نزاعات الهوية في القرن الحادي والعشرين
د. مضاوي الرشيد
تطلبت كتابة تاريخ العالم العربي في القرن العشرين التعاطي مع حركات تحررية استطاعت ان تطوي صفحة الاحتلال المباشر. من المغرب العربي الى العراق استطاعت قوى متعددة في ايديولوجيتها ومنابعها الفكرية ان تحشد اجماعا شعبيا خلفها وتضحي بالكثير في سبيل تحرير أرضها وارساء دعائم دولة ما بعد الاحتلال ورغم ان الارض الفلسطينية ظلت ترزح تحت الاحتلال الا ان مناطق اخرى نجحت في طي صفحة الاحتلال.
ورغم تقصير دولة ما بعد الاحتلال وغطرسة القائمين عليها قد ادت الى فشل هذه الدولة في استيعاب شرائح سياسية واجتماعية انخرطت في عملية التحرير الا ان العالم العربي تطلع في مجمله الى مستقبل تكون فيه السيادة على الارض من نصيب اصحاب هذه الارض. واذا انتقلنا الى عصرنا الحالي واستشرفنا بعض المعطيات المطروحة حاليا سنجد صورة تختلف تماما عن سابقتها في القرن المنصرم. نحن اليوم امام حالة فريدة اهم سماتها انفجار نزاعات الهوية الطائفية والاثنية والعرقية والتي لم تعد مقتصرة على الاختلافات القديمة والتي ميزت العالم العربي بتعدديته المعروفة، بل هي اليوم تنفجر بشكل عنيف في شوارع المدن والعواصم العربية من لبنان الى سورية مرورا بالعراق ناهيك عن السودان والصومال وغيره من مناطق المغرب حيث لكل منطقة نصيبها من العنف. اما المركز على الاختلاف الديني او الطائفي او الاثني او السياسي المرتبط بصراع مجموعات تنتمي الى تيارات فكرية وسياسية تقوم على اساسها بتقويض امن الدولة من خلال انخراطها في عمليات يذهب ضحيتها الكثير من عابري السبيل الذين لم ينخرطوا اصلا في هذا الصراع، بل هم ضحيته الاولى والأخيرة. لا بد لمن يكتب تاريخ العالم العربي في هذا القرن ان يتوقف عند الصراع الحالي ويتساءل عن اسبابه وتبعياته على المنطقة. من السهل ان نعلق جميع هذه النزاعات على الاحتلال الخارجي والمؤامرة وبذلك نتملص من المسؤولية تجاه خطر وان كانت له ابعاد خارجية الا انه صراع محلي تؤججه أيد محلية. لن ينفعنا التملص من مواجهة معضلة القرن الحادي والعشرين لان جيلا جديدا من المؤرخين سيحاسبنا ويفضح مؤامراتنا الداخلية على شعوب المنطقة ومساهمتنا بقصد او غير قصد على اسدال الستار وتمييع مسؤوليتنا ومجازفتنا بأمن الانسان في هذه المنطقة، تفجر نزاعات الهوية وتسييسها ظاهرة ستلازمنا خلال المرحلة القادمة وربما قد تعيد رسم خارطة العالم العربي وآمنا بها وتبنيناها دون ان تكون لنا قدرة على التفكير بها او تغييرها. من اهم هذه النزاعات الحالية معضلة انقسام العرب وخاصة في المشرق بين اكثرية سنية واقلية شيعية. يعتمد هذا الانقسام على خطوط تاريخية قديمة استطاعت ظروف المرحلة الحالية ان تعيده كخط تماس يصعب اختراقه. فنتصوره حدودا كجدار عازل يفصل بين معسكرين كل معسكر ينتظر خلف صلابته زلات المعسكر الآخر ويؤجج كل طرف من جهته النار ويقذف بحمم تستطيع وحدها ان توفرت لها الظروف الملائمة ان تجر المنطقة الى حرب جديدة طويلة الامد تكون قدرنا الى اجل غير مسمى وسمتنا حتى اشعار آخر. بالطبع ننسى هنا ان الواقع العربي لا يمكن تصنيفه وتقسيمه الى كتل متجانسة منصهرة لا تجمعها سوى عصبية الطائفة ولا تستطيع ان تتنفس الهواء الا اذا كان مباركا من قبل قيادتها ومن نصب نفسه متكلما بإسمها. تتوارى هذه الكتل خلف خطوط وهمية فتضفي على نفسها وحدة زائفة وتتصور نفسها مستهدفة من المعسكر الآخر ومتلقية لعملية تهديد لوجودها وفكرها وثقافتها وطقوسها وحتى عقيدتها. ويساعد تقلص الدولة وفشلها في استيعاب تعددية مجتمعها وتوفير ابسط انواع المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية في التمترس خلف معسكر الهوية اذ ان ذلك يمكن الجماعات من الحصول على بعض الحقوق والخدمات. فيذوب المواطن العربي في سياسة المجموعة وضغطها لما توفره له من حقوق جماعية. ويفقد بذلك حقه الفردي كمواطن وان اندلع العنف بين هذه الجماعات يكون هو ضحيتها الاولى والاخيرة. وطالما ان المواطن قد فشل في انتزاع حقوقه الفردية التي هي من حقه كانسان وليس كفرد منتم الى هذا المعسكر او ذاك ستظل نزاعات الهوية متأججة وملتهبة في منطقة فشلت فشلا تاما في تنمية الحق الشخصي بالحياة والحرية والكرامة والامن الاقتصادي. وطالما ظلت الدولة دولة فئوية تنمي مصالح المرتبطين بآلتها العسكرية والادارية ومواردها الاقتصادية فستظهر مجموعات تتمترس خلف جدار الهوية كوسيلة ضغط جماعية لتدخل في حلقة الدولة كمجموعة متجانسة ومتكاملة ولكن الواقع يثبت أنها غير ذلك. تحاول هذه المجموعات ان تتخلص من اقصائية المركز السياسي وقمعه وتهميشه ولكنها تستبدل واقعها الحالي بواقع لا يختلف تماما عما سبق لانها فقط تتهرب من قمع جماعي مسلط عليها من الخارج الى قمع داخلي يسلطه عليها ابناء جلدتها والمتكلمون باسمها. ولقد حاول الكثير من هؤلاء اسكات الاصوات المختلفة والمتباينة داخل المجموعة وخاصة تلك التي لا تبدي استعدادا اعمى للسير وراء التيار وتبني مصطلحاته وحالة الهستيريا التي تنتابه بين الحين والحين. وان خرج احدهم منددا بهذه الهستيريا نراه يقذف بابشع الصور ويتهم في ولائه وانتمائه لمعسكره الجماعي، بل انه يوصم بالخيانة للمجموعة والعمالة للطرف الآخر.
