أحادي منعنه من الدخول في عالم الحداثة والتطور والديموقراطيات والانفتاح على الآخر، وساهم في تكريس مأساة فلسطين والمشرق العربي المنكوب بالاحتلال أصلاً، والذي لا أفق للخلاص منه في ظل ما نشهده من احتلالات داخلية للدول والشعوب والعقل العربي، والقيد الذي يكبل القلم والفكرة والمفكرين ويعوقهم عن طرح مشروع نظري لنهضة حقيقية، في الفن والسياسة والأدب وعلم الاجتماع وسائر مجالات الخلق، والعمل لها على أرض الواقع، نهضة لا أفق قريباً لها في بلاد ارتبط اسمها بالاستبداد والإسلام السياسي المتطرف والاحتلال