فلسطين ليست قضية مركزية
دلال البزري
صار للتضامن مع الفلسطينيين ضد الهمجية الاسرائيلية تقاليد راسخة. كذلك غرَقنا في دائرة جهنمية اسمها المقاومة المسلحة والرد الاسرائيلي غير المتوازن عليها: صاروخ غير مصوّب يستهدف مدنيين، تقابله مجازر وعقوبات وحصار. فنبدو بموجب هذا التقليد وكأننا امام جرائم اسرائيلية لم تحصل من قبل:
نفاجأ اشد المفاجأة من الوحشية الاسرائيلية المدمّرة! كأننا نطلب من هذه الدولة المعسكرة ان تنزل من علياء انجازاتها العسكرية التاريخية؛ وترد مثلا على سقوط صاروخ في احدى مستوطناتها الحدودية بصاورخ او صاروخين من العيار نفسه وتصوّب صاروخها قصدا بنفس التصويب الخاطىء الواقع على هذه المستوطنات!؟
لا نكتفي بهذه الحماقة. بل نبالغ: بقدر ما نعبّر عن قوة مفاجأتنا بهذه الوحشية الاسرائيلية، نسجل بذلك درجة «وطنيتنا» وبالتالي «تضامننا». وعندما تنتهي المجزرة نعود الى سُبات المقاومة، نصنع لأنفسنا مفاجأة جديدة!
ومن التقليد ايضاً، ان اللسان العربي التضامني مع فلسطين له جعبته المحدّدة من الأفعال والكلمات: تظاهرات حاشدة. اسرائيل رمز الشر المطلق. استنكار وتنديد واتهام العرب. الحكام العرب. الدول العربية. النظام السياسي العربي. اين العرب؟ اين الحكام العرب؟ على صمتهم وتخاذلهم وتقاعسهم وتآمرهم وخيانتهم. ويرتفع سقف الوعيد والاهداف، وعدم القبول بأقل من ازالة اسرائيل. و»خيبر خيبر يا يهود…!». ودماء الغزاويين تنزف…
ولكن يجب ان ننتبه. ان هذه الواجهة من التقاليد الراسخة لا تعكس واقعاً. وليست بالتالي تجسيداً للشعار الملازم لهذا التقليد: ان فلسطين قضية العرب المحورية، قضيتهم المركزية. وان كل القضايا الاخرى «متفرعة» عنها. فهذا الشعار يسحبه محللون وسياسيون من جعبتهم النضالية كلما لاحَ في الأفق الفلسطيني مجزرة او دمار. ولا يفعلون بذلك إلا اضفاء الشرعية على تقاليد تعاملنا مع العسكريتاريا الاسرائيلية. دائما… كأننا أولاد امس.
والحال ليس مطابقا لما تحاول ان تثبّته هذه التقاليد من صورة مغلوطة عن واقعنا. القضية الفلسطينية ليست قضية مركزية. بل تحولت مع الوقت الى ذريعة يستخدمها بمهارة الخصوم المحليون والاقليميون ضد بعضهم، قبل عدوهم. تحولت القضية الى ذريعة. والذريعة ترسي قوانين الصراع مع الخصوم. الذريعة اصبحت أقوى من القضية: عصمة في يد مستخدمها. مثل الاضافة الثقيلة في ميزان القوى المحلي. و«النصر الالهي» على اسرائيل في لعبة النزاعات المحلية وليس لتحرير اهل فلسطين، أو غزة، من الخناق المحكم عليهم.
بوم الاحد الماضي كان يوم الذروة في التضامن مع اهل غزة: اليوم الاخير الذي يمكن ان يبدو وكأنه يوم ضغط لوقف المجازر ضدهم. كانت دعوى في بيروت للإعتصام تضامنا معهم. واستنكار للمجازر. لم يلب الدعوة اكثر من عشرات. بل تفرّق عدد من المشاركين بسبب عدم موافقتهم على الشعارت التي اطلقت. فكان السؤال طبعا عن هزال هذا العدد، عن قلّة الحشد. وكذلك عن تناثر «المتضامنين» القلائل بين بوابة فاطمة بدعوة من «حزب الله»، فضلا عن بعض عبارات الاستنكار خلال احياء حركة «أمل» لذكرى اربعين الحسين في احدى قرى الجنوب.