نمر اليوم بمرحلة حرجة ونجد انفسنا على مفترق طرق. اما ان نتوارى خلف جدارنا العازل ونختبئ في ظله معلقين بذلك عضويتنا في مجتمعنا الكبير وإما ان نقاوم فكر المعسكرات واسلاكها الشائكة. ان كان خيارنا هو الاول سنشارك بارادتنا في التقوقع والفتنة وسنحصد نتيجة خيارنا هذا مزيدا من العنف والجريمة العمياء اما ان اخترنا مقاومة المعسكرات الوهمية فسنكون قد شاركنا ولو بشكل بسيط في هدم المتاريس المنصوبة حولنا.
مشكلتنا في العالم العربي ليست مشكلة تعددية دينية او اثنية او عرقية اذ اننا عرفنا هذه التعددية منذ ان بدأنا تدوين تاريخنا ولا نختلف بذلك عن بقية دول العالم ومناطقه ولكن ما نختلف به هو فشلنا في تطوير هذه التعددية لتصبح سمة حضارية وليست همجية عمياء. لقد فشلنا في استحداث اطار سياسي مؤسساتي يضمن لهذه التعددية حق التعايش والتواجد على ارض واحدة، حيث ينعم الجميع بتوزيع عادل للموارد والثروات والادارة والتنمية. ومن اخطر ما فشلنا فيه هو انعدام ثقافة الحقوق الفردية والشخصية واستبدلنا هذه الحقوق بالحقوق الجماعية او بالاحرى العقاب الجماعي لمجموعات نشاركها انسانيتها رغم اننا قد نختلف عنها في جزئيات بسيطة تضخمها سياسة المعسكرات وتجعل منها قضية العصر. ان كان هناك نزاع هويات في العالم العربي فهو نزاع سياسي له ابعاد اقتصادية بالدرجة الاولى. وان لم تحل المعضلة السياسية ستبقى الهوية نعلق عليها آمالنا وطموحاتنا ومشاكلنا ونعتقد انها المحرك الاول والاخير لوجودنا. ما اسهل ان تعترف السلطة بخصوصية معسكر ما وتحتفل بطقوسه وشعائره ولغته وفولكلوره الشعبي وحتى الديني. فمهرجانات الهوية سهلة التدبير قليلة التكلفة لكنها تظل مهرجانات وهمية ان لم تتزامن مع نقلة نوعية في الممارسة السياسية وعملية تثقيفية تنمي ثقافة الحقوق الفردية لتصبح المحور الاساسي في اي عملية ضغط لانتزاع الحقوق. وما فائدة الاعتراف بفولكلور الهوية وطقوسها ان كانت البطون خاوية والكلمة الحرة مصادرة والقرار معطلا والانسان مشلولا؟
نحتاج اليوم الى استبدال خطابات المعسكرات الجماعية بخطاب اكثر وعيا ودقة ينقلنا من حالة التشرذم والتشظي الى مرحلة سياسية جديدة علها تنتشلنا من خطر المرحلة القادمة والذي بدأت بوادره بالظهور وبشكل علني ومفضوح. التهويل والصراخ ان أتيا من المجموعة الكبيرة او من الصغيرة لن يعجلا الا في انزلاقنا الى متاهات القرن الحادي والعشرين. وسيساعدنا في ذلك مناخ عام عالمي ومحلي يهيئنا لحروب مفترسة قادمة. انها مسؤولية لا تقع فقط على قيادات العالم العربي ومفكريه بل هي مسؤولية فردية لا بد ان نبادر الى التقاطها حتى نتصدى لنزاعات وهمية صورت وكأنها ازلية ومعركة بدأت ولن تنتهي الا بنهايتنا.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي