عشق الحروف
سأكتب. اشتقت الى الكتابة. اشتقت الى الحروف تتلاعب أمامي وتتشكل، والى ذاك الصوت الذي يتصاعد من بين الحروف شادياً أو باكياً، عالياً أو خفيضاً، آمراً أو مستعطفاً. اشتقت الى عناق الحروف وولادة المعاني من شبق الكتابة. ما الكتابة؟ بصر أم سمع أم لمس للحروف؟ ما الكتابة؟ تشكيل راقص لأصوات وأنغام أم انفتاح ذهن ومعادلات عقلية؟ ما الكتابة؟
سأكتب. سأتراقص أنا وكلماتي وحيدتين من غير معنى. سأمارس حبّاً معلناً وسرياً. سأعانق الألف والميم والياء، لأحيا معها من جديد. سأعانق الحاء والباء وبهما سأغلب سطوة الطاء إن سطت، وقمع القاف إن قمعت. سأذوب في لين النون حين تكون أنثى دهرية، وسأعانق الجيم منتصفةً ما بين الراء واللام حتى تصير مولدا للكلمة. وسأجرّ ورائي الكاف والفاء والراء والذاي والصاد لاهثة لصلة او لاتصال تقيمه الهاء مرفوعةً أو منصوبةً ولا يسعها إلا الإنكسار في جرِّها.
سأكتب. سأخلد إلى خرير الخاء الخريفية حتى تحملني الحاء في الحلم حضناً حريرياً يعلو على وعيي الناعس عابثا في طفولتي يطل فيها وجهها من وراء حجابها مناديةً إياي. آه لَكَم وددت لو أجيب. لكن الياء! الياء! من أين آتي بالياء وبها إني وأنا من دونها؟ الياء، الياء، أريدها لي وحدي. كيف لي بها وهي تغيب من غير رحمة؟ الحاء والزاي والنون تلفّني. ولا إيقاع يبعث في الآذان نغمة. أهرب من حروفي فأجدني أركض نحوها، وهي في اللامكان تهيم.
سأكتب. بالشين والواو والقاف أنا مسكونة، وبالتاء والياء والهاء أهيم. أنسيت الضاد في حضنها أم الضاد تشتاق إلى ميمها؟ ماذا أفعل وبعض الحروف تعصى على صوتي؟ كيف أرقص ومن غير الصاد أرَقٌ؟ ومن غير الصاد لا صبر وليس إلا البِرّ بها؟ الهاء هي. وكل الحروف هاء. والهاءات نشيج جوّاني.
سأكتب. وحيدة من غير معنى. معها الحروف كلها. ولا صوت بقي لي. وليس للميم والواو والتاء إلا معنى واحد وإن بذلت الجهد فليس يجدي.
سأكتب. سأرمي الحروف حرفاً حرفًا. هنا القاف، قلبها. هنا العين، عينها. هنا الحاء، حضنها. هنا الباء، بيتها. هنا الصاد، صدرها. هنا الدال، دفئها. هنا اللام، لمستها. هنا الشين، شوقها. ولا ميم، لا ميم قط… ومنديلها؟ سأرميه في الهواء. لا ميم. حروف من غير ميم، من غير موت، ولكن من غير أمي أيضا. لا معنى.
***
ما لي أذهب إليها وكنت أودّ الرقص والكتابة؟ عذرا فأنا وحروفي نتشابك الآن، نفتش عن صوت، عن موسيقى تحمل جسدينا على راحتيها برفق، ترفعنا عالياً، ترمينا ثم تلتقطنا من جديد، تدور بنا. أنا وحروفي نلتفّ على جسدنا، ندور وندور. وعلى وقع أقدامنا يصعد ارتجاج ما. يتحرك معنى. ثمة صوت. ثمة موسيقى. أنا وحروفي نرقص. أنا وحروفي نغنّي. من دون معنى. لا نريد معنى. نريد صوتاً. نريد موسيقى. الألف واللام والحاء والباء تكفينا من غير صلة أو اتصال. حبال الحب حبلى. لا معنى. وأنا وحروفي لا نريد معنى، نهرب من الكلمات، نهرب من الصلات. نختبئ خلف الحركة فلا يعرفنا أحد. نضحك في سرّنا ونخبئ وجهنا صغاراً وحين يكتشفنا أحد نرفع أيدينا عن وجهنا. لا أحد. لا معنى.
***
ألف ونون وألف. ليس سوى ذلك. أنا وحروفي. أنا أو حروفي؟ هل لي أن أختار؟ إن كان لي سأختار أنا ولتمت الحروف كلها. لتحترق الالف والنون كلها، ولأبقَ أنا امرأة من غير حروف. لأنتثر هكذا في الحياة أعبّها وتعبّني. عرفت المعاني كلها ولم أعرف شيئا. فلماذا الحروف؟ أنا يكفيني حفيف، لمسة، آهة، أو نظرة.
ألف ونون وتاء. أنت. من أين لي إياك إن الحروف رميتها؟ أعجن الصوت والحس وأصنع بهما لمسة، نغمة. وأرقص من غير حروف. على هدي شاراتك أتمايل. راقصة أنا والمعاني تطلع من حركة جسدي، من تطاير شعري، واحتكاك الهواء بجلدي. لا حروف احتاج اليها. أنت وأنا زمن لا كلمة. لحظة لحظة نكبر. حرفا حرفا يغيب الآخرون. الصوت لنا ولهم الحروف.
سأكتب. من غير حروف. إسمع. هذه الألف، والباء، والتاء، والثاء… والياء، لن أجمعها ولن أرفعها ولن أضمّها. سأرميها حرفاً حرفاً، ومن بين أصابعي ستطلع كلمات سحرية من غير حروف. حفيف، لمسة، آهة أو نظرة. إسمع، ارتفاعي وهبوطي، دوراني وتوقفي، حركتي وسكوني.
ها أنذا أكتب… إقرأ.
النهار