ولكن اللافت في ذاك اليوم الاخير لجولة المجازر المفترض بها ان تحيي «مركزية» القضية الفلسطينية، ان اجندة اللبنانيين السياسية كانت زاخرة بأنشطة «غير مركزية»: مسيرة في صيدا في الذكرى الـ 33 لإغتيال الزعيم الشعبي الصيداوي معروف سعد نظّمها «التنظيم الشعبي الناصري». واحتفالات ومسيرات لـ»الحزب القومي الاجتماعي» في شتورا، في ذكرى ولادة مؤسسه انطون سعادة. مهرجان «العودة ونصرة غزة» في الذكرى الـ 60 للنكبة الفلسطينية والذكرى الـ 33 لتأسيس «الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين» في قصر الاونيسكو. وفي احد شواطىء بيروت، الرملة البيضاء، عدد من الشباب اليساريين يحرقون مجسّما للمدمرة الاميركية «يو اس اس كول» ويرفعون أعلاما لبنانية. وفي الصيفي، بعيداً قليلا عن نفس هذا الشاطىء، مئات من الاكراد يتظاهرون لإنقاذ عبد الله اوج ألان، زعيم «حزب العمال الكردستاني» من التسميم المنهجي في السجون التركية. ثم هناك احياء الذكرى الاربعين لاستشهاد الرائد في فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي وسام عيد. والداعية الاسلامي فتحي يكن يوجه نداء الى «السنة من 14 شباط» (أي 14 آذار) يدعوهم فيه الى تحمّل مسؤولياتهم الشرعية الجهادية… صدق او لا تصدق… هذا عن يوم واحد. وفي غالبية القضايا ذريعة فلسطينية قوية تبنى عليها الامجاد، مع كلمة من أجل اهل غزة هنا وهناك.
في كلي الطرفين اللبنانيين المتخاصمين، بدا ان القضية المركزية ليست القضية الفلسطينية. للطرف «المقاوم» الذي يحشد عشرات الآلاف لتشييع عماد مغنية، ويكتفي ببضعة مئات على الحدود. لا قراره فلسطين ولا كادراته لُقنوا أولويتها. ولا قاعدته عبئت على هذا الاساس. ولكن لا ضير ان يقود علي خامنئي جوقة الراجمين بالعرب وحكامهم، بـ»إستنكاره الصمت العربي حيال غزة». فالكلام هنا موجّه الى غير غرضه الحرفي: المزيد من التفتيت والشق للموات العربي بمد الاذرع الايرانية الطولى على جثة الفلسطينيين. والخطاب الشرعي هو: دعم قضية فلسطين.
اما جبهة المعادين للعمل المسلح ولفعل قتل الاعداء باعتباره «مقاومة»، فلا يجدون انفسهم وسط الجمهور المتضامن مع غزة، ولو لأسباب انسانية. وقد اصبح هذا الجمهور اصوليا على طريقته… فوق ميل معظمه الى الاصولية الدينية.
ضاعت فلسطين من زمان بين ايد سياسية ماهرة ومتلاعبة. وتقودها اليوم اياد اخرى لا تقل عن سابقاتها مهارة وتلاعبا. بقرة حلوب لكل اصناف الامجاد المزيفة. ومن نتائج هذا الضياع ان حياة انسانها لا يعبىء طاقات وقف آلة قتله. بل ان حماتهم المفترضين يؤججون المزيد من الاندفاع الاسرائيلي المجنون. اذ ها هو اسماعيل هنية، يعلن، على غرار حسن نصر الله، انه انتصر على الاسرائيليين في غزة… من انتصار، إذاً، الى انتصار. هكذا نمضي، بحسب التقاليد.
الحياة – 09/03/08