من هو الوطني
عباس بيضون
في لغتنا العربية تبدو كلمة «وطني» قيمة. إنها لا تقرر واقعاً لا يد لأحد فيه. كأن تكون هذه الملابس صنعت هنا فنقول إنها وطنية أو كأن يكون الفريق الرياضي من هنا فنقول إنه الفريق الوطني، أو كأن يكون العرق مشروباً متداولاً بكثرة فنقول إنه وطني وربما قيل الشيء نفسه في الشاي.
ويمكننا قوله في تفاحنا ومطبخنا بالقدر نفسه الذي نقوله في سياسيينا ومخابراتنا وجيشنا إنها جميعا وطنية ولا يعني هنا سوى تقرير حال لا رجوع عنه. عندنا تقول في رجل في معرض المديح. وتقال في سياسي للثناء عليه وتقال في مؤسسة على سبيل تحصينها من النقد وفي الفريق الرياضي ليكون مفخرة، وفي الرئيس على سبيل التمجيد وفي الجيش على سبيل الثناء وعلى هذا فقس، ذلك أن المولود هنا لا مجال للشك في أنه كذلك لكن يمكن الشك مع ذلك في وطنيته، على السبيل ذاته يمكن أن يقال في السياسي إنه لبناني لكن هذا لا يشمل وطنيته إذ لا نصفه بها إلا ونحن نضيف صفة أخرى للبناني، بمعنى أن اللبناني قد يكون وطنيا وقد لا يكون.
في مجال السياسة نسمع سياسيين يستبقون شيئا ما بالقول إنهم وطنيون، ونسمع سياسيين أو مشتغلين في السياسة يعترضون على غيرهم، بالتقليل من «وطنيتهم»، لا يكفي أن تولد في بلد لتكون وطنيا. الولادة والانتماء غير الوطنية، على العكس من ذلك تستدعي الولادة وطنية صاحبها وتضعها على المحك، ما يعني أن الوطنية امتحان آخر غير الولادة بل إن الولادة تفرض الامتحان الثاني، الناس جميعا عرضة لهذا الامتحان وليسوا جميعا ناجحين فيه، بل يرجح أنهم ليسوا كثيرين من ينجحون، فالوطنية قيمة ثانية وهي قيمة صعبة، وبشروط لا تتوفر بسهولة ولا يمكن اجتيازها بمجرد الرغبة فلا بد من التدليل على استحقاقنا لها، ولا بد من التدليل على أننا نملك مؤهلاتها.
الناس إذاً بهذا المقياس صنفان، واحد مولود هنا بدون أن يكون وطنيا، وواحد مولود هنا لكنه وطني، إنهما صنفان بينهما فارق واسع شاسع، بل بينهما في غالب الأحيان خصام وعداء وليس من المستبعد أن يكون الحرب أو شبهها بينهما، فالوطنيون أخيار ويعملون من أجل وطنهم ويخلصون في عملهم ولا يقدمون على وطنهم شيئا إنهم بالطبع لا يساومون على مبدأهم ومن المؤكد أن ما يعملون هو الصواب وهو ما يحتاجه الوطن، أما غير الوطنيين فموصوفون بكل شيء. فهم أشرار بالطبع وهم يقدمون مصالحهم على مصلحة بلدهم ولا نأمن من أن يفعلوا أي شيء ليصلوا الى ما يريدون. إنهم جشعون بالطبع ولا قيمة لديهم، وقد يتآمرون على بلدهم وقد يخدمون الأجنبي إذا كان في هذا فائدة، وقد يخونون ويتجسسون. إنهم أهل لكل ذلك وينبغي أن نعاملهم سلفا على أنهم غير مخلصين ولا نستبعد خيانتهم، الناس بحسب الوطنية صنفان، صنف مخلص وصنف مستعد للخيانة، وليس بين الصنفين إلا ما بين الخير والشر. إنها حرب وصراع وقد يغدو العنف حكماً وقد تسيل الدماء، لا يخاف الوطنيون بالطبع من إسالتها فالوطن فوق كل شي. فوق الجميع، وفي سبيله يهون كل شيء.
لكن من هو الوطني، بالأحرى من يحدد الوطني ومن يصنف الناس وطنيين وغير وطنيين، إنه بالطبع ليس الشخص نفسه، ثمة من يمنحون أنفسهم أو يمنحهم آخر حق التحري والتحقق والحكم والقرار، لا نعرف بالطبع من أين استمدوا هذه السلطة، بل لا نعرف فعلا من يملك حق منحها، وما هي ركيزة هذا الحق، يملك البوليس أو المخابرات حقا كهذا باعتبار أنهما سياج الدولة ومن واجبهما التحري، هل هو بالدرجة الأولى ملك للدولة أو المعارضة، ما هي شروط الوطنية، أن يحب المرء وطنه بما في ذلك الشغف العظيم بمساوئه وإخفاؤها عن عيون الأجانب الذين لا بد أن يستغلوها ضده، ما هي شروط الوطنية أن نكره الآخرين والأجانب من كل صنف وأن نعتبرهم جميعا مريبين، وأن نخاف كثيرا من عيونهم وكاميراتهم ما هي الوطنية إذاً.